مفارقات كثيرة أحاطت بتعاطي الطبقة السياسية العراقية مع فوز الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، إذ انهالت التهاني من مختلف ألوان الطيف السياسي العراقي على بايدن ونائبته كامالا هاريس حتى قبل الإعلان الرسمي عن فوزهما، وقد خرق عدد من قادة الكتل السياسية البروتوكول، حين بعثوا تهانيهم بالفوز، إذ بدت رسالتي التهنئة التي بعثها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء العراقي مفهومة في إطارها البروتوكولي، لكن المستغرب في الأمر كان رسائل التهنئة التي أنهالت على بايدن من مختلف الشخصيات السياسية العراقية مثل نوري المالكي رئيس كتلة دولة القانون، وأسامة النجيفي رئيس جبهة الإنقاذ، وعادل عبد المهدي رئيس الوزراء السابق، ومسعود بارزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني وقيادات كردية رسمية وحزبية عديدة.
قنوات التلفزيون التابعة لأحزاب عراقية، سلطت الضوء بكثافة في برامجها الحوارية، منذ إعلان فوز جو بايدن على موضوع قديم أعيد أحياؤه، وهو ما بات يعرف في الإعلام العراقي بـ(مشروع بايدن لتقسيم العراق) وكان الأداء الإعلامي قد ركز على جزئية أن احياء هذا المشروع بعد دخول الرئيس المنتخب إلى البيت الابيض أمر قائم ومحتمل.
لكن من جهة اخرى ركزت بعض وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي على جزئيات خبرية، بعضها مفبرك، تحدثت عن علاقة إدارة أوباما بالإخوان المسلمين والربيع العربي، بل وصل الحد إلى اتهامها من بعض القنوات بالوقوف وراء تشكيل «داعش» أما من حاول أن يتصف ببعض الموضوعية، فقد طرح المعلومة على إنها كانت اتفاقا بين إدارة أوباما ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، لتسهيل دخول مقاتلي «داعش» للعراق، واحتلال المحافظات السنية في العراق في صيف 2014.
إغلاق السفارة الأمريكية في بغداد، يعني إغلاق 11 سفارة اخرى، ما ينتج عنه عزلة دولية ستفرض على العراق
ولتوضيح موضوع (مشروع تقسيم العراق) الذي يرتفع الصراخ حوله بين الحين والآخر، لابد من أن نبين أن الأساس كان مقالا كتبه جو بايدن في جريدة «نيويورك تايمز» في الأول من أيار/مايو 2006 عندما كان عضوا في مجلس الشيوخ، ويعمل في لجنة العلاقات الخارجية في المجلس، وقد اشترك مع بايدن في كتابة المقال ليزلي غيلب الرئيس الفخري في مجلس العلاقات الخارجية، المقال كان عنوانه (الوحدة عبر تطبيق الحكم الذاتي في العراق) وقد ركز الكاتبان في المقال، عبر استلهام خبرات الحلول التي حصلت في أزمة حرب البوسنة، فطرحا حل إقامة ثلاثة أقاليم فيدرالية في العراق،(أحدها وهو أقليم كردستان كان قائما بالفعل) مع التأكيد على بقاء العاصمة بغداد ممثلة للسلطة الاتحادية، وذلك لإيقاف الحرب الطائفية، وموجة القتل على الهوية، التي اندلعت بعد تفجير مرقد الامامين العسكريين في سامراء. وقد أشار الكاتبان إلى أن الدستور العراقي، أكد على إمكانية إقامة الأقاليم الفيدرالية عند رغبة المواطنين بذلك، كما كانت بعض القيادات العراقية تطالب بإقامة إقليم الوسط والجنوب (إقليما شيعيا) وأبرز هذه القيادات كان السيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الاسلامي الاعلى. وفي أيلول/سبتمبر 2007، عندما كان الجمهوريون في الحكم في الولاية الثانية للرئيس جورج بوش الابن، بينما كان الديمقراطيون يسيطرون على الأغلبية في مجلس الشيوخ، طرح مشروع الأقاليم الفيدرالية في العراق للتصويت في مجلس الشيوخ، والنتيجة كانت موافقة الاغلبية (75 مقابل 23 وامتناع 2 عن التصويت) لذلك أصدر المجلس توصية غير ملزمة للحكومة، باتخاذ إجراءات تدعم الفيدرالية في العراق.
رد فعل إدارة بوش كان رفض تبني توصية الكونغرس، نتيجة للرفض العراقي الذي أجمعت عليه الكتل السياسية السنية والشيعية، التي صرحت في بيان رسمي جاء فيه؛ «إن الكونغرس تبنى هذا الاقتراح بناء على قراءة غير صحيحة وتقديرات غير واقعية لتاريخ العراق وحاضره ومستقبله، وإن هذا الأمر يمثل سابقة خطيرة لتحديد طبيعة العلاقة بين العراق والولايات المتحدة، إذ يظهر الكونغرس كما لو كان يخطط لاحتلال طويل الأمد من قبل قوات بلاده» لذلك سارعت السفارة الأمريكية في بغداد إلى إصدار بيان نأت فيه بنفسها عن توصية مجلس الشيوخ، الذي يقوده الديمقراطيون، وذكرت أن الإدارة الأمريكية ترفض توصيات مجلس الشيوخ، وعند هذه النقطة انتهى هذا «المشروع» ولم يعد جو بايدن لفتحه مجددا، حتى عندما أصبح نائب الرئيس ومسؤولا عن الملف العراقي لمدة ثماني سنوات. كما تجدر الاشارة إلى العديد من المفارقات والتشوش في المواقف العراقية إزاء فوز جو بايدن، فقد اختلطت المواقف في نقطتين حساستين، الأولى في ما بات يعرف بـ»خلايا الكاتيوشا» وما تقوم به بعض الميليشيات القريبة من طهران من إطلاق رشقات من صواريخ الكاتيوشا على السفارة الامريكية، وبعض أماكن تواجد القوات الأمريكية في العراق، وعجز حكومة الكاظمي الواضح في هذا الملف. والنقطة الثانية، وهي مرتبطة بالنقطة الأولى بشكل جذري، وتمثلت بضغط الفصائل الولائية على البرلمان، وعلى حكومة الكاظمي لتطلب من الإدارة الامريكية جدولة انسحاب قواتها العسكرية من العراق. ويجب أن ننبه إلى أن ارتياح بعض القوى السياسية العراقية لفوز بايدن لا يمكن فصله عما استشعرته من متنفس، نتيجة زوال ضغوط إدارة ترامب، إذ تعد القوى القريبة من طهران إدارة الرئيس ترامب وضغوطها على إيران، عدوا يجب محاربته، وبشكل خاص بعد اغتيال الجنرال سليماني وأبو مهدي المهندس، مطلع عام 2020، وهذا الأمر هو الذي أجج عمليات إطلاق صواريخ الكاتيوشا على السفارة الأمريكية، مع عجز واضح من حكومتي عبد المهدي والكاظمي على ضبط هذه الميليشيات ومحاسبتها على ما تقوم به، وقد أصبح الأمر أكثر خطورة مع تزايد حالات إصابة المدنيين العراقيين بصواريخ هذه المليشيات.
لكن القوى القريبة من الولايات المتحدة بدورها كانت قد أعربت عن ارتياحها لدور إدارة ترامب الساعي لتحجيم دور إيران في العراق، وفرحت بالخلاص من شخصية خطيرة مثل الجنرال سليماني، لذلك فإن هذه القوى رأت في فوز بايدن إيذانا بانتهاء سياسة الضغط القصوى التي مارستها إدارة ترامب على طهران، كما أن عودة إدارة بايدن للاتفاق النووي الايراني، سيعني إطلاق مليارات الدولارات من مستحقات الودائع الايرانية، ما يعني تحسن الاقتصاد الايراني الذي سينعكس بالضرورة على تنامي الدور الايراني مجددا في العراق والمنطقة.
لكن من جانب آخر نحن نعرف أن الخارجية الأمريكية في الأسابيع الأخيرة ومنذ شهر أيلول/سبتمبر الماضي، قد هددت بإغلاق السفارة الأمريكية في بغداد، وهذا الأمر يعني إغلاق 11 سفارة اخرى، مما ينتج عزلة دولية ستفرض على العراق، وقد ألقى بيان الخارجية الامريكية باللائمة على حكومة الكاظمي، التي فشلت في الكشف عن مرتكبي إطلاق الصواريخ والقبض عليهم ومحاسبتهم، كما أن القرار الأخير الذي أصدره الرئيس ترامب بجدولة انسحاب وتخفيض القوات الامريكية في العراق مع الإبقاء على بعض القوات لأغراض التدريب وقتال فلول عصابات تنظيم الدولة «داعش» هذه القرارات أصابت المشهد السياسي العراقي بالتخبط، إذ تبرأ العديد من الفصائل الولائية مما كانت تسميه قبل أسابيع مقاومة الاحتلال، وأنكرت تحرضيها على ضرب السفارة الأمريكية.
وفي هذا المضمار أشار قيس الخزعلي قائد ميليشيا عصائب أهل الحق في لقاء تلفزيوني قبل أيام، إلى انتهاء هدنة الفصائل، بانتهاء الانتخابات الامريكية، وعزا الخزعلي انتهاء هدنة الفصائل، إلى «انتهاء الانتخابات الامريكية فضلا عن عدم تحقق الشروط التي على أساسها حصل الاتفاق» كما أشار إلى وجود اختلاف في وجهات النظر بين الفصائل المسلحة، إزاء قصف المنطقة الخضراء، مؤكداً على أنه يتبنى الاتجاه الذي لا يفضل قصف السفارة، فيما تحدث عن ثلاثة شروط لوقف الأعمال العسكرية، وأضاف أن «وقف الأعمال العسكرية، يأتي وفق شروط: أولها، عدم إبقاء أي قاعدة عسكرية غير عراقية، والسيادة على الأرض والسماء، مع وجود فني بتحديد الحكومة». ولفت إلى أن» التهديدات التي صدرت من الجانب الامريكي حول غلق السفارة لم تكن سوى حرب نفسية» مؤكداً «وقوفه مع الخيارات الدبلوماسية وليس مع استهداف السفارة الامريكية في الوقت الراهن».
وتبقى في الوقت الراهن خطوات إدارة بايدن التي ستتخذها في الملف العراقي موضع تنبئوات، لكن المؤكد أن الملف العراقي بات هامشا لتعاطي الإدارات الامريكية مع الملف الإيراني، وبالتالي فإن القرارات ستكون محكومة بتطورات هذا الملف.
صادق الطائي
القدس العربي