تصاعدت حدة الخلافات بين بغداد وأربيل على خلفية إقرار البرلمان العراقي قانون “تمويل العجز المالي”، الذي يمكن الحكومة العراقية من الاقتراض الداخلي لتسديد رواتب الموظفين، إذ يشترط القانون على حكومة إقليم كردستان تسديد ما عليها من مستحقات للحكومة الاتحادية، قبل الشروع بصرف رواتب الموظفين، الأمر الذي أثار أزمة سياسية جديدة بين الطرفين.
وتنص الفقرة التي حفزت الخلافات بين بغداد وأربيل، على “تحديد حصة إقليم كردستان من مجموع الإنفاق الفعلي (النفقات الجارية ونفقات المشاريع الاستثمارية)، بعد استبعاد النفقات السيادية المحددة بقانون الموازنة لعام 2019، بشرط التزام إقليم كردستان تسديد أقساط النفط المصدر من الإقليم وبالكميات التي تحددها شركة تسويق النفط العراقية (سومو) حصراً، والإيرادات غير النفطية الاتحادية، وفي حالة عدم التزام الإقليم لا يجوز تسديد النفقات للإقليم ويتحمل المخالف لهذا النص المسؤولية القانونية”.
وعلى الرغم من انسحاب نواب الكتل الكردية اعتراضاً على تلك الفقرة، فإن البرلمان العراقي صوّت في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) على القانون، الأمر الذي تسبب في تصاعد وتيرة الخلافات.
ويلغي هذا التصويت الاتفاق بين بغداد وأربيل في 15 أغسطس (آب) الماضي، الذي يقضي بإرسال الحكومة الاتحادية 320 مليار دينار شهرياً (268 مليون دولار) إلى الإقليم وعلى مدى ثلاثة أشهر.
ورقة سياسية ومعاقبة لشعب إقليم كردستان
وتصاعدت ردود فعل القوى الكردية على إثر التصويت على قانون “تمويل العجز المالي”، ولعل أبرزها كان وصف زعيم “الحزب الديمقراطي الكردستاني” ورئيس الإقليم السابق مسعود البارزاني، بأن القانون “ورقة ضغط سياسية ومعاقبة لشعب كردستان”.
وأضاف في بيان “بأسف بالغ تطعن الجهات السياسية من المكونين الشيعي والسني في مجلس النواب العراقي مرة أخرى ظهر شعب كردستان، لجأوا إلى استخدام موازنة وقوت شعب كردستان كورقة للضغط على إقليم كردستان”.
وتحدث البارزاني عن الاتفاقات بين الإقليم وبغداد، قائلاً “يحدث هذا الأمر، بينما أبرم عدد من الاتفاقيات في الفترات الماضية بين حكومة الإقليم ونظيرتها الاتحادية ولم يتم تنفيذها”، مشيراً إلى أن “القانون الذي شرعه مجلس النواب العراقي من دون أخذ الشراكة والاتفاقيات المبرمة بنظر الاعتبار نعتبره ورقة سياسية وضغطاً على الإقليم ومعاقبة لشعب كردستان، وتجاوزا على مبادئ الشراكة والتوافق والتوازن بين مكونات العراق، كما نعتبره تضييقاً للخناق على شعب كردستان ومحاربته”.
وأشار البيان إلى أنه “من الجلي أنهم قد اتخذوا قرارهم المسبق بمحاربة الإقليم وشعب كردستان، وبهذا المنطق يتعاملون مع الدستور والاتفاقيات وحقوق ومطالب شعب كردستان”، واضاف “يجدر بي أن أعبر عن امتناني لوحدة موقف ممثلي كردستان في بغداد الذين دافعوا وبموقف موحد عن حقوق شعب كردستان، ووقفوا ضد السياسة المحاربة لشعب كردستان، التي ظهرت داخل مجلس النواب العراقي، نكن لهم التقدير والامتنان”.
ودعا البارزاني رئاسات الإقليم والبرلمان والحكومة إلى “عقد اجتماع مع ممثلي كردستان في بغداد والأحزاب السياسية للإقليم للوصول إلى قرار مشترك بهذا الشأن”، وقال “ينبغي اتخاذ قرار يكون على مستوى المسؤولية لمعالجة المشاكل ويحفظ فيه كرامة شعبنا ويضع حداً للسياسات والتصرفات التي تهدف إلى معاقبة شعب كردستان”.
اقرأ المزيد
أربيل تواجه أزماتها الاقتصادية بالزراعة وخفض أجور المؤسسات العامة
من يستدين ممن… بغداد أو أربيل؟
سابقة سلبية
في المقابل، علق رئيس الجمهورية برهم صالح على إقرار قانون الاقتراض، وعلى الرغم من تأكيده أن إقرار القانون “كان ضرورياً لسداد رواتب الموظفين”، فإنه عبر عن أسفه من أن إقراره “تم بغياب التوافق الوطني، وتحديداً من المكون الكردي، ما يشكل سابقة سلبية في العمل السياسي”، وأضاف أن “الترحيب بتوفير رواتب الموظفين في العراق لا يمكن أن يكون مكتملاً من دون حل لرواتب أقرانهم من موظفي الإقليم، وهم مواطنون عراقيون، ولهم حقوقهم المنصوص عليها في الدستور”، وأكد صالح “عدم تحميل المواطنين والموظفين تبعات الصراعات السياسية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم”، مشدداً على “ضرورة حل الإشكاليات العالقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وتحديداً ملف النفط، وتداركها وفق الدستور، وبشفافية، وبما يحقق العدالة وحقوق المواطنة لجميع العراقيين”. وتابع أن “الظروف الحساسة التي يمر بها البلد، تتطلب من الجميع التكاتف والتعاضد ونبذ لغة النعرات الطائفية والقومية”.
تجاوز للشراكة والتوافق
وتحفظت حكومة وبرلمان إقليم كردستان على تصويت الكتل البرلمانية الشيعية والسنية على القانون من دون التوافق مع الكتل الكردية، واعتبرته حكومة الإقليم تجاوزاً لـ “مبادئ الشراكة والتوافق والتوازن”، في حين عبر برلمان الإقليم عن “أسفه” لاعتماد البرلمان الاتحادي مبدأ الأغلبية في التصويت على القانون، وعد ذلك “انتهاكاً لروح التعايش والمشاركة”.
وقالت رئاسة الإقليم، في بيان “قانون تمويل العجز المالي الذي جرت المصادقة عليه في مجلس النواب العراقي بالأغلبية، ومن دون الأخذ بمبادئ الشراكة والتوافق والتوازن، ومن دون الالتفات إلى ملاحظات ومقترحات ممثلي إقليم كردستان، نشد على أيدي جميع الكتل الكردستانية والنواب عن إقليم كردستان الذين اتخذوا موقفاً موحداً للدفاع عن حقوق ومستحقات شعب كردستان”.
وأضاف البيان أن “رئاسة إقليم كردستان تنظر بقلق ومنتهى الاهتمام إلى هذه المسألة، وستسخّر جهودها للدفاع عن حقوق ومستحقات شعب كردستان”، مشيرة إلى أن الرئاسات الثلاث للإقليم “ستجتمع بالجهات المعنية وممثلي إقليم كردستان في الحكومة الاتحادية ومجلس النواب لهذا الغرض، ومن أجل توحيد مواقف الجهات المعنية في إقليم كردستان تجاه هذه المسألة”.
في غضون ذلك، أكد رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني، أن “حصة كردستان من الواردات الاتحادية ليست هبة، وإنما هي حق”، مشدداً على ضرورة أن “تقوم العلاقة بين أربيل وبغداد على أساس الاعتراف بحقوق وواجبات كل طرف منهما بموجب الدستور”، وأضاف في توضيح نشره على صفحته في “تويتر”، “يجب إعادة النظر بهذه السابقة الخطيرة بسرعة، لا تزال لدينا فرصة لتصحيح هذا الظلم”.
تصاعد الخلافات الداخلية الكردية
وصعّدت تلك الأزمة حدة الخلافات الداخلية بين “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الحاكم في الإقليم، وغريمه “الاتحاد الوطني الكردستاني” وبعض القوى الأخرى المعارضة، وعلق الرئيس المشترك لحزب “الاتحاد الوطني الكردستاني”، لاهور شيخ جنكي، على تصاعد حدة الخطاب القومي من قيادات الحزب “الديمقراطي الكردستاني”، قائلاً إن “دغدغة المشاعر القومية لن تعالج الأزمة المالية”.
وأضاف في تغريدة على “تويتر”، “يجب ألا نسمح بأن تضع الأخطاء السابقة المتراكمة مستقبل شعبنا أمام المخاطر. الأوضاع المعيشية لأي عائلة في إقليم كردستان مقدسة، ويجب علينا حمايتها”. وأوضح أنه “لا يجوز أن تضعنا الانفعالات على طريق أخطاء أخرى. قيادة كردستان تحتاج إلى هدوء ومراجعة جذرية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الإقليم، ويجب أن يكون الحل عندنا، وليس الأزمات”.
نواب كرد يقاطعون اجتماع الرئاسات الكردية
وفي تطور لافت، أعلن 10 نواب من كتل كردية عدة في البرلمان الاتحادي مقاطعتهم الاجتماع المزمع عقده بين الرئاسات الثلاث في إقليم كردستان، الذي يهدف إلى الخروج بموقف موحد إزاء إقرار قانون الاقتراض، محملين الحكومة العراقية وحكومة الإقليم مسؤولية الوضع الحالي.
وقال النواب، في بيان مشترك، “لا نرى أن الحاجة تستدعي عقد اجتماع بين الرئاسات الثلاث في الإقليم والممثلين الكرد في البرلمان العراقي”، وأضاف البيان، “الحكومة العراقية وحكومة الإقليم تتحملان المسؤولية إزاء هذا الوضع، ومسألة الرواتب والنفط واضحة، ولا تحتاج إلى عقد اجتماع”، ونوه النواب في بيانهم إلى أنن أن “الفرصة لا تزال سانحة وتستطيع حكومة الإقليم إرسال وفد إلى بغداد، وأن تسارع في إبرام اتفاق جديد وشامل وشفاف وقوي مع الحكومة الاتحادية على أساس الدستور”.
والنواب هم كل من أحمد حاجي رشيد، وريبوار كريم محمود، وكاوه محمد، وسركوت شمس الدين، وسروه ونس، ويُسرى رجب، وغالب محمد علي، وبهار محمود فتاح، وهوشيار عبد الله، ومثنى أمين.
في غضون ذلك، أعلنت “كتلة التغيير” الكردستانية مقاطعتها هي الأخرى لاجتماع رئاسات الإقليم، المقرر عقده اليوم الأحد، 15 نوفمبر (تشرين الثاني)، وحدد رئيس الكتلة يوسف محمد سبب المقاطعة بـ “عدم تغيير سلوك السلطات بالإقليم في الملفات المتعلقة بالنفط والغاز والموازنة، وغياب الشفافية في هذه الملفات، واستمرار حملات الاعتقال ضد الناشطين المدنيين والحقوقيين والصحافيين بسبب اعتراضهم على سياسات الإقليم التعسفية”.
تطبيق للعدالة في توزيع الثروة
وعلى الرغم من الاعتراضات التي أبدتها الكتل الكردية المختلفة في البرلمان إزاء قانون الاقتراض، فإن مواقف غالبية الكتل الشيعية والسنية بدت متماسكة في الدفاع عن تشريع القانون، وقال غايب العميري، نائب في البرلمان العراقي عن “تحالف سائرون”، إن “الكتل الشيعية والسنية رفضت طلب كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني بتأجيل التصويت على الفقرة المتعلقة بواردات الإقليم”. وأضاف “عدد من الاجتماعات والنقاشات عقدت في البرلمان حول تلك المادة، وكانت هناك مطالبة من غالبية الكتل بأن يتم تطبيق العدالة والإنصاف وتوزيع الثروات بصورة متساوية وعادلة”.
وأشار إلى أن “تطبيق العدالة يتطلب أن تذهب جميع الواردات إلى خزينة الدولة، ومن ثم يتم توزيعها على المحافظات من ضمنها إقليم كردستان”، مبيناً أن “الحزب الديمقراطي رفض هذا الأمر، وطالب بتأجيل التصويت إلى بداية العام المقبل”، وختم العميري أن “العراق يمر بأزمة مالية، ولا نرى أسباباً موجبة لتأجيل التصويت، وهذا الأمر دفع الأحزاب والكتل في البرلمان بأن تطبق تلك المادة في قانون الاقتراض لتكون شروعاً لتطبيق العدالة والمساواة بين جميع مكونات الشعب العراقي”.
في المقابل، قالت النائبة في البرلمان العراقي عالية نصيف، إن “امتناع السلطة الحاكمة في إقليم كردستان عن تسليم واردات النفط والمنافذ لعدة سنوات هو أحد أهم أسباب الأزمة المالية الراهنة، وبالتالي لا يحق للأحزاب الكردية الاعتراض على تمرير هذا القانون”.
خطاب قومي
ويعتبر الحزب الديمقراطي الكردستاني تصويت البرلمان العراقي على قانون الاقتراض، تنكراً للتفاهمات السابقة وللتوافق والشراكة وتجاوزاً على الاتفاق الأخير بين بغداد وأربيل بشأن دفع 320 مليار دينار (268 مليون دولار) شهرياً إلى نهاية العام الحالي والاتفاق على موازنة 2021.
وأشار الكاتب والصحافي سامان نوح إلى أن موقف الحزب الديمقراطي الكردستاني الهجومي، الذي وصف بالمتشنج من الاتفاق “سيعمق الأزمة المالية لحكومة الإقليم، وستتعقد المشكلة المزمنة المتعلقة بدفع رواتب الموظفين، حيث تتأخر الحكومة أحياناً لأكثر من شهرين في دفع الرواتب على الرغم من استقطاع نحو 20 في المئة منها”.
ورأى نوح أن الصدمة التي شكلها قرار البرلمان وإنهاءه عملياً للاتفاق السابق المؤقت بين حكومتي بغداد وأربيل، دفع بعض قادة الديمقراطي الكردستاني لإعلان مواقف وصفت حتى من بعض قوى الإقليم “بالمتشنجة”، مشيراً إلى أن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها الإقليم والمشاكل الداخلية بين قواه الرئيسة والفشل في تطبيق مشاريع الإصلاح المعلنة منذ سنوات، يبدو أنها دفعت الديمقراطي الكردستاني إلى “تصدير خطاب قومي لإقناع جمهوره في الإقليم بأن الإشكالية الحالية والأزمات المستمرة تتعلق بعدم التزام بغداد بالتفاهمات بين الطرفين”.
ولفت نوح إلى أن تلك المواقف كما يراها بعض المتابعين للشأن الكردي، بل وحتى بعض القوى الكردية “ليست مواقف سياسية، بل مجرد ردود فعل”، مبيناً أن “المواقف السياسية ستأتي لاحقاً، وأن القوى الكردية ستلجأ للحوارات نزولاً عند الواقع، وبخاصة أن بعض نواب المعارضة الكردية والاتحاد الوطني الكردستاني لا يبدون قلقاً من بنود القانون، ويرون فيه فرصة لاتفاق دستوري دائم، كونه يضمن حصول الإقليم على حصة تقدر بأكثر من 750 مليار دينار (628 مليون دولار) شهرياً إذا التزم بدفع جزء من عائدات النفط ونصف الموارد الجمركية”.
تصحيح للأخطاء
في المقابل، قال أستاذ العلوم السياسية، إياد العنبر “الأزمة الحالية كانت متوقعة”، مبيناً أن الاتفاقات التي جرت بين حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي وحكومة الإقليم كانت “صفقات مجاملة بلا أساس دستوري أو اتفاقات قانونية”، وأضاف، “قانون الاقتراض الذي أقره البرلمان يعد تصحيحاً للخلل في موازنة 2019، التي فصلت بين التزام الإقليم بتسديد مستحقاته للحكومة الاتحادية ورواتب الموظفين”، ولفت إلى أن ما جرى “محاولة للضغط على حكومة الكاظمي لجعلها مقيدة في قضية صرف الأموال أو مجاملة الإقليم”، مشيراً إلى أن الكاظمي “جامل الإقليم في هذه القضية منذ تسلمه السلطة”.
أحمد السهيل
اندبندت عربي