الرئيس المنتخب جو بايدن ربح معركة في حرب. لا المعركة الرئاسية كانت سهلة مع رئيس ديماغوجي شعبوي يراهن على الاستقطاب، ويحكم بالتمزيق، ولا الحرب قليلة التعقيد وبسيطة الحسابات على جبهات واسعة في الداخل والخارج. وليس أمامه وقت طويل، ولا حاجة إلى التعلم بعد 47 عاماً من الخبرة وممارسة السياسة في مجلس الشيوخ ونيابة الرئاسة أيام أوباما.
هو في السابعة والسبعين، وأعلن سلفاً أنه سيكون رئيساً لولاية واحدة، تاركاً لنائبته السنياتور كامالا هاريس الترشح بعد 4 أعوام. وهي ليست فحسب أول امرأة تصل إلى نيابة الرئاسة في تاريخ أميركا، بل أيضاً امرأة ملونة من أم هندية باحثة في مجال سرطان الصدر، وأب جامايكي أستاذ في الاقتصاد. ومتى؟ في عز اشتداد النزعة العنصرية لدى مجموعات مسلحة من اليمين المتعصب المؤمن بتفوق العرق الأبيض، والذي حارب الرئيس دونالد ترمب بسلاحه. وطبعاً حين صار بالمقابل 61 في المئة من الأميركيين يخوضون معركة “حياة السود مهمة”، ويؤمنون، حسب استطلاعات رأي، بوجوب أن يتمتع الملونون بالحقوق ذاتها التي يتمتع بها البيض. ولا مهرب أمام بايدن وهاريس من التزامن والترابط بين المعارك على الجبهات الداخلية والخارجية في الحرب “من أجل روح أميركا” وفق الشعار الذي رفعه بايدن.
الياقات الزرق
تقول نكتة في أميركا “ما الفارق بين الحزب الجمهوري وسفينة تيتانك؟” والجواب “تيتانك لم تحاول ضرب جبل الجليد”. إلا أن الحزب الديمقراطي يحتاج إلى جهد كبير للعودة إلى ما كان عليه: حزب الشعب العامل والطبقة الوسطى والأقليات؛ إذ إنه، كما يقول البروفسور في “هارفارد”، مايكل ساندل، صار “محدداً أكثر بالنخبة المحترفة وخريجي الجامعات أكثر منه بالعمال أصحاب الياقات الزرق الذين يشعرون أن الاقتصاد تركهم وراءه، وأن النخبة تنظر إليهم من فوق”. أما المعركة على جبهة المجتمع، وهي “إعادة توحيد” أميركا المنقسمة والمضروبة بثقافة الكره، فتتجاوز الشعارات إلى أعمال بطيئة ومتعبة.
سلاح الصابون
مفهوم أن ما شهدته أميركا هو الموسم الأخير من برنامج “المتدرب”، حيث “ضرب الواقع نجم تلفزيون الواقع”، بحسب رام إيمانويل، النائب السابق في الكونغرس، لكن مشكلة ما بعد ترمب معقدة؛ لأن “الرجل نتيجة أمراض السياسة الأميركية بمقدار ما هو من أسبابها”، وفق ما كتب في مجلة “فورين أفيرز” البروفسور دانيال درزنر. وإذا كان سلاح هيلاري كلينتون وباراك أوباما هو “الأمل”، وسلاح ترمب هو “الخوف”، فإن ما يحتاج إليه بايدن في معركته هو “الصابون”، وغسل أميركا من فوق إلى تحت، كما قيل خلال الحملة الانتخابية. وإذا أعطى بايدن الأولوية لمواجهة كورونا، فإن التحدي أمامه، كما قال في مقال عن سياسته الخارجية هو “النجاح في الاقتصاد الكوني، وإصلاح الديمقراطية في الداخل، وتقوية تحالف الديمقراطيات في العالم”. لا، بل إن بايدن مدعو إلى رد فعل على الوضع الاقتصادي من حجم رد فعل الرئيس فرانكلين روزفلت على الانهيار الاقتصادي في أربعينيات القرن الماضي. وأقل ما يقال هو أن العودة إلى الوضع الطبيعي بعد كورونا لا تكفي، فهناك فرصة لأجندة “تحولية”.
ردود معبرة
ردود الفعل على فوز بايدن في الخارج جاءت معبرة جداً بالنسبة إلى الذين كان ترمب كابوساً لهم من جهة، والذين كان مريحاً لهم من جهة أخرى. قادة أوروبا سارعوا إلى الترحيب والاستعداد للتعاون واستعادة التنسيق الكامل عبر الأطلسي ضمن حلف الناتو ومواجهة الاحتباس الحراري والخروج من الحرب التجارية التي فرضها ترمب. أما قادة روسيا والصين وتركيا فتريثوا، وحاولوا كتمان خيبة أملهم لأن ترمب كان “هدية من السماء” لهم ولأنظمتهم السلطوية. قادة إيران راهنوا على أن يعود بايدن إلى سياسة أوباما بالنسبة إلى الاتفاق النووي ومجمل التعامل مع نظام الملالي. مواقف الدول العربية كانت حذرة حيال التهنئة والترحيب. إسرائيل التي عادةً ما تحصل على دعم أي رئيس أميركي، ديمقراطياً كان أم جمهورياً، كانت تتمنى في العمق نجاح ترمب الذي أعطاها ما امتنع عنه رؤساء سابقون، ألا وهو الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، والاعتراف بضم الجولان، ومعاقبة السلطة الفلسطينية. ويروى أن بايدن قال لنتنياهو “لا أوافقك على شيء مما تقول، لكني أحبك”. السلطة الفلسطينية رأت فرصةً في التخلص نهائياً من “خطة السلام” والعودة إلى “حل الدولتين” والمؤتمر الدولي، لكن في أوروبا، هناك من طرح تصورات متضاربة. جيرمي شابيرون من “مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي” تحدث عن “تآكل في الشعور الأوروبي حيال أميركا كقائد”، ورأى أن “الديمقراطيين لن يستمروا في البيت الأبيض، وبايدن لن يحل مشكلة أوروبا”. وحذرت ناتالي توسي، مديرة “المعهد الإيطالي للقضايا الدولية” من أن تقوية بايدن للتحالف الأطلسي “يمكن أن تقطع التوجه الأوروبي نحو ما سماه ماكرون الحكم الذاتي الاستراتيجي، وبالتالي استمرار الأوروبيين بدفن رؤوسهم في الرمال”.
تحت شعار “لنجعل أميركا عظيمة من جديد” صار العالم يشفق على أميركا بسبب سياسة ترمب. والتحدي أمام بايدن هو أن يستعيد احترام أميركا وصدقيتها والثقة بها في العالم.
رفيق خوري
اندبندت عربي