قد لا يكون قرار الجنرال حسين دهقان بالترشح لسباق الانتخابات الرئاسية الإيرانية في 18 حزيران (يونيو) 2021، مفاجئاً أو من خارج بعض السياقات التي يجري الحديث عنها في ما يتعلق بمستقبل الجهة التي ستتولّى إدارة البلاد، وتقبض على السلطة التنفيذية في النظام الإيراني. وهذا لا يعني أن دفع دهقان بورقة ترشحه والإعلان عنها قد يكون هو المفاجأة، ويحمل الكثير من المؤشرات إلى وجود جدّية في وصوله إلى هذا الموقع، وقطع الطريق على المرشحين الآخرين الطامحين للجلوس على كرسي الرئاسة بعد حسن روحاني، كونه يشغل منصب “مستشار المرشد (علي خامنئي) لشؤون الصناعات الدفاعية والعسكرية”، أي أنه لم يقدم على هذه الخطوة من دون الحصول على ضوء أخضر من خامنئي يضمن تأييده ودعمه، ليكون مقدماً بين متساوين طامحين إلى هذا الموقع من داخل التيار المحافظ بكل أجنحته، والأوفر حظاً بينهم ليكون محل ثقة المرشد والمؤسسة العسكرية.
وقد يكون دهقان هو المرشح الرئيس والنهائي للمؤسسة العسكرية، تحديداً “حرس الثورة الإسلامية”، وقد لا يكون كذلك لجهة أن الفترة الفاصلة للانتخابات في حدود ثمانية أشهر، ومن الممكن أن تشهد تحوّلات أو تطورات تفرض على الجهة الداعمة لترشيحه، إدخال تعديلات على خططها وأولوياتها. إلا أن ما يميّز دهقان عن المرشحين الآخرين المطروحين حالياً، أنه لم يغادر هذه المؤسسة حتى الآن، وما زال من عناصرها الفاعلين والعاملين، وتنقّل في السنوات الأخيرة من موقع إلى آخر في إطار عمل وتمثيل هذه المؤسسة، حتى بعد انتقاله إلى مكتب المرشد “البيت” ليكون مستشاراً له في شؤون الصناعات العسكرية والدفاعية، التي تشرف على مختلف الأنشطة الاستراتيجية من نووية وصاروخية، وصولاً إلى النفوذ الإقليمي، نظراً إلى دوره المبكر وانخراطه في العمل خارج الحدود الإيرانية، تحديداً على الساحة اللبنانية في الفترة التي شهدت انتشار عناصر من الحرس الثوري في هذا البلد بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وما يُقال عن دوره حين كان يتولّى قيادة قوات الحرس في سوريا ولبنان، في التفجير التي استهدف مقر قوات المارينز الأميركية بالقرب من مطار بيروت عام 1983، وأدى إلى سقوط حوالى 241 جندياً أميركياً.
الدفع أو الضوء الأخضر لترشّح دهقان الآتي من “البيت”، لا يخرج عن الإطار العام الذي حكم وسيطر على آليات عمل المؤسسة العسكرية في حرس الثورة وجهودها للسيطرة على مفاصل القرار في السلطة التنفيذية. وهو خيار يدخل في إطار استراتيجية قديمة تتجدّد كل أربع سنوات مع موعد الانتخابات الرئاسية، وشكّلت مصدر قلق لدى الكثير من القوى الإيرانية، خصوصاً الإصلاحية التي عملت على التصدي لجهود عسكرة النظام بشكل واضح في انتخابات عام 2009، من خلال الدفع بترشيح مير حسين موسوي ودعمه لقطع الطريق على عودة محمود أحمدي نجاد، وما تؤسس له من تكريس نفوذ وتغلغل المؤسسة العسكرية في القرار السياسي وإدارته، لا سيما أن هذه القوى وأثناء رئاسة محمد خاتمي، خاضت معركة لاستعادة الإمساك بإدارة الملفات السياسية والدبلوماسية والعلاقات الخارجية، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط (المحيط الإيراني)، التي بدأت تتكرّس لصالح حرس الثورة الذي صادر مهمة تعيين السفراء الإيرانيين في عدد من عواصم المنطقة من يد الخارجية والحكومة، وتولّى رسم سياسات النظام في التعامل مع هذه الدول بالتنسيق مع مكتب المرشد “البيت”، الذي يعتبر المسائل المتعلقة بالقرارات الاستراتيجية على الساحتين الدولية والإقليمية من صلب اختصاصاته، فلا يسمح لأي طرف داخلي بالتأثير في مساراتها.
إن لجوء قيادة النظام إلى تبنّي ترشّح دهقان للسباق الرئاسي في حال حصوله، يعني أن النظام وقيادته قد استنفدت كل خياراتها في البحث عن بديل، يسدّ الفراغ الذي أحدثه الاغتيال الأميركي لقائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني، الذي كان يُعتبر المرشح الطبيعي والخيار الأنسب لهذه القيادة، ليكون على رأس السلطة التنفيذية بما يضمن توحيد القرار السياسي والاستراتيجي والتنفيذي في قبضة دائرة القرار الأساسية للإدارة العميقة.
والذهاب إلى هذا الخيار في مرحلة قد تشهد مساعٍ دولية لإعادة فتح مسار التفاوض مع واشنطن، بغية إحياء الاتفاق النووي وتخفيف العقوبات الاقتصادية، يعني أن النظام يحاول رفع “البطاقة الحمراء” في وجه ما يمكن أن تذهب إليه الإدارة الأميركية من فرض شروط على آليات عودتها إلى الاتفاق النووي، بالتالي وضع شخصية في صدارة المشهد السياسي والتنفيذي، سبق أن وضعتها إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب على لائحة العقوبات، ويأتي من مؤسسة سبق أن أُدرجت أيضاً على لائحة المنظمات الداعمة للإرهاب (حرس الثورة)، بما يشكل تحدياً للإدارة الجديدة في التعامل مع هذه المعضلة. كما أن أي تشدد قد تبديه واشنطن في رفض التفاوض مع هذا الرئيس في حال كان الفائز أو الرئيس المقبل لإيران، يعني أنها أسقطت كل الذرائع في رفضها لإرادة الشعب في خياراته بغض النظر عن حجم التمثيل، وتعطي لمرشد النظام الغطاء أو المسوّغ السياسي والقانوني لرفض الضغوط الأميركية التفاوضية، في حين يشكل قبول واشنطن بهذا الرئيس انتصاراً سهلاً على عقيدة العقوبات والضغوط التي مارستها الإدارة الأميركية ضد طهران ونظامها، ونقطة انطلاق نحو فرض مزيد من الشروط في الملفات العالقة بينهما وتنتظر التفاوض حولها.
وقد يكون ترشيح دهقان على حساب شخصية شابة من داخل الحرس، ويتولّى مسؤولية قيادة مقر خاتم الأنبياء للإعمار والبناء “سعيد محمد”، في سياق الاستراتيجية التي وضعها المرشد، الذي أكد ضرورة “تشبيب” – إذا جاز التعبير- القيادات في الدولة، لتكون قادرة على تلبية تطلعات الأجيال الجديدة ومخاطبتها من جهة، وتحافظ على شعارات الثورة والنظام من جهة أخرى. وهناك إمكانية أن يكون ترشيح دهقان “بالون اختبار” لمعرفة نبض الشارع الإيراني وحجم الاعتراضات على تقديم مرشح من المؤسسة العسكرية، يمهّد الطريق لدفع المرشح الأصيل إلى الواجهة والإتيان به إلى رئاسة السلطة التنفيذية، في إطار بلورة مشروع الإمساك بهذه السلطة كمقدمة لتكريس مستقبل النظام الإيراني وحصره في يد المؤسسة العسكرية التي ستتولّى مهمة ترتيب الأوضاع في طهران بعد حصول فراغ في موقع ولي الفقيه والمرشد، بما يسمح لها بإيصال الشخصية التي تريدها إلى هذا الموقع، على أن تتفرّد بالقرار أو أن تكون على الأقل شريكاً مقرراً في استراتيجيات النظام ورسمها.
قطع الطريق على أي ضغوط قد تفرضها إدارة بايدن للانتقال من التفاوض حول البرنامج النووي والاتفاق حوله، إلى التفاوض على موضوع عودة العلاقة بين الطرفين والبدء بتطبيعها، وإنهاء حالة العداء التاريخية بينهما، بما يخدم الرؤية الأميركية وحتى الإيرانية حول مستقبل منطقة الشرق الأوسط والاستقرار في غرب آسيا.
الإمساك بقرار التفاوض حول الملفات التي ترغب وتدفع إدارة بايدن لفتحها، والمتعلقة بالبرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي وضمان وجود شخصية في موقع رئاسة السلطة التنفيذية التي ستتولّى عملية التفاوض، لا يمكن أن تتهاون بأوراق قوة النظام في مواجهة أي تهديد أو تحجيم لدوره، خصوصاً أن خيار دهقان في حال سارت قيادة النظام به إلى النهاية، يرتبط بهذين الملفين مباشرة، كونه شغل منصب وزير الدفاع والصناعات العسكرية ومستشاراً للمرشد في مجال هذه الصناعات، وهو على معرفة بتفاصيل ملف النفوذ الإقليمي الذي يقع في دائرة صلاحيات حرس الثورة، وكان شريكاً فيه خلال وجوده في سوريا ولبنان.
ترشح دهقان كواحد من أبناء مؤسسة الحرس وما زال يرتدي زيّها العسكري، لا يعني أن المرشحين الآخرين الذين يستعدون لخوض السباق الرئاسي بعيدون من هذه المؤسسة، كالجنرال محمد باقر قاليباف، الذي من المرجح أن تصاب طموحاته بانتكاسة إذا ما توضّحت صورة دعم “بيت” المرشد لهذا الترشح (دهقان)، إضافة إلى أن علي لاريجاني الرئيس السابق للنظام يُحسب أيضاً على هذه المؤسسة، على الرغم من قربه وميله أكثر إلى الاعتدال والسياسة التسووية، بناء على تجربته الواسعة في مواقع القرار والتفاوض داخل هرمية النظام ومؤسساته.
وفي ظل عدم سهولة الحسم بنهائية خيار دهقان الرئاسي، إلا أن الكشف عن هذا الترشح المبكر، يؤشر بشكل واضح إلى الأجواء والاتجاهات التي ستغلب على هذا السباق، ونوايا النظام حول مستقبل موقع رئاسة السلطة التنفيذية والجمهورية، وما هو المرسوم لها من دور ومهمات.
حسن فحص
اندبندت عربي