وقعت 15 دولة اتفاق تجارة حرة، بعد مفاوضات استغرقت 8 سنوات؛ وهو ما يصفه المراقبون بأنه انتصار جيوسياسي للصين، التي يمثل ناتجها المحلي أكثر من 50% من قيمة الاتفاق.
وسيمكن اتفاق الشراكة الاقتصادية الشاملة -الذي وُقع خلال قمة إقليمية في العاصمة الفيتنامية هانوي- الصين من تحطيم بعض الأرقام القياسية؛ بإضافة زخم كبير لتحرير التجارة والاستثمار، وسيسهم في بناء سوق عملاقة تضم أكثر من 2.3 مليار شخص.
ويرى مختصون أن هذا الاتفاق بمثابة نجاح كبير للصين في تعزيز روابطها التجارية والاقتصادية في محيطها الإقليمي، لا سيما في منطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي، حيث تضم اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة إلى جانب الصين دول الآسيان العشر، بالإضافة إلى أستراليا ونيوزيلند وكوريا الجنوبية واليابان.
كتابة قواعد اللعبة
يرى الباحث في الاقتصاد الدولي أحمد القاروط أن الصين تتحول حاليا نحو الاستهلاك الداخلي كمحرك للاقتصاد العالمي، بدلا من كونها دولة مصدرة، حيث تقوم بتدويل عملتها، في مقابل تخليها عن جزء من التصنيع لصالح الإقليم، وتحاول من خلال هذه العملية دمج الإقليم ضمن قواعد تكون هي فيه مصدر المال والتكنولوجيا المتقدمة.
ويقول القاروط إن “هذا محرك رئيسي إستراتيجي لهذه الصفقة، ويتغير العالم لصالح أن الصين لن تعود مصنع العالم للبضائع الرخيصة، مما يسمح في نهاية المطاف للصين -كونها أكبر مستورد في هذه السوق- بأن تخط قواعد التجارة البينية مع كثير من الدول”.
ويقول الصحفي المختص في الشأن الاقتصادي دسوقي عبد الحميد للجزيرة نت إن هذا الاتفاق سيساعد الصين على مواجهة سياسات الحمائية والانعزالية التي تنتهجها بعض الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، من خلال تعزيز وجودها في منطقة الآسيان، التي أصبحت أكبر شريك تجاري للصين، متجاوزة بذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
وبلغ حجم التجارة بين الصين ودول الآسيان 2.09 تريليون يوان (نحو 299 مليار دولار أميركي) في الأشهر الستة الأولى من عام 2020، بزيادة 5.6% على أساس سنوي.
من جهة أخرى، سيدعم هذا الاتفاق جهود الصين لتعزيز بناء “الحزام والطريق” في منطقة جنوب شرق آسيا، وسيعمل على دفع الآليات التي أسستها الصين لإنجاح المبادرة، وعلى رأسها البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.
تحجيم الدور الأميركي
لعبت مجموعة عوامل دورا سلبيا أثّر على الروابط التقليدية الوثيقة التي كانت تجمع بين الولايات المتحدة وبعض الاقتصادات الآسيوية، جعلت الأخيرة تنظر بعين الريبة إلى تحالفها وعلاقاتها مع واشنطن بوصفها شريكا موثوقا به.
ويوضح المختص في الاقتصاد السياسي زيّان زوانه أن الاتفاق يوجِد أرضية لمصالح اقتصادية وتجارية تعزز قدرات الصين التنافسية أمام أميركا، خاصة في ظل الحرب الباردة التي شنتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الصين، تحت عناوين الحرب التجارية والعلمية والاستثمارية، ومحاولات إدارة ترامب حصار الصين بتغذية مشاكل الصين مع جيرانها الآسيويين حول الحدود البحرية والجزر في مياه الإقليم.
ويضيف أن ذلك “يعني محاولة سحب البساط من تحت الأقدام الأميركية، وتغليب المصالح المشتركة مع الموقعين على الخلافات الموجودة، وإمكانية التجاوز نحو حلها، مما يحرم أميركا من ورقة ضغط على الصين”.
في المقابل، يعتقد الأستاذ بجامعة الاقتصاد والتجارة الدولية في بكين دينغ لونغ أن “الصين لا تسعى لبسط نفوذ سياسي على حساب الولايات المتحدة الأميركية”.
ويقول -في حديث للجزيرة نت- إن “معظم الدول الأعضاء -شركاء الولايات المتحدة- سيزيد اعتمادهم على الصين تجاريا، في حين ستبقى تعتمد على واشنطن سياسيا وأمنيا، ولن يتغير هذا الواقع في المستقبل المنظور”.
خارطة اقتصادية جديدة للإقليم
باعتباره أكبر اتفاق تجارة حرة في العالم يمثل نحو 30% من حجم الناتج المحلي العالمي، سيسهم هذا في إعادة هيكلة خارطة التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي على الصعيدين الإقليمي والعالمي، كما سيساعد اقتصادات المنطقة في تعزيز الترابط والتكامل الإقليمي، بالإضافة إلى مساعدة دول المنطقة على مواجهة التأثيرات السلبية لجائحة كوفيد-19، وتعزيز وتيرة التعافي الاقتصادي، وفق ما أوضحه الصحفي دسوقي للجزيرة نت.
من جانبه، يقول زوانه إن الاتفاق سيكون منصة دافعة للتبادل التجاري بين الدول الموقعة عليه، في ظل تعقد سلاسل التزويد التي كانت الاتفاقات التجارية الثنائية/الثلاثية تقف حجر عثرة أمامها، في وقت يتوقع أن يصل الاتفاق إلى مستوى المنطقة التجارية الحرة بين الأعضاء خلال فترة 20 عاما.
وحسب تقارير صحفية، فإن الصفقة من المرجح أن تفيد الصين واليابان وكوريا الجنوبية أكثر من الدول الأعضاء الأخرى، لكن الأمر قد يستغرق بعض الوقت قبل أن ترى أي دولة الفوائد، لأنه يتعين على 6 دول في الآسيان و3 دول أخرى التصديق عليها قبل أن تصبح سارية المفعول.
وفي هذا الصدد، أشار القاروط إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تعيق إتمام تشكيل هذا التحالف الاقتصادي عبر الضغط على البرلمانات الوطنية في بعض البلدان، التي تتبني مشاعر مناهضة للصين.
المصدر : الجزيرة