لا تزال التساؤلات تدور حول انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) العراقية، وما أنجزته من نتائج على أرض الواقع السياسي والاجتماعي في البلاد، في حين يرى مثقفون عراقيون كثيرون أن الانتفاضة ساهمت في خلق متغيرات كثيرة على مستوى الوعي الاجتماعي.
انعطافة في الوعي
بعد عام على انطلاق الانتفاضة، يبرز سؤال مُلح عما إذا كانت الانتفاضة العراقية قد مثلت انعطافة في وعي المجتمع العراقي ستؤسس لتغيير ملحوظ، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على مستوى المجتمع وتفاعله مع القضايا الوطنية.
وقال الأكاديمي والناشط البارز فارس حرام إن “ثورة تشرين وعدتنا أحداثها بالكثير نحو تحقيق انعطافة في الوعي العراقي، فهي في العمق تمثل بوادر واضحة، ليس في مجال التغيير السياسي فحسب، وإننا على المستويين الاجتماعي والثقافي، والعراق بحاجة ماسة إلى أن تترسخ هذه البوادر”.
وتحدث عن “مؤشرات عدة لإمكانية حصول انعطافة في الوعي العراقي، قد تصل، إذا استمرت وتيرتها بالتصاعد، إلى مستوى الثورة الاجتماعية حقاً”، لافتاً إلى أن أبرز هذه المؤشرات “تمثلت في وضوح فكرة الوطنية العراقية بشكل جلي في الثورة، واستعصاء الشباب على محاولات استعادة الاستقطاب الطائفي، وتفاعلهم مع جميع القضايا المناطقية بوصفها قضايا وطينة، فضلاً عن دور المرأة كرائدة في الاحتجاج”.
وتابع أن “ثورة تشرين شكلت نوعاً من التضامن الاجتماعي العابر للفروق الطبقية، فضلاً عن فعاليات أخرى مثلت بوادر تأسيس قيم جديدة للمجتمع”، مضيفاً أن “كل تلك التمثلات ستؤسس لانعطافة كبيرة في الوعي إذا تم ترسيخها”.
تشرين ودور المثقفين
وتتباين الآراء حول دول المثقف في الحراك العراقي، وما إذا كان فاعلاً فيها أم متفاعلاً معها. ففي حين يرى أكاديميون أن لحظة انطلاق الانتفاضة كانت امتداداً لسنوات طويلة من تأسيس النخب لثقافة الاحتجاج، يعتقد آخرون أن المثقف كان معزولاً عن ريادة التظاهرات الأخيرة، التي قادها وأسس لها في الغالب شبان المناطق الفقيرة وطلبة الجامعات.
وفي هذا الشأن، يشير حرام إلى أن “تشكل الوعي كان تدريجياً، بدأ منذ أن باشر المثقفون بفاعلية بانتقاد النظام السياسي في بدايات تأسيسه عام 2003، مع تأشير الإشكالات المعقدة في هذا النظام عبر الاحتجاج وتنظيم أنشطة مختلفة وصولاً إلى لحظة تشرين”، مبيناً أن دورهم كان واضحاً من خلال “الفعاليات والحراك الثقافي خلال السنوات التي سبقت الثورة، فضلاً عن مساهمة بعض الإعلاميين والبرامج التلفزيونية والأعمال الفنية بخلق وعي سياسي واجتماعي جديد”.
ويختم حرام قائلاً إنه “من الخطأ تجريد المثقف من دوره في تشكل الوعي الاحتجاجي، لأن أي قارئ تاريخي منصف للمرحلة سيجد من دون عناء دور المثقف المهم والحيوي في صياغة مطالب التحركات المتتالية منذ سنوات، وصولاً إلى مطالب ثورة تشرين بواقعية ونضج، وكان دور النخب واضحاً في التأشير على الإشكالات ورسم خريطة طريق تمثل الحلول الواقعية للمعضلة العراقية”.
في المقابل، يعتقد الباحث في الشأن السياسي عبد الله ناهض، أنه على الرغم من ضرورة أن يكون للمثقفين دور في الشأن العام، فإن “موقف العديد من هذه الفئة من تشرين كان سلبياً وغير مؤثر، فضلاً عن تخادم بعضهم مع السلطة”.
ويتابع أن “شرائح الثورة الرئيسة كانت من الطبقات البسيطة، من الشباب الفقراء والبسطاء، ومن يقطنون المناطق الفقيرة والهامشية، وكذلك جزء من الفئات الطلابية، أي إن المثقف العراقي لم يكن له دور قيادي فيها، بل على العكس كان الكثير من المثقفين مترددين في بدايتها”.
التحرر من سلطة الرمز الديني والسياسي
يبدو أن انتفاضة أكتوبر كما يراها باحثون، مثلت حدثاً فارقاً في التاريخ السياسي المعاصر للبلاد، كان واضحاً في الانعطافات العديدة التي أحدثتها في الواقع العراقي بشكل عام، سواء على الصعيد الاجتماعي، أو في سياق التفاعل مع الحراك السياسي.
ويرى ناهض أن “ثورة تشرين ستكون مرتكزاً لكل الأحداث السياسية والتقلبات الاجتماعية المقبلة، لا سيما أنها دحضت فكرة عجز المجتمع العراقي عن التغيير”.
ولعل التحرر من “سلطة الرمز الديني والسياسي”، بحسب الباحث، كان المثال الأبرز على سلسلة التحولات التي أحدثتها الانتفاضة في الوعي العراقي بشكل عام.
ويشير إلى أن واحدة من دلالات التغيير الذي أحدثته الانتفاضة “تفاعل أغلب السياسيين مع الذكرى السنوية لها، على الرغم من كونه يمثل نوعاً من البراغماتية السياسية، فإنه يعني فرض تشرين لقواعدها على الطبقة السياسية التي كانت تتهمها بالعمالة”.
وبشأن التحولات في الأداء السياسي بعد الانتفاضة، يلفت ناهض إلى أن “ملاحظة أداء البرلمان ومخاوف الكتل من التجاوز على مطالب المحتجين، وتغير الخطاب الرسمي للدولة على المستوى الإعلامي والسياسي، يعدان دلالة واضحة على ما أحدثته تحركات الشارع من تبدلات كبيرة”.
الحراك الثقافي والاجتماعي قبل انطلاق الانتفاضة
في السياق ذاته، يرى الباحث الاجتماعي علي كريم السيد، أن “دور المثقفين كان حاضراً من خلال تشكيل النخب المثقفة وعياً احتجاجياً لدى الجمهور، لكنه لم يكن حاضراً في انطلاق الثورة، بل كان متأثراً ومشاركاً بها”، مستدركاً “لا يمكن فصل ثورة تشرين عن الحراك الثقافي والاجتماعي في السنوات التي سبقت انطلاقها، من حيث إنه أسهم في التأسيس لثقافة الاحتجاج”.
ويعتبر أن التحول الذي حصل في أكتوبر تمثل بـ”انتقال ريادة الاحتجاج من النخب المثقفة إلى الشباب بمختلف طبقاتهم”.
ويلفت إلى أن “تشرين كسرت احتكار تنظيم الاحتجاجات بالنخب الثقافية، أو المنظمات الاجتماعية، أو القوى السياسية، ونقلت المبادرة إلى الشارع العراقي، وهذا ما سيؤسس لانعطافة كبيرة في الوعي الاحتجاجي في البلاد”.
وتظهر دلالة تمثلات الوعي في موجة الاحتجاجات وفق السيد، في كونها “لم تستهدف إسقاط النظام على الرغم من مُناداة بعض الجهات بذلك، وكانت غايتها الإصلاح، وليس تسلم السلطة”.
الفن وانعكاسات الانتفاضة العراقية
أما في الفن، فقد كانت انعكاسات الانتفاضة واضحة، فعلى الرغم من الحضور الواسع للفنانين العراقيين في ساحات الاحتجاج، فإن اللافت تمثل في الحضور الكبير للأعمال الفنية التي تناولت محطات التظاهرات العراقية وقضاياها.
وركزت برامج فنية كثيرة على الفعاليات الفنية والثقافية داخل ساحات الاحتجاج، في حين كان أثر الانتفاضة واضحاً في أعمال تلفزيونية عدة، منها “كما مات وطن”، وبرنامج “ولاية بطيخ الساخر”، وبرنامج “البشير شو”، وغيرها من البرامج.
ويرى الفنان المسرحي وأحد ممثلي برنامج “ولاية بطيخ”، تحرير الأسدي، أن “الفنانين كان لهم دور كبير وحضور لافت في انتفاضة تشرين، لكن ضغط النظام السياسي أسهم في عرقلة حرية التعبير حتى على مستوى الفن”.
ويضيف “لم يكن العمل محصوراً في التلفزيون، بل إن النتاج الفني كان حاضراً في التظاهرات من خلال مسرح ساحة التحرير، في محاولة لتعزيز الوعي لدى المحتجين، وترسيخ بطولات الشباب وثورتهم”.
ويشير ختاماً إلى أنه “على الرغم من الضغوط السياسية والاستهدافات التي طالت فنانين في فترة الانتفاضة، فإننا مستمرون في تجسيد الانتفاضة في أعمالنا الفنية”، مشيراً إلى أن “دور هؤلاء مستمر في محاولة خلق وعي، بالإضافة إلى كونه وفاءً للانتفاضة ودماء الضحايا”.
أحمد السهيل
اندبندت عربي