كيف يمكن لخط أنابيب حديثة – حيفا أن يفيد العراق

كيف يمكن لخط أنابيب حديثة – حيفا أن يفيد العراق

في خضم الصراعات المستمرة في الشرق الأوسط، والناجمة جزئيًا عن التنافس على مصادر الطاقة، قد تلعب خطوط نقل الطاقة، كخطوط الأنابيب، دورًا أشبه بسيف ذو حدّين في السياسة الجغرافية الإقليمية. مع ذلك، وفي حين أن دور خطوط الأنابيب في المنطقة يشكل في غالب الأحيان مصدر صراع وخلاف، يبدو أنه يتحول إلى مصدر محتمل للتعاون. فخطوط الأنابيب قد تشكّل بنية ثابتة تساهم في تحقيق الأمن والاستقرار والتعاون على المستويين الاقتصادي والسياسي. وعلى حد قول رافائيل كانديوتي في كتابه “خطوط الأنابيب: النفط المتدفق وسياسة المواد الخام”، من شأن “خطوط الأنابيب أن تساهم في التخفيف من الصراعات الداخلية وحتى إنهائها”. في هذا السياق، ثمة مشروع مقترح لا يزال خاملاً منذ فترة طويلة ويُعرف بـ “خط أنابيب حديثة – حيفا”، وهذا المشروع قادر أن يصبح عاملاً رئيسيًا من عوامل الاستقرار والازدهار في المنطقة.

ولا بد من العودة إلى قرابة القرن من الزمن لفهم فائدة خط الأنابيب هذا – وهو خط أنابيب للنفط الخام تم تشغيله بين حقول النفط في كركوك وميناء حيفا خلال الفترة الممتدة بين عام 1935 وعام 1948 وأنشأته في الأساس “شركة نفط العراق” بين عامَي 1932 و1934 حين كانت كل الأراضي التي امتد عبرها خط الأنابيب تحت الانتداب البريطاني. وخلال الثورة العربية في فلسطين بين 1936 و1939، أصبح الخط هدفًا لتنظيمَي المقاومة العربيين، واستُهدف لاحقًا من منظمة “الإرغون” اليهودية شبه العسكرية. وتوقف تشغيل خط الأنابيب رسميًا مع اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 عند رفض الحكومة العراقية ضخ المزيد من النفط عبره. وتعرّض خط الأنابيب للتآكل والصدأ مع مرور السنين إلى أن تم تفكيكه في النهاية. وبالرغم من ظهور اقتراحات بتجديد خط الأنابيب هذا بين الحين والآخر، لا يزال هذا الخط مجرد إمكانية نظرية.

مع أن الصراع السياسي الذي أوقف في البداية استخدام خط الأنابيب لا يزال قائمًا، ثمة أدلة مقنعة على أن خطوط الأنابيب قد تشجع على التعاون في حال بُذلت جهود سياسية واضحة لدمج وتطوير البنية التحتية للطاقة بالرغم من البيئة السياسية أو الاقتصادية المتوترة. ويعتبر كلٌّ من خط أنابيب المغرب العربي – أوروبا للغاز والممتد من الجزائر إلى إسبانيا، وخط أنابيب الغاز المصري إلى إسرائيل، ومشروع دولفين للغاز، وخط أنابيب للنفط بين الكاميرون وتشاد، بعضًا من الأمثلة على هذا التأثير في المنطقة، وكلها أمثلة واضحة على إمكانية التعاون حتى بين الأطراف التي تتصارع على قضايا تتعدى العلاقات الاقتصادية لتشمل قضايا الثقافة أو التاريخ أو الحرب أو العدالة. كما أن خط أنابيب سخالين-خاباروفسك-فلاديفوستوك الذي تم بناؤه خلال فترة احتدام النزاع الإقليمي على جزر الكوريل الواقعة بين روسيا واليابان، يشكل مثالًا واضحًا آخر على إمكانية التعاون الاقتصادي بوجه الجدالات الدولية غير المحسومة.

بطبيعة الحال، لا تستطيع خطوط الأنابيب العابرة للحدود وحدها تحقيق الأمن والسلام في المنطقة. فإذا لم يكن صانعو القرار مقتنعين بنسبية مصالحهم وعبثية منطق “كل شيء أو لا شيء”، قد لا تبصر هذه الأنابيب النور أبدًا، فكيف عساها تنشأ علاقات اقتصادية بين الخصوم؟ ولعل التحديات السياسية هي الصعوبة البارزة الوحيدة أمام تحقيق هذه الفكرة، مع أن تاريخ الصراع القومي والديني بين العرب وإسرائيل في المنطقة يشكل عقبة صعبة أمام هذه المشاريع الطموحة.

في الوقت نفسه، ومع أن العراق كان داعمًا للقضية الفلسطينية على مدى سبع سنوات، لم ينشأ أي صراع بينه وبين إسرائيل على الأرض أو الحدود أو اللاجئين، وليس من المنطقي أن يستمر العراق في تحمل تبعات هذا الدعم إلى ما لا نهاية.

وإذا أمكن إبطال تأثير العناصر والإيديولوجيات السياسية أو تكييف السياسات الاستراتيجية مع خطط أكثر واقعية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة وتحفيز التنمية المستدامة، قد يتشجّع السياسيون لتجنب التجارب الشعبوية التي كان ثمنها مرتفعًا. وإذا أمكن الحصول على قيادة تضغط لتبنّي سياسات تتماشى مع واقع الجغرافيا العراقية، فإن تمديد خط أنابيب حديثة – حيفا سيكون مفيدًا.

.

وتجدر الإشارة إلى أن النهج الإيديولوجي القائم على التسويات يعتبر بالغ الأهمية في الشرق الأوسط ويتطلب إحراز التقدم. ولكن مع الدعم السياسي من صانعي السياسات والتزام أكبر بالحوكمة والشفافية، قد يصبح بالإمكان الابتعاد عن الإقليمية المتنازع عليها، والتي يرى القادة الإقليميون خطوط الأنابيب من خلالها، والانتقال إلى إقليمية أكثر عقلانية “تعني أن الدول تعتبر منطق الميزة النسبية هو وحدة التحليل الأساسية لديها” كما كتب سليم علي.

بالرغم من التحديات السياسية، من المهم الإقرار بوجود بعض الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية بين البلدين. فقد سبق أن أفادت عدة مصادر، على غرار صحيفة “دايلي صباح”، بأن إسرائيل تشتري حاليًا النفط العراقي القادم من “إقليم كردستان العراق”. ويصلها هذا النفط عبر خط منفصل يصدّر النفط غير الشرعي عبر الأراضي التركية نحو مرفأ جيهان حيث يُنقل بالناقلات إلى ميناء حيفا وعسقلان في إسرائيل. وعند إنشاء خط أنابيب بين حديثة وحيفا، لن يعود من المجدي لإسرائيل أن تواصل تلك العملية، وبالتالي ستتحول هذه المشتريات إلى خط الأنابيب الرسمي وتصبح ضمن قائمة الصادرات العراقية.

وفيما بدأت تتجلى بعض التغيرات في هذا الاتجاه، بوسع الجهات الفاعلة الإقليمية أن تستغل اللحظة الراهنة للاستفادة من الفرص المحلية من أجل بذل المساعي الدبلوماسية اللازمة لإنشاء خطوط الأنابيب. فإذا أعيد مثلاً إحياء مشروع خط أنابيب كركوك – حيفا، بالترافق مع خط سكة حديدية موازٍ وطريق سريعة، ستشهد المنطقة بأسرها تغييرًا جوهريًا في ظروفها السياسية والاقتصادية.

على افتراض أن تخفّ حدة التوترات السياسية، فإن إنشاء خط أنابيب حديثة – حيفا والطرق وسكك الحديد الموازية بين بغداد وحيفا يعود بالمنافع المتبادلة على كل الأطراف. فالعراق سيحصل على طريق تجارية أقصر وأسهل إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط​​، مع خط أنابيب لا يتعدى طوله 760 كيلومترًا وسكة حديد بطول 910 كلم لا أكثر، ما يؤمّن طرقًا أكثر مباشرة إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية ويقلل من تكلفة نقل الواردات. وسوف يسمح كلا المشروعين بوصول الواردات العراقية مباشرةً من المصادر الأوروبية والأمريكية إلى ميناء حيفا، متجاوزةً بذلك مسارها الحالي الذي يشمل ثلاثة بحار ومعابر ضيقة مشحونة سياسيًا في مضيق باب المندب ومضيق هرمز. حتى الآن، غالبًا ما يتم تفريغ البضائع الواردة إلى العراق من أوروبا والولايات المتحدة وإعادة تحميلها في ميناء جبل علي أو موانئ أبوظبي، بينما يتوجب نقلها إلى سفن جديدة متجهة إلى ميناء أم قصر في العراق. ولكن مع خط الأنابيب والسكة الحديدية والطريق السريعة، يمكن خفض تكاليف النقل والمعالجة المترتبة عن هذه الرحلة وتقصير زمن الشحن أيضًا. وحيث أن نسبة 33٪ من الواردات العراقية السنوية تأتي من أوروبا أو الولايات المتحدة، فإن هذا الانخفاض في التكاليف وأوقات الشحن سيكون نعمةً كبيرة على الاقتصاد العراقي.

فضلاً عن ذلك، سيتيح خط الأنابيب بيع نحو 300 ألف برميل من النفط العراقي يوميًا في السوق الإسرائيلية وبالأسعار الراهنة. فقد أصبح الصراع على أسواق النفط واضحًا خلال العقد الماضي، كما كان واضحًا خلال أزمة الإمداد في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 وما تبعها من تداعيات لتفشي وباء “كوفيد-19”. ومن الممكن أن تشكل كمية النفط العراقي المباعة لإسرائيل نحو 10 في المائة من إجمالي المبيعات اليومية وفقًا لطاقة التصدير العراقية. وسوف تتنافس الشركات الإسرائيلية المتمرسة في هذا المجال على ترويج النفط العراقي وتسويقه نظرًا لقدرتها على الوصول إليه بسهولة، وذلك من أجل تقاضي العمولات. ولا أحد يشك في قدرة تلك الشركات أو مدى انتشارها في عالم الأسواق وقدرتها على الحصول على أفضلية سوقية للنفط العراقي في حال انخراطها بهذا المجال.

ولا شك في أن المشروع سيوجِد منطقة نفوذ اقتصادي وسياسي للعراق تشمل الأردن والضفة الغربية وإسرائيل. وعلى النحو نفسه، سيكون خط الأنابيب مفيدًا جدًا لموقف العراق السياسي كونه سيشكل ورقة ضغط قوية في أي مفاوضات مقبلة مع دول الجوار بشأن خط الأنابيب.

علاوةً على ذلك، سيستفيد الأردن من إمكانية الوصول إلى نفطٍ ذي أسعار تنافسية، وبدوره يستطيع استخدام نفوذه لضمان أمن خط الأنابيب الذي يمر عبر الأراضي العراقية الغربية. وبذلك يضمن الأردن إمدادًا من النفط لمعامل التكرير الأردنية بسعرٍ ثابت وغير مكلف، مع تجنب اللجوء إلى آلاف الناقلات المستخدمة حاليًا لنقل النفط برًّا – حيث تقوم عادةً أكثر من 11000 ناقلة بنقل النفط. وكذلك، بوسع الأردن استخدام العمالة المحلية في الوظائف الخاصة بأمن خط الأنابيب وصيانته وتشغيله، والاستفادة في الوقت نفسه من ارتفاع حركة المرور على الطريق البرية والسكة الحديدية المفترضتَين، ما يوفّر وظائف يحتاجها الأردنيون أشدّ الحاجة. كما أن الأردن سيكون قادرًا على الابتعاد عن النفوذ القوي الذي تتمتع به دول الخليج والذي تبلور جزئيًا بحكم إمدادها الكثيف بالنفط للأسواق الأردنية.

في الوقت نفسه، سيخدم تشغيل خط الأنابيب مصلحة إسرائيل الاقتصادية، وسوف تسعى إسرائيل إلى تحقيق الاستقرار في المناطق التي يمر عبرها خط الأنابيب. وهذا التركيز على الاستقرار سيخدم بدوره مصالح العراق، على أمل أن يأتي الدعم السياسي بين البلدين في أعقاب ذلك، بالرغم من صعوبة التغلب على العقبات السياسية الحالية التي تحول دون قيام علاقة مماثلة. وبالنظر إلى التضاريس، يذهب المسار المقترح من الأردن إلى إسرائيل شمال الضفة الغربية وهو المسار المنطقي لكل من خطوط السكك الحديدية وخطوط الأنابيب. على هذا النحو، لا يوجد سبب لتدخل السلطة الفلسطينية في هذا المشروع. وعلى الرغم من أنه من غير المحتمل أن تكون السلطة الفلسطينية أحد الأطراف المشاركة بشكل مباشر في بناء خط الأنابيب، فمن المحتمل أن تكون أحد المستفيدين بمجرد بدء تشغيله.

باختصار، عند تنفيذ هذا المشروع في ظروف سياسية مؤاتية، من شأنه أن يفتح المجال أمام زيادة النشاط الاقتصادي وتعزيز القوة السياسية للدول المعنية الثلاثة. وبشكل عام، قد يكون هذا الازدهار والتعاون الناتج بين الأطراف الفاعلة في المنطقة مصدرًا رئيسيًا للسلام والاستقرار فيها.

مهدي البناي

معهد واشنطن