الجائحة التالية .. من أين تأتي وكيف نوقفها؟

الجائحة التالية .. من أين تأتي وكيف نوقفها؟

تمشي يانثي نوبل عبر الغابة المطيرة بحثا عن جثة. وصلت تقارير إلى المخيم عن موت فيل، راقد في جدول، وتتمثل مهمتها في معرفة سبب مقتله. ليس الصيادون غير القانونيين هم ما يقلقها – فهم نادرون بشكل متزايد هنا في “محمية دزنجا سانجا الخاصة” في جمهورية إفريقيا الوسطى. بل هي مسببات الأمراض.
عندما عثرت هي وزملاؤها على الفيل الميت، اتضح أنه طفل رضيع أقل من عام. ترتدي نوبل ملابس واقية كاملة – مريلة، ودرعا للوجه، وقفازات – وتبدأ في أخذ العينات. “الجمرة الخبيثة شائعة جدا هنا”، كما تقول، مشيرة إلى البكتيريا القاتلة التي تعيش في التربة باعتبارها أحد الجناة المحتملين. أخبرتني عبر سكايب، حين عادت إلى المخيم: “يمكن أن تكون والدته قد تعرضت لعملية صيد غير مشروع”.
نوبل، وهي طبيبة بيطرية وطالبة دكتوراه في علم الأوبئة، جاءت إلى دزنجا سانجا لدراسة الفيروسات، خاصة في الخفافيش والقوارض. لا تكون الأفيال عادة جزءا من الوظيفة – لكن عندما يعثَر على حيوان ميت في الغابة، فإنها دائما ما تقوم بإجراء تشريح. إذا كان سبب الوفاة غير واضح، ولم تظهر أي من مسببات الأمراض المعتادة في المختبر الميداني، ترسَل العينات إلى مختبر أكبر في ألمانيا. تقول: “نحن نبحث دائما عن شيء جديد”. في المختبر الأكبر، تختبر العينات بحثا عن فيروسات غير معروفة – مسببات أمراض لم تشاهد من قبل.
البحث عن فيروسات جديدة يصبح أكثر صعوبة خلال جائحة فعلية، لكنه لم يكن أكثر أهمية قط مما هو عليه اليوم. هذا العام تسبب كوفيد – 19 في تدمير أو إضعاف بعض أقوى الدول في العالم. مثل معظم الفيروسات البشرية الجديدة الأخرى، فإن فيروس سارس كوفيد 2، الذي يسبب كوفيد – 19، حيواني المنشأ: فهو ينتقل من الحيوانات إلى البشر. في هذه الحالة، ربما من خفاش إلى شخص، أو من خلال حيوان وسيط.
تقول نوبل، التي تدرس في مختبر لينديرتز التابع لمعهد روبرت كوخ، المتخصص في بيئة الأمراض الحيوانية المنشأ: “بصفتي طبيبة بيطرية، فأنا مدربة أصلا على رؤية خطر انتقال العدوى من الحيوانات إلى البشر”. وتضيف أن كوفيد – 19 وضع هذا في دائرة الضوء. “يستيقظ الناس على قصة كانت موجودة من قبل”.
لأعوام، خطط علماء الأوبئة ومنظمة الصحة العالمية لظهور مرض غير معروف – يشار إليه غالبا باسم “المرض X”. سيكون شديد العدوى، ولم يتم التعرف عليه من قبل ويسبب وباء دوليا كبيرا.
بعبارة أخرى: مرض يشبه إلى حد كبير كوفيد – 19. لكن على الرغم من أن الجميع كان يعلم أن شيئا كهذا قد يأتي، لم يعثر عليه أحد إلى أن أصاب الفيروس بالفعل عشرات الأشخاص في مدينة ووهان الصينية.
الفيروسات حيوانية المصدر مسؤولة عن قائمة طويلة من الأمراض: فيروس نقص المناعة البشرية وإيبولا وسارس وزيكا وإنفلونزا الخنازير، على سبيل المثال لا الحصر. ويظهر المزيد في كل وقت – كل عام يتم اكتشاف ما بين فيروسين إلى خمسة فيروسات حيوانية جديدة. شهد هذا العام وحده عددا من فاشيات الأمراض حيوانية المنشأ، إضافة إلى كوفيد – 19. كانت هناك زيادة في انتشار فيروس إيبولا في الكونغو الديمقراطية – حيث أودى المرض بحياة الآلاف – وحدث ارتفاع في حالات الإصابة بحمى لاسا في نيجيريا. على مدى العقود الثلاثة الماضية، ازداد تفشي الأمراض حيوانية المنشأ.
لا تظهر الأمراض فجأة في أي مكان. غالبا ما تأتي من حواف الغابات المطيرة والأماكن ذات التنوع الكبير، حيث يختلط البشر والأنواع الحيوانية. هذه “النقاط الساخنة”، حيث من المرجح أن تنتقل الأمراض من الحيوانات إلى البشر، ترتبط ارتباطا وثيقا بالتغير البيئي مثل إزالة الغابات.
يقول توم جيليسبي، الذي يقود مختبرا يدرس مسببات الأمراض والتغيرات البيئية في جامعة إيموري: “الغابات المطيرة الاستوائية مهمة بشكل استثنائي في هذا الصدد. هنا لديك مجموعة متنوعة من الخفافيش، والقوارض، والرئيسات – أي الأنواع الحية التي من المرجح أن تصاب بشيء ما – لذلك ستكون لديك أيضا مجموعة متنوعة من مسببات الأمراض”.
العمل الفعلي للبحث عن الفيروسات صعب. عادت نوبل لتوها إلى القاعدة بعد أسبوعين من اصطياد الخفافيش في معسكر في الأدغال، وهي تريني الخدوش العميقة حول كاحليها من المشي في الغابة. وهي تنام في الخيام وتستحم تحت الشلال وتبقى بعيدة عن قطعان الأفيال، وهي أمور يمكن أن تجعل الأيام مرهقة.
هذا العام، كوفيد – 19 جعل الأمور أكثر صعوبة بالنسبة لنوبل وللباحثين الآخرين. على الرغم من عدم وجود أي حالات حتى الآن في هذه الزاوية من جمهورية إفريقيا الوسطى، فإن المختبر المحلي مجهز لإجراء اختبارات PCR (تفاعل البلمرة المتسلسل) للكشف عن الفيروس، ويتخذ الباحثون احتياطات إضافية، بما في ذلك ارتداء الكمامات وهم حول القردة الكبيرة، التي يمكن أن تكون عرضة للإصابة بكوفيد – 19 من البشر.
هذه واحدة من أبعد الغابات النائية في إفريقيا، لكن البحث أساسي لفهم علاقتنا المتغيرة بالطبيعة والمرض. يضيف تغير المناخ تعقيدا إلى هذه المهمة، حيث تغير الحشرات نطاقاتها وتحمل النباتات ثمارها في أوقات مختلفة، ما يسبب المزيد من إمكانية اختلاط الأنواع الجديدة. لكن إذا عرفنا المزيد عن الفيروسات – كيف تتصرف وما هي الحيوانات التي تصيبها – فهل يمكن أن تعدنا بشكل أفضل في المرة التالية التي يظهر فيها “المرض X”؟
الفيروسات موجودة على كوكب الأرض منذ ملايين السنين، أطول بكثير من الإنسان العاقل. الفيروس ليس “حيا” تماما من الناحية الفنية، فهو خيط من الشفرة الجينية مغلف بغلاف بروتيني ويحتاج إلى مضيف حي للتكاثر. نحن لا نعرف سوى جزء ضئيل من الفيروسات في العالم، على الرغم من تسريع العمل على العثور عليها أخيرا مع ظهور التسلسل الجيني. يوجد نحو 1.6 مليون فيروس على الكوكب في الثدييات والطيور، منها نحو 700 ألف فيروس يمكن أن تصيب البشر. ولكن من بين هذه تم التعرف على نحو 250 فقط في البشر. البقية لا تزال موجودة – كل ما في الأمر أنها لم تقم بالقفزة.
بيتر بايوت الذي شارك في اكتشاف فيروس إيبولا، يعد أحد أبرز الباحثين عن الفيروسات في 1976. وهو يشير إلى أن الفيروسات خفيفة الحركة للغاية لأنها تبحث دائما عن مضيفها التالي.
قال لي: “ما هو سبب وجود الفيروس؟ هو إيجاد مضيف للبقاء على قيد الحياة. لأن الفيروسات لا يمكن أن تتكاثر من دون خلية حية، فإنها تحتاج إلى نباتات وحيوانات وبشر حساسين للإصابة، لذلك يتعين العثور عليها ثم القفز من واحد إلى آخر”.
عادة ما تكمن الفيروسات في مضيف مستودع – نبات أو حيوان يمكن أن يأويها دون أن يمرض – ثم تصبح أكثر إشكالية عندما تعبر إلى نوع جديد.
أثناء حديثه عبر الهاتف في صباح أحد أيام الخريف أخيرا، كان بايوت، رئيس كلية لندن للصحة والطب الاستوائي، مشغول البال. فهو قلق من أن فيروس كورونا لن يكون آخر وباء مميت لنا.
يقول: “نحن نعيش في عصر الأوبئة”. كان صوته يدل على أنه يعاني ضيقا في التنفس، وهو دلالة على مواجهته مع كوفيد – 19 في وقت سابق من هذا العام. “أعتقد أننا سنرى المزيد والمزيد منها، والسبب الأساسي هو أننا فشلنا في العيش في وئام مع الطبيعة”.
ويشير إلى العوامل التي تزيد من احتمال ظهور الأمراض، مثل إزالة الغابات والاتجار غير المشروع بالحيوانات البرية. تغطي الغابات نحو ثلث مساحة اليابسة على الأرض، لكن يتم قطعها، غالبا لإفساح المجال أمام المحاصيل التي تباع من أجل المال أو تربية الماشية. في كل دقيقة تتم إزالة مساحات من الغابات بحجم 35 ملعب كرة قدم.
يقول بايوت: “ربما كان هذا قد بدأ بالفعل عندما أصبحنا مستقرين، وتركنا البداوة والترحال. لا أقول إننا ينبغي أن نعود ونعيش مثل البدو الرحل. لكن عندما تضع كل ذلك معا – الضغط السكاني، والتحضر، والممارسات الزراعية، وإزالة الغابات، والتنقل (…) ومن ثم تغير المناخ ستزيد كل هذه الأمور سوءا”.
مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب تتغير أنماط المرض. الحشرات التي تحمل أمراضا حيوانية المصدر، مثل القراد والبعوض، توسع نطاق وجودها وتنتقل إلى مناطق جديدة. ينتشر مرض لايم في أمريكا الشمالية وعبر أوروبا، ما دفع المركز الأوروبي للسيطرة على الأمراض أخيرا إلى إطلاق برنامج مراقبة للمرض، الذي يحمله القراد.
الظواهر الجوية الشديدة مثل الجفاف والفيضانات أيضا لها تأثير كبير. بالنسبة لأمراض مثل حمى الضنك، فإن الأمطار الغزيرة تزيد من احتمال انتشارها من خلال توفير بيئة خصبة للبعوض الذي يحمل الفيروس. في العام الماضي، كان هناك عدد قياسي من حالات حمى الضنك في أمريكا اللاتينية – أكثر من ثلاثة ملايين – وسط مخاوف من أن تغير المناخ سيؤدي إلى تفاقم المرض.
في حين أن هذه ليست فيروسات جديدة، إلا أنها تنتشر في مناطق جديدة وتتفاعل مع اتجاهات عامة مثل إزالة الغابات بطرق لم نفهمها تماما حتى الآن. وفي الوقت الذي يؤثر فيه البشر في الكوكب بطرق واضحة وغير واضحة، تظهر بعض الفيروسات الجديدة بشكل متكرر.
الخطوط العريضة لكيفية ظهور هذه الأمراض واضحة: فهي تأتي عادة من الحيوانات وتنتقل إلى البشر من خلال الاتصال الوثيق. والأماكن التي من المرجح أن يحدث فيها هذا معروفة أيضا: الأراضي المضطربة والمواطن البيئية المجزأة وأسواق الحياة البرية.
معرفة كل هذا لم تمنع العالم من المعاناة من فيروس كورونا. لكن ربما، ربما فقط، سيساعدنا ذلك على فهم الأمور على الوجه السليم في المرة المقبلة – أو على الأقل تحسين فرصنا.
هذا هو بالتأكيد رأي دينيس كارول. فقد أمضى حياته كلها تقريبا في البحث عن الفيروسات ويقود مشروعا طموحا للعثور على المزيد منها – كل الفيروسات، في الواقع.
كارول، الذي يتميز بشعر أبيض بطول الكتفين وسوار من الفضة والفيروز، يبدو وكأنه الأب الروحي للبحث الفيروسي. وبطريقة ما هو كذلك: فقد أمضى عقدا من الزمن في قيادة برنامج للبحث عن الفيروسات بقيمة 200 مليون دولار يسمى بريديكت Predict في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وهو الآن رئيس مشروع جلوبال فيروم Global Virome، وهي مجموعة بحثية مهمتها تصنيف جميع الفيروسات التي يمكن أن تشكل تهديدا لصحة الإنسان.
نتحدث عبر زووم. تشير لوحة تانجكا تبتية معلقة على الحائط خلف كارول إلى مقدار الوقت الذي أمضاه في مطاردة الفيروسات في مختلف أنحاء العالم. وبينما كان يحتمي خلال الأشهر الأخيرة في بيته الذي على شكل زورق على نهر بوتوماك بالقرب من واشنطن، فقد أدى الوباء إلى إضفاء عجلة جديدة على المشروع.
يقول: “مشروع جلوبال فيروم يتعلق أساسا بالذهاب إلى الفيروسات قبل أن تأتي إلينا، وتكوين قاعدة بيانات شاملة. لو كانت لدينا هذه البيانات من قبل، لكنا قد التقطنا كوفيد – 19 في تشرين الأول أكتوبر 2019، مثلا”.
هذا ادعاء جريء – لكن كارول يحب أن يحلم بأحلام كبيرة. يعتقد أن استجابتنا للفيروسات الجديدة محدودة لأننا لا نعرف عنها مسبقا، قبل أن تبدأ في إصابة البشر. يقول: “مهما كان الحدث المقبل – ونعلم أنه سيكون هناك حدث آخر – فهو موجود في الخارج منذ الآن”. ويشير إلى هذه الفيروسات غير المعروفة باسم “المادة المظلمة الفيروسية”.
بناء قاعدة البيانات المذكورة سيكون مكلفا. يقدر كارول أن الأمر سيحتاج إلى نحو 1.6 مليار دولار وعشرة أعوام على الأقل للعثور على 75 في المائة من الفيروسات البالغ عددها 1.6 مليون – أو، إذا تمكنوا من جمع الأموال، نحو ثلاثة مليارات دولار لالتقاط 90 في المائة من الفيروسات. يعمل مشروع جلوبال فيروم على جمع المال من الحكومات والمؤسسات الخيرية وشركات التكنولوجيا.
لأعوام، كانت الولايات المتحدة أكبر ممول لهذا النوع من الأبحاث من خلال برنامج “التهديدات الوبائية الناشئة” التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، الذي قاده كارول. وشمل ذلك برنامج بريديكت الذي قام بفهرسة أكثر من 900 فيروس جديد وتسلسلها. لكن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية قررت سحب تمويلها للبرنامج في ظل إدارة ترمب في 2019، قبل وصول جائحة كوفيد – 19 مباشرة. مع إغلاق البرنامج الآن، يعمل عدد من كبار علمائه مع مشروع جلوبال فيروم لمواصلة البحث.
في الأوساط العلمية، مشروع جلوبال فيروم هو مثل إطلاق مركبة فضائية إلى القمر: حتى لو تم التعرف على كل هذه الفيروسات، فقد لا نتمكن من معرفة أي منها يسبب العدوى ويهدد البشر.
يقول بايوت: “الأمر المهم الذي تجب معرفته هو الفيروسات التي تستطيع، بالنسبة للبشر، ليس فقط أن تصيب الناس بالعدوى ولكن أن تكون لديها القدرة على الانتقال من البشر إلى البشر – والحقائق العلمية بهذا الموضوع ليست موجودة حتى الآن. من المحتمل أن يصاب البشر بفيروسات من الحيوانات طوال الوقت ولكن في معظم الحالات يتم إجهاضها، بمعنى أنها قد تسبب مشكلة في شخص واحد، وتنتهي هناك”.
يرى بعض الباحثين أن التمويل يمكن استخدامه بشكل أفضل في مجالات أخرى. يقول كريس موراي، الذي عمل سابقا ضمن برنامج بريديكت وهو أستاذ مشارك في وحدة MRC – جامبيا في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي: “هناك قدر ضخم من الترويج لهذه الفكرة بأنها يمكن أن توقف الجائحة التالية. المشكلة الكبيرة هي أن عدد الفيروسات ضخم بحيث أنه لا يمكن حصره في قائمة مختصرة. تبدأ في الظهور كقائمة طويلة جدا من الأشياء التي لن تصل إلى الناس أبدا”.
لكن المؤيدين يقولون إن البحث في برنامج بريديكت يساعد منذ الآن على مكافحة كوفيد – 19، وأن مشروع جلوبال فيروم سيفعل ذلك أيضا.
تقول جونا مازيت، أستاذة علم الأوبئة في كلية الطب البيطري في جامعة كاليفورنيا في ديفيز، التي كانت الباحثة الرئيسة في برنامج بريديكت وهي الآن عضو في مشروع جلوبال فيروم: “اكتشفنا أكثر من 100 فيروس كورونا جديد، وتعرفنا أيضا على أكثر من 60 فيروسا من فيروسات كورونا المعروفة وبدأنا في توسيع المعلومات بشكل عجيب حول المضيفين التي هي موجودة فيهم”.
تم استخدام بعض فيروسات كورونا المذكورة لفحص ما إذا كان عقار ريمديسفير – العقار الوحيد المضاد للفيروسات الرجعية الوحيد المعتمد حاليا للاستخدام ضد كوفيد – 19 في الولايات المتحدة – يمكن أن يكون فعالا ضد فيروس كورونا، كما تقول، مضيفة: “وحتى لو لم يكن يساعدنا على منع ذلك، فهو يعدنا للحصول على البيانات لنكون على استعداد للقفز إلى العمل”.

ليزلي هوك

الاقتصادية