قد يعني وصول إدارة جديدة بقيادة بايدن في الولايات المتحدة عودةً إلى المفاوضات بين إيران والمجتمع الدولي بشأن مواصلة تطوير برنامجها النووي. وفي حال حصول هذه المفاوضات، سيتعين على إسرائيل الاختيار بين ما إذا كانت تريد قيادة دفة هذه المفاوضات كما فعلت مع “خطة العمل المشتركة الشاملة”، فترفض الاستسلام للأمر الواقع وتشجب المحادثات، أو ترغب في أن تكون جهة فاعلة مؤثرة في صياغة اتفاق جديد، على أمل أن تضمن معالجة بعض مصادر قلقها على الأقل.
ويكشف تاريخ “خطة العمل المشتركة الشاملة” وبرنامج إيران النووي النقاب عن مجموعة معقدة من العوامل التي سيتعين على إسرائيل التعامل معها عند مقاربة مسألة إبرام اتفاق نووي جديد بين المجتمع الدولي وإيران.
ففي خلال تسعينيات القرن الماضي، سعت إيران في عهد المرشد الأعلى آية الله خامنئي إلى الحصول على سلاح نووي، وشاركت حتى عام 2003 على ما يبدو في مسعى لتطويره. غير أن الغزو الأمريكي للعراق (الذي مثّل تهديدًا ملموسًا لإيران) والضغوط الدولية الكبيرة عقب كشف حقائق متعددة متعلقة ببرنامجها النووي، أرغمت طهران على مراجعة حساباتها واختارت بدلًا من ذلك توسيع عمليات التخصيب محليًا، مركزةً على تطوير منشآت تحت الأرض وعلى محاولة (محدودة على ما يبدو) بناء مفاعل ذري في أراك.
وعلى الرغم من الضغوط الدولية الهائلة وعدد من الهجمات الغامضة على منشآت التخصيب، واصلت إيران تطوير البنية التحتية لأجهزة الطرد المركزي في خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. غير أن إيران حرصت على ألا تتجاوز “الخط الأحمر” الذي رسمته إسرائيل والمجتمع الدولي على صعيد مستوى التخصيب وحجم اليورانيوم العالي التخصيب الذي راكمته. وتشكّل مواصلة إيران تطوير برنامجها النووي في ظل هذه الضغوط الهائلة دليلًا على إجماع القيادة الإيرانية على حق الجمهورية الإسلامية في تطوير برنامج نووي (مدني في الظاهر).
وفي عام 2013، وصل العدد المتزايد من الأحداث المترافقة مع التوتر الأمريكي-الإيراني إزاء تطوير إيران برنامجها النووي إلى “درجته القصوى”، ما أدّى إلى إطلاق مفاوضات مباشرة بين إيران والولايات المتحدة، بوساطة من عُمان، تُوّجت في نهاية المطاف بالاتفاق النووي المعروف باسم “خطة العمل المشتركة الشاملة”. وعليه، أفضى استعداد الولايات المتحدة للاعتراف بحق إيران في التخصيب وانتخاب الرئيس الإيراني حسن روحاني (الذي دعم فكرة المشاركة في المفاوضات من أجل تعزيز سمعة إيران في المجتمع الدولي) واستعداد المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية غير المسبوق للمضي قدمًا بمثل هذه المحادثات المباشرة، إلى إبرام الاتفاق التاريخي، الذي لم تخلُ المفاوضات المتعلقة به من تحديات كبيرة.
وبموجب الاتفاق، قبلت إيران عمليًا بفرض قيود مشددة على برنامجها النووي لفترة محدودة من الزمن، استنادًا إلى الافتراض بأنه عند انقضاء هذه الفترة، ستتمكن من توسيع برنامجها النووي على أن يكون خاضعًا للمراقبة وأن تستفيد بالتالي من المكاسب الاقتصادية للاتفاق، التي كان من المفترض أن تنتشل اقتصادها من كبوته. وفي موازاة ذلك، عارضت إسرائيل المفاوضات وحاولت منع “مجموعة الخمس زائد واحد” (الولايات المتحدة والصين وفرنسا والمملكة المتحدة وروسيا وألمانيا) من إبرام أي اتفاق مع إيران. حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ذهب أبعد من ذلك وتدخل في السياسة الأمريكية الداخلية بغية وقف الاتفاق. وأسفرت هذه المقاربة الإسرائيلية عن منعها من التأثير في المفاوضات وتركت القدس لتتعامل مع إيران بمفردها.
وعليه، وبعد فترة قصيرة، تلقت إسرائيل بسرور قرار الرئيس دونالد ترامب القاضي بانسحاب الولايات المتحدة من “خطة العمل المشتركة الشاملة”. وكان ثمة توافق كامل بين إدارة ترامب وإسرائيل في ما يتعلق بالحاجة إلى ممارسة ضغوط اقتصادية على إيران والتخلي عن الخطة.
في تلك اللحظة، واجهت إيران حقيقة قاسية. فمن جهة، كان برنامجها النووي محدودًا للغاية من حيث حجم ومستوى التخصيب المسموح به في منشآتها النووية، ومن جهة أخرى، لم تكن تستفيد من المزايا الاقتصاية للاتفاق. وفي ظل هذه الظروف، لم يبق أمام الرئيس روحاني، الذي كان يعوّل على الاتفاق لتحقيق مكاسب اقتصادية لإيران والتمتع بالسطوة السياسية الناتجة التي كان سيحصل عليها، سوى خرق بنود الاتفاق النووي.
وعلى الرغم من الجهود المتكررة التي بذلها كبار المسؤولين في المجتمع الدولي، واصلت إدارة ترامب تعنتها لجهة الانسحاب من الاتفاق، حتى أنها اختارت زيادة الضغوط الاقتصادية على طهران على افتراض أنها ستدفع بإيران إلى التخلي عن برنامجها النووي ككل. وعليه، دفعت هذه الأفعال بإيران إلى إظهار ردّ فعل عنيف سواء في الخليج العربي أو في ما يتعلق ببرنامجها النووي. واتخذت إيران موقفًا “ثابتًا” لم تعتزم بموجبه القيام بأي تنازلات تتعلق ببرنامجها النووي.
واليوم، إن الوضع الاقتصادي في إيران خطير بعدما فاقمه تفشي وباء فيروس كورونا (كوفيد-19). وفي ظل هذا الاقتصاد السيئ تعتمد قدرة إيران على “انتزاع” تنازلات كبيرة من المجتمع الدولي قد تؤدي إلى رفع العقوبات الأمريكية وعودة الولايات المتحدة إلى طاولة المفاوضات، بشكل شبه كامل على قدرة التخصيب لديها. ومن خلال تعزيز نشاط التخصيب، يمكن لإيران أن تبيّن للمجتمع الدولي الثمن الذي سيدفعه في حال عدم عودة مختلف الأطراف إلى “خطة العمل المشتركة الشاملة”.
إلى ذلك، سيصطدم أي مسعى تبذله الإدارة الأمريكية الجديدة لبدء مفاوضات جديدة بعقبات كبيرة. فمن الجانب الإيراني، ثمة عدد من العقبات الجوهرية التي ستصعّب استئناف المفاوضات إذ إن البيئة السياسية الحالية في طهران لا تسمح بإبرام اتفاق على غرار “خطة العمل المشتركة الشاملة” كما حصل في الماضي. فبعد حوادث متعددة كاغتيال قاسم سليماني، تراجعت ثقة المسؤولين الإيرانيين المحدودة أساسًا بالولايات المتحدة إلى حدّ كبير. فضلًا عن ذلك، خسرت القوى السياسية المحافظة المعتدلة، مثل الرئيس روحاني، التي سهّلت إبرام الاتفاق نفوذها. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية في إيران، من المرجح أن تشدّد بيئة سياسية جديدة أكثر تحفظًا على الطلبات الصارمة أساسًا في أي مفاوضات. وتشمل هذه الطلبات رفع العقوبات بالكامل والتعويض عن الخسائر المتكبدة بسبب العقوبات والسماح باحتفاظ إيران بقدراتها النووية القائمة التي يعتبرها الآن الكثير من أعضاء النظام الإيراني من مختلف الأطياف السياسية أساسية لأمن البلاد.
غير أن جو بايدن يبدو ملتزمًا بإمكانية إجراء مفاوضات جديدة. ولحسن الحظ، ورغم التحديات، من المرجح أن تدفع الضغوط التي تمارسها “مجموعة الدول الخمس” واستعداد إدارة بايدن، فضلًا عن ضغوط وباء فيروس كورونا (كوفيد-19)، بالطرفين إلى تخطي العوائق والعودة إلى طاولة المفاوضات.
وفي مواجهة هذ العوامل المعقدة، على إسرائيل التفكير في ما إذا كانت ستواصل اعتماد السياسة التي انتهجتها في خلال عهد إدارة الرئيس أوباما أو تضطلع بدور بنّاء حقيقي في رسم معالم اتفاق يجري التفاوض بشأنه مع إيران. وبما أن الجميع يدرك أن إيران والمجتمع الدولي سيرغبان على الأرجح في التوصل إلى اتفاق آخر، يُعتبر وجود إسرائيل، أقلّه خلف الكواليس، ضروريًا لضمان أن يكون أي اتفاق مستقبلي متوائمًا إلى حدّ ما مع متطلباتها وحاجاتها.
ولسوء الحظ، قد تكون نقطة الانطلاق الوحيدة في هذه المفاوضات التي ستقبل بها إيران تمديد قيود “خطة العمل المشتركة الشاملة”. ورغم ازدياد قدرات إيران النووية، من المستبعد أن توافق على أي قيود أكثر صرامةً. علاوةً على ذلك، لن تبدّل على الأرجح إيران رأيها بشأن رفض مناقشة قضايا معينة على غرار ترسانة الصواريخ التي تمتلكها وأنشطتها الإقليمية كجزء من الاتفاق. ولكن بغض النظر عن هذه الصعوبات، قد يؤدي عدم انخراط إسرائيل في هذه المفاوضات إلى اتفاق ينعكس بشكل أسوأ بعد على مصالحها.
أما المواقف التي على إسرائيل تقديمها إلى “مجموعة الدول الخمس زائد واحد”، فلا بدّ من أن تكون واقعية. فمطلب تفكيك البرنامج النووي الإيراني يتماشى مثلًا مع سياسة إسرائيل ولكن من المستبعد أن توافق عليه القوى العظمى، ولا سيما أنه سبق للولايات المتحدة والمجتمع الدولي أن أقرا بحق إيران في التخصيب. وبالتالي، على إسرائيل الإصرار على عدد من المبادئ الأساسية والواقعية وتشمل بشكل أساسي تمديد كبير لشروط الاتفاق النووي، واستمرار العمل بنظام عمليات التفتيش الفضولية، ووضع قيود كبيرة على قدرات إيران في مجال الأبحاث والتطوير في المجال النووي بشكل خاص، بحيث لا تتمكن من تطوير أجهزة طرد مركزي متطورة ستسهل إلى حدّ كبير عملية إخفاء التخصيب عن الإشراف الدولي في المستقبل.
وعلى صعيد مسألة القيود على قدرات إيران الصاروخية ونشاطها الإقليمي، من غير المؤكد إن كان على إسرائيل الإصرار على إدراج هاتين المسألتين في إطار الاتفاق. فأي مطلب مماثل قد يُعتبر محاولة إسرائيلية لتخريب المفاوضات، ولكن من الضروري التذكير أن تهديد إيران المباشر لإسرائيل هو في المقام الأول نتاج قدراتها النووية. ومن دون أخذ “حزب الله” في الحسبان، فإن قدرة إيران على تهديد إسرائيل فعليًا بترسانتها الصاروخية محدودة للغاية نظرًا إلى البعد الجغرافي بين البلديْن، ومنظومة إسرائيل المتطورة المضادة للصواريخ. فضلًا عن ذلك، وفي حال أصبحت هذه المسائل جزءًا من اتفاق محتمل مع إيران، فمن المرجح أن تكون حلولها محدودة للغاية وألا تلبي مطالب إسرائيل. كما أن إدراج هذه المسائل في الاتفاق من شأنه أن يحدّ من قدرة إسرائيل على التصدي لها في المستقبل، بما أن خطوة مماثلة ستسمح لإيران بانتهاك الاتفاق النووي بسبب ارتباط مختلف هذه المسائل ببرنامج إيران النووي. فالاتفاق المستقبلي الذي سيقوّض قدرات إيران النووية بشكل كبير سيمنح إسرائيل الوقت والموارد للتعامل بشكل مستقل مع جوانب أخرى من قدرات إيران.
وبافتراض أن إسرائيل تسعى إلى التأثير في الاتفاق النووي، سيتعين عليها تعديل مطالبها لتتواءم مع المهمة الدبلوماسية الصعبة أساسًا التي ستقوم بها. فإن تقدّم المفاوضون الإسرائيليون بمطالب متطرفة أو متشددة، قد يُتهمون بأن هدفهم الفعلي هو عرقلة المفاوضات وتعقيدها. كذلك، ينعيّن على المسؤولين الإسرائيليين استغلال فرصة المفاوضات الجديدة في ظل المناخ السياسي الحالي لبناء تحالف “عربي-إسرائيلي” مع الدول الخليجية، في خطوة قد تضفي المزيد من الشرعية على جهود المفاوضين الإسرائيليين.
فالتحالف بين إسرائيل والدول الخليجية من شأنه أن يلعب دورًا أكبر في الضغط على الإدارة الأمريكية المنتخبة حديثًا لمواصلة ممارسة الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية على إيران عند بدء المفاوضات. وقد يطرح هذا التحالف إمكانية تشكيل جبهة عسكرية مشتركة تشمل الولايات المتحدة، لتكون بمثابة رادع أمام مواصلة إيران تطوير برنامجها النووي، وقد يسعى التحالف إلى وضع “خطوط حمراء” لا يجب أن تتخطاها بنود الاتفاق الجديد. وسيساهم هذا التحالف بالحصول على دعم المجتمع الدولي لهذه المساعي.
وفي حال قررت إسرائيل أن تصبح جهة فاعلة مؤثرة وتتعاون مع إدارة بايدن المستقبلية، فقد تتمكن من تجنب أسوأ السيناريوهات التي يبرم فيها أكبر حلفائها اتفاقًا مع أحد أكبر أعدائها ويضرّ بمصالحها بشكل كبير. وللاضطلاع بدور مماثل في هذه المفاوضات، على المسؤولين الإسرائيليين البدء بإرساء الأساس الآن، والعمل مع الدول الخليجية لضمان إدراج مصالحها الأمنية في أي مفاوضات مستقبلية في ظل إدراك أنه لن تتمّ تلبية مطالبها كافة على الأرجح.
داني دانيس
معهد واشنطن