تصاعدت العديدُ من المخاوف إزاء استمرار توسع تنظيم داعش في العديد من دول الإقليم، بالإضافة إلى استمرارية قدرته على استقطاب العديد من المتطوعين، ودمجهم في التنظيم على الرغم من تنوع خلفياتهم، وهو ما دفع عددًا من الدراسات إلى طرح تساؤل مفاده: ما هي حدود توسع تنظيم داعش؟، ولعل من الدراسات المهمة في هذا الصدد دراسة “لورانس روبين” (البروفيسور بمعهد جورجيا للتكنولوجيا) المعنونة “لماذا لن تصبح الدولة الإسلامية دولة طبيعية؟” والتي صدرت ضمن مجموعة الدراسات المتضمنة في الكتاب المحرر بعنوان “الإسلام في شرق أوسط متغير: الإسلام والنظام الدولي” الصادر في يوليو 2015.
– مصادر قوة داعش:
يُشير الباحث إلى توصله بعد استقصاء جميع الأدبيات التي تناولت تنظيم الدولة الإسلامية إلى مصادر مختلفة لتلك القوة، والتي تتطلب بالتالي انتهاج سياسات مختلفة لمواجهة التنظيم، وتتمثل تلك المصادر في:
1- السمات الشخصية: يتشارك زعيم داعش أبو بكر البغدادي في العديد من السمات مع خلفاء المسلمين في الماضي، حسبما يرى الباحث، مثل: القدرة على إلقاء الخطب بلغة عربية رصينة، بالإضافة إلى أصله القرشي مما يعطي للبغدادي هيبة شخصية قد لا تتوفر لدى أي شخص آخر في التنظيم، وبالتالي فإن أي استراتيجية تُوضع لمواجهة التنظيم عليها أن تضع استهداف البغدادي هدفًا مركزيًّا لها، حيث سيؤثر هذا على شرعية التنظيم بدرجة كبيرة.
2- الانتصارات العسكرية: يرجع البعض شرعية خلافة البغدادي إلى قدرته على التحكم في المناطق المسيطر عليها، وممارسة السلطة المؤسسية على عدد كبير من أفراد التنظيم، فيفترض ذلك المعيار أن شرعية البغدادي مستمدة من نجاح التنظيم عسكريًّا، وقدرته على إحراز الانتصارات العسكرية، والحفاظ على تلك الانتصارات، وبالتالي فإن أي انتصار عسكري على تنظيم الدولة سوف يُقلل من شرعية التنظيم وجاذبيته الفكرية، وهذا يتعارض بوضوح مع “نظرية العنقاء” التي تفترض عودة التنظيمات المسلحة بشكل أقوى وأكثر تماسكًا وتنظيمًا بعد تعرضها لخسائر فادحة تهدد بقاء التنظيم.
3- تدفق المقاتلين الأجانب: يُرجع هذا العامل شرعية البغدادي إلى قدرته على تحريك مجموعات صغيرة من المتشددين، سواء للسفر إلى سوريا أو الانضمام للعمليات الإرهابية على الدول المستهدفة، فطبقًا لهذا المعيار يمكن قياس شرعية البغدادي بمدى تدفق المقاتلين الأجانب إلى الدول الإسلامية، أو ظهور تنظيمات موالية في أماكن جديدة.
كما يعتقد البعض أن سعي الجماعات الجهادية للتحالف مع التنظيم والانضواء تحت لواء الدولة الإسلامية يعد من أهم عوامل قوتها، حيث تتوزع تلك المجموعات الموالية على مناطق مختلفة، ويساعد ذلك التنظيم على التوسع بشكل أكبر، وضم المزيد من الأراضي لسيطرته، وظهر ذلك جليًّا في العديد من الهجمات الإرهابية التي أعلن التنظيم مسئوليته عنها كحادثة “شارل إيبدو”، والتفجيرات التي أتبعتها بفرنسا، بالإضافة للتفجيرات بالكويت، والمملكة العربية السعودية، ومصر.
4- التغطية الإعلامية: يرجع البعض قوة موقف تنظيم داعش إلى الاهتمام الإعلامي الذي يحظى به التنظيم، سواء كان سلبيًّا أم إيجابيًّا، والذي نادرًا ما يعكس قدرات التنظيم الحقيقية، أو حجم مؤيديه في الواقع، فالممارسات العنيفة التي يرتكبها التنظيم تؤدي إلى مزيد من الاهتمام والتغطية الإعلامية للتنظيم، مما يؤدي إلى تضخيم صورته عما هو عليه في الواقع، وبالتالي فإن تجاهل تنظيم داعش إعلاميًّا أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي سوف يكون محورًا هامًّا في محاربة التنظيم على المستوى الفكري.
السياسة الخارجية الداعشية:
تسعى جميعُ التنظيمات الإرهابية إلى تحدي سيادة الدولة والنظام العالمي، حيث تهدف هذه التنظيمات إلى التخلص من النظام الدولي، واستبداله بنظامٍ مغاير له يتفق مع تصورها الديني عن العالم، وما دام تنظيم الدولة الإسلامية لا يعترف بالنظام العالمي الحالي فهو لن يتبع بطبيعة الحال بكل من القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة.
كما أنه لن يعترف بالحدود، سواء بين الدول العربية والإسلامية أو بين دول العالم كافة، حيث ينظر التنظيم للحدود في الحالة الأولى على أنها مؤامرة غربية لتفتيت شمل المسلمين، أما في الحالة الثانية فهو يبررها بأنه لا توجد حدود على سلطة الله، وتظهر تلك المبادئ في السياسة الخارجية للدولة الإسلامية التي تتمثل في:
1- الجهاد الهجومي: فبينما يسمح المجتمع الدولي للدول بأن تحارب دفاعًا عن النفس، أو تحت سلطة مجلس الأمن، فإن الجماعات الجهادية لا تعتد بكل تلك القواعد، بل تلتزم بقواعد خاصة بها دون اعتبار للقانون الدولي أو للشرعية الدولية لهذه الحروب، فهم يقرون بشرعية وأهمية اللجوء لما يصفونه بالجهاد الهجومي لتوسيع رقعة الأراضي المسيطر عليها من قبلهم.
2- استهداف المدنيين: يتجاهل كل من تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية قواعد السلوك التي يجب اتباعها أثناء الحروب، فأفكارهم عمن يستحق الحماية تتبع تفسيرات متشددة للشريعة، فعندما يأتي الأمر لغير المسلمين في الغرب فإن قابلية تلك التنظيمات لحماية المدنيين في الغرب تكون ضعيفة، فعلى سبيل المثال أعلن أسامة بن لادن الزعيم السابق لتنظيم القاعدة أن المدنيين في الدول الديمقراطية غير أبرياء، لأنهم من خلال دفعهم الضرائب والإدلاء بأصواتهم في الانتخابات يكونون مشاركين في جرائم حكوماتهم.
كما اعتبرت القاعدة استهداف المسلمين في بعض عملياتها بأنه ضرر لا بد منه، كما يتجاهل التنظيم أيضًا كافة القيود الدولية على معاملة المدنيين، فهو يشرعن استخدامه للعنف الشديد في مواجهته لكل من يقبل بخلافته وفي وجه الشيعة والأقليات العرقية مثل الأكراد واليزيديين، ويصفهم بالمرتدين، بالإضافة لاسترقاقه النساء في المناطق التي يُسيطر عليها.
3- مقاطعة الدول الغربية: طبقًا للجماعات الجهادية فإنها لا تعترف باستقلال الدول، وخصوصًا إسرائيل، وأيضًا الدول التي كانت في سابق عهدها تحت حكم المسلمين، كما أن الدول المسلمة ممنوعة من استضافة القواعد والقوات الغربية على أراضيها، كما يعتبر تنظيم الدولة أيضًا أنه من غير المسموح اتخاذ الدول غير المسلمة حلفاء.
مستقبل تنظيم داعش:
يوضح لورانس أن هناك اتجاهين يمكن من خلالهما فهم مستقبل الدولة الإسلامية في ظل النظام العالمي:
1- السيناريو الأول (سياسة الاحتواء): حيث ظهر اتجاه في عدد من مراكز التفكير الأمريكية يطالب بأن تقوم الولايات المتحدة باتباع سياسة الاحتواء تجاه التنظيم، فيقبل المجتمع الدولي بالدولة الإسلامية، بعد أن تغير من سلوكياتها الهمجية، وتتراجع عن أطماعها التوسعية، ومن ثم وفقًا لهذا الاتجاه فإن داعش ستصبح دولة لها حدودها ومواطنوها وسياستها الداخلية والخارجية.
2- السيناريو الثاني (الحرب الفكرية): يوضح الباحث أن قيام الدولة الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط سوف يؤدي إلى ضرب الاستقرار بتلك الدول، خاصة على المستوى الفكري، وقد وصف الباحث ظهور تنظيم الدولة الإسلامية بالمعضلة الفكرية الأمنية؛ حيث يؤكد أن سعي الأنظمة لمواجهة أفكار التنظيم وجهود تجنيد أعضاء جدد في التنظيم سوف يؤدي -على عكس المتوقع- إلى مزيدٍ من الصراعات، خاصةً إذا تضمنت تلك الجهود بعض القمع الذي يدفع بالبعض من أفراد التيارات الإسلامية الأكثر تشددًا للانضمام لتنظيم داعش، أو تضمنت بعض السياسات الطائفية التي تدفع بالشيعة والأقليات العرقية -على سبيل المثال- لمغادرة الدول.
وسيؤدي اعتماد التنظيم على نشر أفكاره بغرض التوسع إلى لجوء الدول العربية لاستراتيجية مجابهة الفكر بالفكر، والحرص على إظهار هويتها المسلمة، مثل قيام الأردن -على سبيل ¬المثال- بإضافة آيات قرآنية على العلم الوطني، أو قيام الرئيس “عبد الفتاح السيسي” في مصر بتوجيه الأزهر الشريف للعمل على إصلاح الخطاب الديني، وفرض الرقابة على أئمة المساجد وخطب الجمعة ، وإطلاق الأزهر في الفضاء الإلكتروني ما يُعرف بـ”المرصد الإلكتروني” الذي يعمل على تصحيح المعلومات الخاطئة حول الإسلام، والرد على الأفكار التي يبثها التنظيم.
ولكن تكمن المعضلة في أن أساليب مواجهة التنظيم فكريًّا يمكن أن تؤدي إلى زيادة حدة الصراع بدرجة أشد، خاصة مع عدم تمتع بعض القيادات الدينية الوطنية بمصداقية كبيرة، وانتقاد التنظيمات الجهادية لها بأنها مجرد أداة في يد الدولة.
وإجمالا، لا يرى الباحث “لورانس روبين” أي دور للولايات المتحدة في مواجهة تنظيم داعش فيما عدا بعض المساعدات العسكرية للدول الحليفة، إلا أنه يُشير إلى وجود رأي مخالف يؤكد أنه يمكن للولايات المتحدة والدول الغربية أن يكون لها دور فعال في مواجهة تنظيم داعش فكريًّا، حيث يرى أن المواجهة الفكرية الحالية لأفكار تنظيم داعش غير متكافئة، بينما يتم تقديم رؤية متكاملة ومتماسكة للدين من وجهة نظر داعش.
على الجانب الآخر، يكتفي الدعاة المعتدلون بالتأكيد على تسامح الإسلام، ونبذه العنف، والاكتفاء بترديد أحاديث نبوية ومواقف من السيرة متقطعة تدعو للتسامح والتعاون ونبذ العنف، دون تقديم رؤية واضحة كالتي يقدمها التنظيم لتجيب على أسئلة جوهرية تشغل أذهان المسلمين، مثل: لماذا تأخر المسلمون بينما تقدم الآخرون؟.
وفي نهاية الدراسة يؤكد الباحث أن الأيام القادمة سوف تشهد حربًا فكرية بين التنظيم والدول العربية المستهدفة، ونتيجة هذه الحرب ستحسم الإجابة على سؤال: هل تتحول داعش إلى دولة؟.
المؤلف: لورانس روبين
عرض: نورهان سليمان
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية