نهاية هذه الحقبة من نتائج الانتخابات الأمريكية لن تعني أن الولايات المتحدة في مأمن. سيكون بايدن رئيس الولايات المتحدة الجديد، لكن الأثر السلبي لما صنعه الرئيس ترامب مع قاعدته لن يختفي بسرعة. يستطيع أي مراقب أن يرى بوضوح كيف يمكن لملايين من الناس ان تتأثر بشخصية قوية تطرح حلولا تبسيطية وشكلية حول كل المشكلات والأزمات التي تواجهها هذه الفئة. بل توضح لنا التطورات الامريكية كيف يمكن لديكتاتور ان ينشأ في ظل فراغ بين النخب، وفراغ في طرح الحلول الحقيقية. لقد قام بترامب بكل حيلة واسلوب يساعد على بذر بذور تدمير المؤسسة السياسية الأمريكية بما في ذلك التشكيك بأساس النظام الديمقراطي برمته.
الشيء الواضح أن الولايات المتحدة تمر بتغييرات اجتماعية كبيرة. لابد من متابعة ذلك ورصده لأن آثاره مستمرة معنا في السنوات القادمة. فالقاعدة الريفية وقاعدة القرى البعيدة المكونة من البيض وقاعدة الولايات المحافظة ذات الطابع المسيحي أفرزت وضعا يفرض الكثير من الاحتقان بين الناس. الذي حصل في الولايات المتحدة أن ترامب جسد الغضب بين غير المتعلمين من البيض ممن شعروا بأنهم بلا أي قيمة حقيقية امام النخب المتعلمة والاقتصاد الخاص والمهاجرين الناجحين المنافسين واحفادهم. لقد بنى ترامب بين هذه الفئات الكثير من الخوف من الآخر، والكثير من الخوف من المستقبل.
بل وتوضح لنا دراسة مارك ميورو من مؤسسة البروكينغز والتي نشرت منذ أيام بأن القاعدة السكانية التي تمثل 70٪ من الاقتصاد الأمريكي هي التي صوتت لبايدن، بينما الذي صوتوا لترامب هم القاعدة التي ترتبط بحوالي 30٪ من الاقتصاد الأمريكي. وهل يعني هذا ان 72 مليون امريكي من انصار ترامب قاعدتهم 30٪ من الاقتصاد بينما79 مليون ممن صوتوا لبايدن لديهم حصة 70٪ من الاقتصاد الأمريكي.
ويـؤكد مارك ميورو بأن بايدن فاز في 477 مقاطعة أمريكية في طول وعرض الولايات المتحدة، هذه المقاطعات هي 70٪ من الأنشطة الاقتصادية الامريكية، بينما فاز ترامب في 2497 مقاطعة تمثل30٪ من الانشطة الاقتصادية الامريكية.
بالطبع مقاطعات ترامب اقل كثافة سكانية نسبة لقاعدة بايدن مما ساعده على الحسم في عدد هام من الولايات. في المقاطعات التي فاز بها ترامب سنجد بأن نسب التعليم أقل، ونمط الأعمال يقوم على انواع مختلفة من العمال، ونجد أن البطالة في تلك المناطق اكبر. أما في مقاطعات بايدن فالتعليم أعلى، والخبرات أوسع، والاستثمارات أشمل.
لولا سياسة هجرة الكفاءات لما كانت الولايات المتحدة سباقة بالصناعة والأسلحة والتكنولوجيا وغيره. فكم من مهاجر أخذته الولايات المتحدة لمجرد العداء ضد الشيوعية وكم من مهاجر عالم غير الكثير لمصلحتها؟
ومن الضروري معرفة ما يدور بخلد القاعدة الشعبية لترامب. تلك القاعدة تشعر باليأس، إذ لديها كراهية للمدن والطبقات الوسطى، كما والتعليم وهي تتأثر بكل خطاب ديماغوجي وبعيد عن الحقيقة، تلك القاعدة تشعر بالأحقية تجاه الآخرين ولديها عنصرية لو نجحت في ممارستها لحولت الولايات المتحدة لإحدى دول النزاعات والسلوك العنصري. تلك القاعدة التي هي أساس قوة ترامب تنظر للديمقراطيين كمجموعة من الشيوعيين واليساريين والفوضويين، وهذا أقرب للمرحلة المكارثية التي سادت الخمسينيات. هذه الحالة قد تتطور نحو عنف وراديكالية. فهذه القواعد ترى الديمقراطية لمصلحة المتعلمين، والجامعيين، والطبقات المسيطرة والوسطى وسكان المدن والملونين والمرتبطين بها.
هذه المجموعة التي انتخبت ترامب لا ترى ان الولايات المتحدة هي من جلبت الملونين بالأساس في زمن العبودية، وهي من أقامت دولتها على المهاجرين أساسا، وهي لا تملك فهما تاريخيا لتطور الولايات المتحدة التي بنت قوتها على الهجرة، ثم على السيطرة على دول العالم (عبر الحروب والاقتصاد) فأتت من كل دولة بمئات الالوف من المهاجرين كما فعلت بعد وإثناء حرب فيتنام. للاستعمار ثمن وللسيطرة الدولية ثمن، ولجلب المهاجرين ثمن، ولخلق الرفاه المستورد ثمن، بل لولا سياسة هجرة الكفاءات لما كانت الولايات المتحدة سباقة بالصناعة والأسلحة والتكنولوجيا وغيره. فكم من مهاجر اخذته الولايات المتحدة لمجرد العداء ضد الشيوعية وكم من مهاجر عالم غير الكثير لمصلحتها؟ التنوع هو المستقبل والانسحاب منه غير ممكن إلا عبر تدمير المجتمعات. الغاء التنوع وهم.
لكن ماذا سيفعل ترامب من الآن لغاية لحظة التنصيب لبايدن في يناير 2021؟ فالحزب الجمهوري أصبح حزب ترامب، وطريقة عمل الحزب الآن مرتبط بقاعدة ترامب الجمهوري التابعة لترامب والتي يهدد عبرها قادة الجمهوريين إن تمردوا عليه في الكونغرس بالتحديد. فهو يعدهم بعدم إعادة الانتخاب. هذا الوضع الذي يبقى الحزب الجمهوري تحت عباءة ترامب هو أحد اهم نقاط ضعف الحزب. قبل تنصيب بايدن رئيسا في كانون الثاني/ يناير 2021 سيعمل ترامب كل ما يستطيع لخلق مزيد من المتاعب للرئيس الجديد. ان هدف ترامب أن يكون قائدا لتيار يميني محافظ معارض شعبوي متفاعل مع لوبيات الأسلحة واللوبي الصهيوني والشركات. هذه قاعدة لا يشترط ان تكون مكونه من 70 مليونا، لكن نصف هذا العدد ممكن بأمكانه ان يكون جوهر قاعدة ترامب وأساس حمايته من القضايا التي قد ترفع ضد.
لكن ماذا يعني كل هذا للرئيس القادم بايدن؟ انه يعني الكثير. سيكون لزاما على بايدن سحب الهواء من تلك القاعدة، وهذا يعني بالأساس صياغة برامج تغيير للكثير من أوضاع المناطق البعيدة والريفية. إن تغير هذه الأوضاع لن يكون سهلا خاصة وإن ترامب سيكون في محيط وقيادة الحزب الجمهوري، كما أن ترامب سيفكر حتما في انتخابات2024، لدى بايدن 4 سنوات لتغير المشهد الأمريكي، ولاستعادة الثقة بمكانة المؤسسات الدستورية والديمقراطية، ولكسب أنصار من الحزب الجمهوري، ولتغير وضع المناطق البعيدة والنائية، ولتغير الخطاب السياسي السلبي الذي بثه ترامب. ان الفشل في صناعة هذا التغير من قبل الحزب الديمقراطي سيترك آثار كبيرة على مستقبل الولايات المتحدة.
د.شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي