حُسمت أخيرا نتائج الانتخابات الأكثر أهمية وتنافسا في تاريخ الولايات المتحدة، بفوز مرشح الحزب الديموقراطي، جو بايدن. ولن تؤدّي، على الأرجح، الاعتراضات التي قدّمها الرئيس الحالي، دونالد ترامب، إلى تغيير مهم في النتيجة. خلال المرحلة المقبلة، سوف يتركز اهتمام أغلب الدول التي تابعت انتخابات الرئاسة الأميركية باهتمام غير مسبوق، وتعاملت معها وكأنها شأن داخلي، على استكشاف ملامح السياسة الخارجية لإدارة بايدن وخاصة إزاء العراق الذي لديه تاريخ مثير للجدل فيه.
العراق الذي لم يدخل سباق الانتخابات الرئاسية الأميركية هذه المرّة سيكون له ملف دائم على طاولة الرئيس الجديد، الديمقراطي الذي صوّت على حرب العراق إبّان فترة رئاسة الجمهوري، جورج بوش الابن، إلا أنه غيّر رأيه بعد ذلك، ووجد في قرار الرئيس الديمقراطي، باراك أوباما؛ سحب القوات الأميركية من العراق، فرصة للتكفير عما يراه خطأ ارتكبه في ذلك التصويت. غير أن هذا الديمقراطي كان من دعاة تقسيم العراق، فعندما كان عضواً في مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير عام 2006، يوم كانت القوات الأميركية تحترق بنيران المقاومة العراقية، ووصل عدد الهجمات اليومية على تلك القوات إلى قرابة الألف. يومذاك، اقترح بايدن خطة لتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق ذات استقلال شبه ذاتي، شيعية وسنية وكردية. واعتبر أن هذا التقسيم يمكن أن يسمح للقوات الأميركية بمغادرة العراق بحلول عام 2008، وإلا سيدخل العراق دوامة عنف طائفي، يمكن أن تسهم في زعزعة استقرار المنطقة.
تحققت نبوءة بايدن، فبعدها بوقت قصير اندلعت حرب طائفية استمرت أكثر من عامين، يوم أن تم تفجير مرقد الإمام علي الهادي في سامراء، وما تبع ذلك من حربٍ طائفيةٍ أدّت إلى أن يقل تركيز المقاومة العراقية على المحتل الأميركي، ولندخل جميعنا نفقاً طائفياً، يبدو أنه أعدّ بشكل جيد من دهاقنة السياسة الأميركية، وربما من بينهم بايدن.
كان الرئيس العراقي برهم صالح أول المهنئين من القادة السياسيين بفوز بايدن في الانتخابات، ففي حين وصف الرئيس الأميركي المنتخب بـ “الصديق والشريك الموثوق في قضية بناء عراق أفضل”، عبّر عن تطلعه إلى “العمل لتحقيق أهدافنا المشتركة وتعزيز السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بأكملها”.
وفيما هنأ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الرئيس الأميركي المنتخب ونائبته، عبّر عن تطلعه في بيان مقتضب إلى “تقوية الروابط الاستراتيجية بين بلدينا نحو مستقبل مبني على الاحترام المتبادل وقيم التعاون المشترك والوثيق لتجاوز التحديات ودعم السلم والأمن، وتحقيق الاستقرار والازدهار”.
إلا أن ما أثار الانتباه هو تهنئة زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، الذي يعطي انطباعاً واضحاً عن حجم الحماسة التي تبديها أطراف مقربة من إيران في شأن وصول بايدن إلى البيت الأبيض، الأمر الذي يبين إلى حد ما مخاوف تلك الأطراف من احتمالية بقاء ترمب على سدة الحكم.
وقال المالكي في تهنئته، “أتمنى لكم النجاح في مهمتكم الصعبة والتوفيق في معالجة المشكلات والأزمات الموروثة التي تواجهكم لتغيير صورة أميركا وتطوير العلاقات مع الدول الصديقة والعالم”.
في المقابل، كان من أشد المتحمسين للرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، أطراف سياسية وناشطون لا يخفون عداءهم لإيران، إذ يرون أن سياسة الضغط الأقصى التي مارستها إدارة ترمب على طهران حفزت صراع الفصائل المسلحة في العراق لريادة المشروع الإيراني، ودفعتها إلى ممارسات أشد عنفاً وأكثر قسوة على الصعد الأمنية والسياسة والاقتصادية.
ويرى الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى بلال وهاب، أن إدارة ترمب “لم تكن تملك رؤية واضحة في شأن ملاحقة الأذرع الإيرانية في العراق، وكانت تعتمد مجموعة تكتيكات لم ترتق إلى مستوى الاستراتيجية”.
ويشير إلى أن إحدى مميزات بايدن على حساب ترمب ترتبط بـ “معرفته للوضع العراقي منذ عقود طويلة، فضلاً عن كونه يرتبط بعلاقات مع بعض القادة العراقيين”، مبيناً أن “تلك الميزة لم تكن متوافرة لدى ترمب، الذي ينظر إلى العراق باشمئزاز، ويعتقد أن الغزو الأميركي كان أحد أكبر الأخطاء فداحة”.
ولعل ما بدا واضحاً خلال الفترة الماضية يتمثل في إرادة ترمب تحويل العراق إلى ساحة صراع معلنة بين واشنطن وطهران، حيث يلفت وهاب إلى أن “هذا الأمر ربما يتغير مع الإدارة الجديدة، والتي قد تتعامل مع العراق على أساس وجوده كدولة، وليس منطقة للتصعيد ضد طهران”.
وعلى الرغم من أن سياسات ترمب أسهمت في إضعاف إيران بشكل كان بالإمكان استثماره من الجهات العراقية الوطنية، كما يعبر وهاب، إلا أنه يعتقد أن “ضعف الجهات الوطنية حفز الشحن السياسي للميليشيات في سباق ريادة المشروع الإيراني في العراق، الأمر الذي عرقل إمكان استثمار إضعاف طهران عراقياً”. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق كيف سيتعاطى بايدن مع العراق؟
عين الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، مباشرة بعد توليه منصبه، نائبه بايدن للإشراف على العمليات والدبلوماسية الأمريكية في العراق، وفي ذلك الوقت، بدأت البلاد في الاستقرار، وكان تنظيم “القاعدة” في مرحلة الهزيمة ، وانخفض عدد القتلى المدنيين إلى حوالي الربع.
وفي مقال نشره الباحث ألكسندر أولرس في موقع “ذا هيل” القريب من الكونغرس الأمريكي، أشار المحلل السابق في وزارة الخارجية الأمريكية إلى أن عدد الضحايا المدنيين في العراق ارتفع بنسبة 400 في المئة إلى أكثر من 120 ألفاً مع نهاية الولاية الأولى لنائب الرئيس بايدن، ورفع تنظيم داعش الإرهابي علمه من سوريا عبر العراق إلى نقطة لا تبعد سوى 60 ميلاً عن بغداد.
ماذا حدث؟ يجيب أولرس أن المشكلة الحقيقية بدأت مع تأييد اوباما وبايدن لمحاولة نوري المالكي الاحتفاظ بالسلطة بدلاً من دعم النتائج الديمقراطية للانتخابات، خلافاً لنصيحة السفير روبرت فورد، الدبلوماسي المخضرم في العراق لمدة 6 سنوات، و الجنرال راي أوديرنو.
ووفقا لكتاب” نهاية ي” الذي كتبه مايكل غوردن وتقرير الجنرال برنار ترينور، فقد كان بايدن على قناعة بأن المالكي سيقدم اتفاقية وضع القوات، في حين أشارت تفسيرات أخرى إلى أن إدارة أوباما قد استسلمت المصالح الإيرانية اثناء التفاوض على خطة العمل المشتركة ( الاتفاق النووي)، وحسب تصريحات سابقة لزعيم القائمة العراقية إياد علاوي، فقد كانت هناك قناعة بأن الولايات المتحدة لن تدعم أبداً من قائمته بسبب معارضة إيران لهذه الفكرة.
وبغض النظر عن السبب، والحديث للباحث ألكسندر أولرس، فإن قرار بايدن بدعم المالكي أدي إلى اضطرابات سياسية في العراق، والتي مهدت الطريق لظهور تنظيم داعش الإرهابي، مشيراً إلى أن المالكي، بعد أن حصل على السلطة، تراجع عن اتفاقيات تقاسم السلطة، وبدلاً من ذلك، تحرك رئيس الوزراء للسيطرة على المؤسسات العراقية المستقلة، وتحويل القوات العراقية إلى أدوات طائفية.
وحاولت حكومة المالكي اعتراض واعتقال زعيم قائمة العراقية ووزير المالية رافع العيساوي ولكنها فشلت، كما فر نائب الرئيس السني طارق الهاشمي إلى كردستان لتجنب الاعتقال الوشيك والحكم عليه بالاعدام، وقام المالكي بحل جماعة الصحوة، التي قادت القتال ضد تنظيم داعش الإرهابي، وغير ذلك من الإجراءات المثيرة للجدل، ولكن الأهم من ذلك كله، هو أن سياسات أوباما ونائبه بايدن قد أدت في نهاية المطاف إلى ظهور المليشيات الشيعية المدعومة من إيران.
وفي مقابل التفاؤل بوصول بايدن إلى البيت الأبيض، تشير بعض المؤشرات إلى العكس تماماً، إذ يشي تفاعل بعض كبار الشخصيات الموالية لإيران ومن بينهم المالكي، الذي لم يخف حماسته إزاء فوز بايدن، إلى تحفيز التصورات حول إمكان أن “تمثل المرحلة المقبلة ربيعاً جديداً للفصائل المسلحة، من خلال إنهاء سياسة الضغط الأقصى على طهران، واتخاذ سياسة أكثر انفتاحاً وأقرب إلى ما جرى في عهد الرئيس الأميركي السابق أوباما”.
ويقول رئيس معهد كلواذا للدراسات باسل حسين، إن “بايدن أعلن صراحة رغبته في إعادة الاتفاق النووي مع طهران، مما يعني التخلي عن استراتيجية الضغط الأقصى التي تبناها ترمب، واتخاذ سياسة أكثر انفتاحاً على إيران على نحو يقارب سياسة اليد الممدودة التي اتبعها أوباما”، معتقداً أن “الملف العراقي لن يكون في سلم أولويات الإدارة الجديدة، بل سيكون على الأرجح عنصراً تابعاً للتفاهمات الإيرانية – الأميركية نحو تقاسم النفوذ الضمني والعلني”.
ووفقاً لتلك التوقعات في شأن العراق وإيران، يرى حسين أن “حدة التوترات في العراق ربما ستقل، لكنها وفق تلك الاستراتيجية ستكون على حساب المصالح الوطنية”.
ويعبر رئيس المعهد عن خشيته من أن “تشهد المرحلة المقبلة إطلاق يد إيران وميليشياتها في العراق على نحو غير مسبوق”، مبيناً أن “هذا السبب الرئيس خلف حماسة الأطراف السياسية والميليشياوية الموالية لإيران إزاء فوز بايدن”.
وعلى الرغم من اعتقاد حسين أن التسويات مع طهران ستكون على حساب المصلحة العراقية، إلا أنه يرجح ألا تصل حدود تلك التفاهمات إلى ما كانت عليه خلال فترة أوباما”، مبيناً أن “بايدن ربما يحاول تجاوز الإخفاق السابق عندما كان يشغل فيه منصب نائب الرئيس ومسؤول ملف الشرق الأوسط، لا سيما في العراق وسوريا”.
ويشير إلى أن الإشكال الأكبر الذي سيواجه العراق لا يرتبط بسياسة بايدن المحتملة وحسب، بل بقدر تعلقه بـ “غياب الإجماع الوطني ورسم السياسة الخارجية، خصوصاً في ما يتعلق ببناء تفاهمات مع واشنطن”.
لا يبدو أن بايدن يرغب في السير على منوال سلفه ترامب في التعامل مع العراق أو إيران، بعد أن تحولا إلى ملف واحد، هذا يؤثر على ذاك وبالعكس. سيحاول عقد اتفاق جديد مع إيران، قد يفضي إلى العودة إلى الاتفاق النووي بشروط، قد تكون نفسها التي طالب بها ترامب، غير أن تعنت إيران، وعدم رغبتها في التنازل؛ أخّرا موافقتها إلى حين وصول رئيس جديد. وفي حال تم التوافق الأميركي الإيراني على عودة مشروطة إلى الاتفاق، فسيكون ذلك مقابل استحقاقاتٍ على إيران تسديدها، منها تقليص نفوذها في العراق، خصوصا أن هذا البلد سيكون بانتظار استحقاق انتخابي في يونيو/حزيران المقبل. فأميركا ما بعد ترامب ترغب في إعادة مصالحها في العراق التي تضررت كثيراً بسبب النفوذ الإيراني الذي كان يرفض أي وجود أميركي في العراق، خصوصا بعد مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، مطلع العام الجاري (2020) قرب مطار بغداد، وأيضاً بسبب السياسات الأميركية، خصوصا في فترة ترامب الذي كان كثير التهديد قليل الفعل، وكثيراً ما أبدى رغبته في التخلص من العراق ووجعه المزمن.
لكن ما يقلق في تعاطي بايدن مع العراق، هو ارتباط اسمه بمشروعه، الداعي عام 2006 الى تقسيم العراق الى ثلاث مناطق على أسس عرقية وطائفية، وهي منطقة كردية في الشمال، وللشيعة في الجنوب والسنة في الغرب. وُصف المشروع بأنه خطة للتقسيم الناعم وانها تشجع على التطهير العرقي، وستؤدي الى تغذية الانقسامات الطائفية في جميع دول المنطقة. على الرغم من ذلك، عمل بايدن على الدفع باتجاه تحقيق مشروعه، بتأييد من اللوبي الصهيوني، لعدة سنوات الا أنه، دفعه جانبا، بسبب عدم تلقيه التأييد الذي كان يأمله من العراقيين خاصة. مما يثير تساؤلا مهما حول سياسته تجاه العراق خاصة مع تغييب العراق عن الأجندة الانتخابية اولا ومع ملاحظة عودة عدد من الصحف الى الكتابة عن «خطة بايدن» والتساؤل عما اذا كانت الحل لـ « الصراع» في العراق وكيفية التعامل مع إيران. فهل سيعيد الرئيس بايدن تفعيل خطة السناتور الديمقراطي جوزيف بايدن لتقسيم العراق، أم انه سيترك للحكام بالنيابة تنفيذ ذلك مع بعض التدخل «الناعم» من جهته؟
وحدة الدراسات العراقية