يشبه اغتيال محسن فخري زاده يوم الجمعة الماضي، والذي اعتبرته مصادر عديدة «أبا القنبلة النووية الإيرانية» في مفاعيله الرمزية، اغتيال قاسم سليماني في بداية هذا العام، والذي كان القائد الفعلي لمشاريع طهران العسكرية والأمنية الخارجية.
تقول تحليلات بعض الصحف الغربية إن العملية الأخيرة كانت بضغط من إدارة ترامب على إسرائيل، وهو أمر ينافي مسارا سياسيا اعتدنا فيه على قيام إدارة نتنياهو بالتحريض المستمر، في كل المحافل الدولية، ضد إيران، كما ينافي مسارا عسكريا موازيا، لم يتوقف من العمليات الإسرائيلية ضد الجمهورية الإسلامية، وإذا أخذنا في الاعتبار أن العالم النووي كان هدفا مستمرا لأجهزة الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية منذ سنوات، فإن الاستنتاج المنطقي هو استبعاد وجود ضغط أمريكي على إسرائيل ليصبح الموضوع «ضغطا» أمريكيا لضبط توقيت الاغتيال على ساعة ترامب.
وفي هذا السياق، ألمح الجنرال أهارون زئيفي فركش، رئيس جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية الأسبق، إلى دور لبلاده في اغتيال العالم النووي الإيراني المتخصص في مجال الصواريخ النووية، محسن فخري زاده.
وأجرت هيئة البث الإسرائيلية “كان”، قبل أيام، حوارا مع فركش، أوضح من خلاله أنه يجب اتباع سياسة الغموض والتمويه، وذلك تجاه عملية اغتيال فخري زاده.
وعلى الرغم من عدم تأكيده بأن إسرائيل وراء اغتيال العالم النووي الإيراني، فإنه أفاد بأن أي تعبير أو تصريح يحمل نوع من الغطرسة يعني بدوره تقوية الطرف الآخر، ويقصد به إيران، ويدفعه للانتقام أو الرد، وهو ما وصفه بالأمر “الخطأ”.
ويذكر أن العالم فخري زاده من أبرز العلماء النوويين الإيرانيين الذين تسعى الاستخبارات الإسرائيلية لاغتیاله، وأعلن نتنياهو قبل عامين عن اسمه في أحد المؤتمرات الصحفية، وهو ما أشار إليه رئيس المخابرات الإسرائيلية العسكرية، الجنرال أهارون زئيفي فركش. لو صدقت الرواية الإعلامية والتي تقول أن المخابرات الإسرائيلية تقف وراء اغتيال العالم الإيراني، ماذا يعني هذا؟
يعني اختراق جهاز الموساد الاسرائيلي من خلال جواسيسه واعوانه للعديد من الحلقات الأمنية الفولاذية في ايران ، وقدرته العملية بالدليل الواضح علي تخريب مواقع استراتيجية شديدة التحصين كمفاعل نطز لتخصيب اليورانيوم وغيره ، ونجاحه في اغتيال بعض اكبر العلماء النوويين الايرانيين وآخرهم العالم النووي محسن فخري زادة ، وغيرهم من الرموز القيادية الاجنبية المهمة ممن تحتضنهم ايران وتحيط تحركاتهم فيها بستار كثيف من السرية والتكتم والتعتيم حتي لا تطالهم يد الموساد ، كل ذلك يبرهن ان الكثير مما يجري داخل ايران مخترق ومرصود من قبل جيش مدرب من الجواسيس والعملاء ممن تساعد ظروف ايران الاقتصادية المتدهورة علي تجنيدهم وزرعهم في هذه المواقع الامنية الحساسة او بالقرب منها كعيون وأذرع للموساد الاسرائيلي.
وبالتالي ، فان إسطورة الحرس الثوري الايراني وقدرته الفذة علي اختراق المجتمع الايراني وبث عيونه واعوانه وعملائه في كل شبر من الاراضي الايرانية لرصد واكتشاف المخربين والمتآمرين والمندسين ممن يعملون لحساب اجهزة الدول المعادية لايران والتبليغ عنهم للإجهزة الأمنية الإيرانية التي لا تكل ولا تخمد ، هذه الاسطورة عن القدرات الخيالية للحرس الثوري الايراني لا نعتقد إنها باتت تنطلي علي أحد في الداخل او الخارج، بعد ان فضحتها هذه الاختراقات التجسسية المتتالية وكانت لها أصداوها المدوية داخليا وإقليميا ودوليا. ووضعت نظام الحكم الايراني في موقف بالغ الضيق والصعوبة والحرج لأنه يجد نفسه في كل مرة مطالبا بالرد دون ان يكون جاهزا له أو قادرا عليه.
ولا نعتقد أن إيران برغم ما يصدر عن قادتها من عسكريين ورجال دين عقب إغتيال زادة من تهديدات لا تخلو من مبالغة شديدة كما تعودنا منها مع كل حادثة إغتيال أو تخريب خارجي تقع فيها ، سوف تنتقم من إسرائيل وهي التي قد يأتي ردها أو إنتقامها من أي ضربة عسكرية إيرانية لها، صاعقًا ومدمرًا بما قد يصعب تصوره أو تحديد طبيعته ومداه ، فهذا الإنتقام العنيف سوف يكون فرصتها الأخيرة في وجود إدارة أمريكية محبطة ومتحفزة لأن تقلب الدنيا علي رؤوس الجميع وهي توشك علي الرحيل لتوريط الإدارة الجديدة في ما لم تجرؤ هي نفسها عليه خلال السنوات الأربع الماضية التي قضتها في الحكم تحسبا لعواقبه الكارثية المحتملة. فهي قد تعمد الي إشعال الحريق ثم تهرب لتلقي علي غيرها بمسؤولية إخماده وإطفائه.
يُفهم من هذا أن ترامب، الذي استنفد كل المحاولات الممكنة لعرقلة الانتقال السلمي للسلطة إلى إدارة جو بايدن، يحاول تأجيج عناصر الملف الإيراني الشائك، والذي يحتوي كل القضايا المثيرة للمؤسستين السياسية والعسكرية الأمريكية: القنبلة النووية الإيرانية، أمن إسرائيل، العراق، أفغانستان، تنظيم «القاعدة» و«الإرهاب الإسلامي» الخ… بحيث يترك ورثة ملتهبة تحرق إدارة بايدن وتعرقل خططه لإعادة الاتفاق النووي مع إيران.
تقابل إيران عمليات الاغتيالات والتخريب الإسرائيلية، بعمليات الصواريخ والمسيّرات في السعودية، وتخريب الناقلات والسفن في الخليج، وتحريك الميليشيات المحسوبة عليها في العراق، والمكاسرة السياسية التي يمثّلها النفوذ الكبير لـ«حزب الله» في النظام السياسي اللبناني، والاستعصاء الحاصل في سوريا.
علي أنه وفي غياب ضربة عسكرية إنتقامية إيرانية ردًا علي مقتل فخري زادة ، يرى بعض الخبراء العسكريون البيئة الإقليمية بصدد هجوم عسكري أمريكي إسرائيلي صاعق ضد إيران، وهو هجوم سوف يتم تبريره كضربة وقائية إستباقية لا مفر منها لإحباط هجوم إيراني وشيك ضد إسرائيل أو علي القواعد العسكرية الأمريكية في بعض دول الخليج العربية.
ومن المؤكد أن مثل هذه الضربة الامريكية الإسرائيلية المدمرة سوف تحدث من التداعيات الأمنية والنتائج السياسية الرهيبة ما قد يصعب التكهن به الآن. وربما لهذا يحبس القادة الإيرانيون أنفاسهم تحسبا للعواقب والمضاعفات التي سوف تترتب على اندفاعهم الى تبني رد فعل أهوج وغير محسوب لتحسين صورتهم داخليا وخارجيا.
واذا كانوا يستطيعون ذلك بممارسة درجة عالية من ضبط النفس وتبرير امتناعهم عن الإنتقام من الاسرائيليين بذريعة أن الرد قادم لا محالة لكنه مؤجل عن قصد الى أن تحين اللحظة المناسبة التي تسمح به مستقبلًا.
فماذا عن الشعب الإيراني وموقف حكامه منه وكيف يمكنهم امتصاص تذمره وإحتواء غضبه وهو من يعيش هذه أوضاع مأساوية متكررة وتصدمه هذه الإغتيالات المروعة لأبرز علمائه النوويين ممن يتباهي بهم ولا يجد ردًا حاسما علي ما يحدث لهم من قبل النظام المسؤول عن حمايتهم وتأمينهم ضد خطر الاغتيال ؟ والى متي يظل هذا النظام قادرًا علي الصمود والإستمرار في الترويج لدعاياته التي لا يكف عن ترديدها بانه نظام حكم ديني ليس كغيره وأنه جاء ليبقي، هذا بالرغم من سخط الداخل المتزايد عليه وإهتزاز نظرة المجتمع الايراني إليه بعد أن وصل بإيران الي ما يراها العالم عليه الآن من خراب كبير اصاب كافة مرافق حياتها الأساسية ومن تراجع تنموي وتدهور إقتصادي ونضوب موارد وتوقف إنتاج وبطالة وفقر وقسوة ظروف وسوء أحوال ؟ وهل بات شاغل الإيرانيين الاوحد هو البرنامج النووي المهدد بخطر التوقف وبرامج انتاج وتطوير الصواريخ الباليستية العابرة للحدود حتي يكون هذا هو المقابل والثمن لكل هذه المعاناة ؟
ومع كل هذه التقديرات يمنع امتداد الإيراني الجغرافي الواسع، عمليّا، حصول حرب شاملة مع إيران، وإذا أضفنا أمل النظام الإيراني بتغيير محسوس في المواقف الأمريكية مع انتقال بايدن إلى البيت الأبيض، فإن الحصيلة المستنتجة هي أن المعارك والعمليات الاستخبارية الإسرائيلية ـ الإيرانية ستستمر لأمد طويل، وأن التغيير الجذري الحقيقي سيحصل إذا تمكنت طهران من إنجاز قنبلتها النووية فعلا، وعندها سيكون ميزان القوى الإقليمي قد تغيّر، لكنّه، على عكس المرتجى منه، قد يكون سببا في حرب غير تقليدية ضد إيران تشعل المنطقة.
وحدة الدراسات الإيرانية