أفرز نمط العلاقات المعقد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ديناميات صراع إقليمي جديدة، تزداد استثنائيتها يومًا بعد يوم، بفعل تباين المصالح، وتباين موروث التاريخ والهوية، بالإضافة إلى تصاعد رغبة الدول في الحفاظ على أمنها القومي بشكل أو بآخر. وليس التنافس بين القوى الثلاث الرئيسة العاملة في الشرق الأوسط (روسيا وإيران وتركيا) حديثًا، وإنما قديم قدم الإمبراطوريات؛ ليتجدّد بين الورثة بصورة أعمق في النزاعات الدينية والسياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والقوقاز. وفي القرن الحادي والعشرين، بات من الضروري لهذه القوى العمل على إعادة موضعة ذاتها في المنطقة، من أجل ضمان أمنها واستقرارها على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي.
بعد عام 2010، ومع تصاعد النزاعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأخيرًا في القوقاز، وجدت هذه القوى أنفسها في مساحةٍ أجبرتها على التدخل لصالح أطراف دون الأخرى. انخرطت روسيا في الحرب في سورية خدمة لمشروعها في النفاذ إلى التجارة الأورو- متوسطية، والاستثمار في غاز شرق المتوسط، بالإضافة إلى رغبتها في إيجاد أرض معركةٍ حقيقيةٍ تجري عليها شركات التسليح الروسية تجاربها أمام الزبائن؛ بينما دخلت إيران، رغبةً منها في الحفاظ على مشروعها التوسعي الديني والثقافي في المنطقة. أما تركيا، الخاسرة – الرابحة، فقد أقحمت نفسها في عدة جبهات، لا تقلّ واحدة منها أهميةً عن الأخرى، بدءاً من حرب سورية فحرب ليبيا، ثم أخيرًا حرب أذربيجان – أرمينيا، ما زاد من تعقيدات حسابات أنقرة الداخلية والخارجية.
الواقعية السياسية
يمكن دراسة الصراعات التي تدخل فيها تركيا طرفاً مشاركاً أو حليفاً في ضوء نظرية الواقعية السياسية التي قال بها هانز مورغانثاو في توصيف قضية التدخل الخارجي، وربطها بمنظومة العلاقات الدولية، واستخدام القوة خارج حدود الدولة، مباشرة أو عبر وكلاء. تعدّ الدول القومية (Nation States) الفواعل الأساسية في التفاعل السياسي والعسكري الدولي، بناء على فكرة مفادها بأن هذه الدول هي القادرة على التحكّم بالمجتمع الدولي المليء بالفوضى، والقائم على استخدام القوة العسكرية. ولكن تقع على عاتق القوى التقليدية والكبرى مهمة إعادة تشكيل التوازنات الدولية. وفي الواقعية الدبلوماسية، لا يمكن الوثوق بأفعال أيٍّ من الدول، إذا ما لاحظت تعرّض مصالحها للخطر. وتركيا تسعى إلى تعظيم قوتها، لضمان أمنها في ظل تهديد روسي وأميركي وأوروبي، وبالتالي، من شأن دخولها حروبًا متتالية أن يضمن أمنها القومي، ويمكّنها من دفع الدول الكبرى إلى إعادة النظر في موقع وريثة الدولة العثمانية في النظام العالمي، وتثبيت مكانها.
انتقلت تركيا من سياسة “صفر مشكلات” إلى “صفر جيران”، خصوصًا في ظل التغيير السياسي الحاصل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
لا تُحسب في الواقعية السياسية القيم والمعتقدات، ولا تدّخر تركيا أي جهد في تعظيم وجودها، واستخدام أي نوع من القوة (صلبة أو ناعمة) من أجل ملاحقة مصالحها. وكان رئيس الحكومة التركية الأسبق، أحمد داود أوغلو، قد صاغ نسق قوة تركيا في أطروحته “العمق الاستراتيجي”، وعدّ سياسة “تصفير المشكلات” أهم أنماط العمل السياسي، والتي من شأنها أن تخدم الصالح التركي في بداية تولي حزب العدالة والتنمية السلطة، لتحقيق دور إقليمي مهم. اتبعت أنقرة هذا النمط مع سورية والأكراد في سورية والعراق وأرمينيا وقبرص واليونان ودول البلقان، وحتى دول الاتحاد الأوروبي، إلا أنها، وعلى نحو متناقض بعد عام 2011، وجدت نفسها قد اضطرّت إلى الانتقال إلى إطار الواقعية والابتعاد عن المثالية السياسية في تعاطيها مع القضايا نفسها التي كانت قد اعتمدت سياسة “صفر مشكلات” معها، وانتقلت من “صفر مشكلات” إلى “صفر جيران”، خصوصًا في ظل التغيير السياسي الحاصل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
نصر خارجي أم تخبّط؟
يبدو مفهوم النصر الخارجي نسبيًا في العلاقات الدولية، وفي علاقة الحكومات مع الشعوب على حد سواء. استخدام هذا المفهوم معنوي وجداني أكثر منه حقيقيًا، فالنصر في بيئةٍ قد لا يحمل المعنى نفسه إذا وضع في السياق نفسه في بيئة أخرى. استراتيجياً، لا يتم تحقيق النصر خلال حرب قصيرة، أهدافها إيديولوجية ودينية واقتصادية وسياسية، لكن تحت حجج أخرى مغايرة تمامًا. أما أمام الشعوب، ولتثبيت القدم في الحكم، غالباً ما يلجأ القادة إلى خارج الحدود من أجل إحداث تغييرٍ في السياسة الداخلية في البلاد. عام 2019، عمد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى سحب قواته من سورية، بعد أن أعلن انتصاره على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وفي مرحلة لاحقة، بدأ نقاشاتٍ بشأن انسحاب تام من العراق، بعد تحقيق أهدافه فيها. في هذه الحال، نلاحظ أن ما يقوم به ترامب هو طمأنة الداخل الأميركي أن سحب القوات الأميركية من الدول التي تدخلت في نزاعاتها سيعود بالفائدة على الولايات المتحدة.
ما يهم أردوغان في سورية اليوم، وبعد ما يقارب خمس سنوات من التدخل العسكري على الأرض، أن يضع تركيا في مركز صناعة القرار
على النقيض تماماً، وفي ظل الانكماش الاقتصادي العالمي، وفي ظل التلويح الدائم بفرض عقوبات عليها، تطلق تركيا العنان للجيش التركي، وتجرّه إلى جبهاتٍ عدّة، في وقتٍ تعاني فيه القيادة التركية من ارتباكاتٍ في السياسة الداخلية، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب عام 2016، وخسارة حزب العدالة والتنمية في انتخابات إسطنبول. وإن كانت تركيا تمارس حرب الوكالة أو الواسطة، إلا أن هذا لا ينفي أثراً سلبياً على صورتها الداخلية.
لماذا حرب سورية؟
على الرغم من تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حتى عام 2013، بأن بلاده لن تُجرّ إلى الحرب في سورية، إلا أنها ما لبثت أن انخرطت بقوة، خصوصًا في الشمال السوري، عبر دعم فصائل المعارضة وتسليحها، وتقديم التسهيلات واللوجستيات التي تضمن بقاءها على الأرض من جهة، ومن جهة أخرى لتستخدمها في التغلغل في الداخل السوري، وهذا فعليًا ما حصل في إدلب السورية التي باتت “إدلب الصغرى” منها تحت وصاية تركية. وقد جاء تصلّب القرار التركي بشأن سورية في سبيل الحصول على “عمق استراتيجي” من جهة، وتأمين مقاتلين يقاتلون، بالنيابة عنها، في جبهاتٍ عديدة خارج سورية، وأهمها ليبيا (وبحسب تقارير استخباراتية في أذربيجان)؛ لكنه أبقى تركيا في عزلةٍ خسرت من خلالها حلفاءها، وأضعفت ثقة الغرب بها. ما يهم أردوغان في سورية اليوم، وبعد ما يقارب خمس سنوات من التدخل العسكري على الأرض، أن يضع تركيا في مركز صناعة القرار، وتحديد خريطة جيوسياسية جديدة للشرق الأوسط، تكون تركيا ذات نفوذ فيها.
كادت تركيا أن تخسر مزيدًا من جنودها، لولا أن زجّت فصائل المعارضة السورية التي تشرف على تمويلها، في حربها ضد الأكراد
استحواذ أنقرة على “إدلب الصغرى”، وتأمين غطاء سياسي ومالي للكتائب العاملة في الشمال (أجناد الشام والسلطان مراد وهيئة تحرير الشام ولواء سمرقند) أعطاها الأمل أن تضمّ مساحة جغرافية مهمة في الجنوب، للتخلّص من ضغط اللاجئين الموجودين على أراضيها وإرسالهم إلى هذه المنطقة، ورمي حملهم على المجتمع الدولي، بعد أن أنهكها وجودهم على أرضها نحو سبع سنوات.
حالة القلق التي تشهدها السياسة التركية جرّاء تفاعل المعارضة مع مجريات الأحداث في المنطقة، وعدم تردّدها في مخالفة زجّ الجيش التركي في أتون حربٍ يبدو أنها طويلة الأمد، وضعت أردوغان في موقفٍ صعب، وجعلته يميل إلى الدبلوماسية في التعاطي مع الحرب السورية، خصوصاً أن دمشق لم تعد الخصم الفعلي لأنقرة، بل موسكو. وبالتالي، يميل أردوغان إلى الحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من أجل الوصول إلى حل توافقي، يضمن خروجًا من مأزق سورية، مع تعويض أنقرة عن خسائرها في الحرب.
الحرب ضد الأكراد
استعر النزاع بين تركيا والأكراد بعد عام 1980، بتوجيه ضربات تركية ضد حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي يتزعمه عبد الله أوجلان، بعد سعي الحزب إلى تشكيل إقليم كردستان العراق وفصله بعد حرب الخليج 1991. ومنذ ذلك الحين، بات الأكراد يشكلون خطرًا على الهوية التركية. وبعد وصول حزب العدالة والتنمية في تركيا إلى السلطة عام 2002، كان من أهم أهدافه القضاء على أي حركةٍ من شأنها زعزعة الأمن القومي في تركيا. صادق البرلمان التركي عام 2007 على توجيه ضرباتٍ عسكريةٍ ضد الأكراد المدعومين من أميركا في الجنوب، واستمرّت المناوشات حتى أخذت صيغة حرب حقيقية بعد 2014، مدفوعة تركيا برغبتها في تأمين حدودها الجنوبية ضد الأكراد، ودحرهم على الأقل 40 كيلومترًا عن حدودها مع سورية. لم تكن سياسة حزب العمال الكردستاني واضحةً من الحرب السورية، وكان تحالفه مع الولايات المتحدة وبالاً عليه، إذ تعرّض لضرباتٍ من كل من تركيا وقوات المعارضة السورية والجيش السوري على حد سواء. تشكلت فصائل “وحدات حماية الشعب الكردية” لتنجرّ تركيا إلى حربٍ جديدة معها على جبهات الفرات وريف حلب وريف إدلب، وصنّفتها تركيا منظمة إرهابية يجب القضاء عليها.
حرب الوكالة توفّر على تركيا عناءً كثيراً، ولا تقحم حزب العدالة والتنمية في أتون صراع داخلي
لم تكن حرب أنقرة ضد وحدات حماية الشعب الكردية على الأرض أقل أهميةً منها على مواقع التواصل الاجتماعي. خاضت أنقرة حربًا إعلامية ضد بروباغندا (دعاية) الوحدات الكردية، واعتقلت قوات الأمن التركية ما لا يقل عن 1200 من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بتهمة إضعاف الأمن العام، ونشر الدعاية الإرهابية. فعليًّا، كانت البروباغندا الكردية قوية، وأثرت على الرأي العام التركي من خلال نشر فيديوهات وصور تم تداولها على أنها خسائر الأتراك أمام الأكراد. كادت تركيا تخسر مزيدًا من جنودها، لولا أن زجّت فصائل المعارضة السورية التي تشرف على تمويلها، وخصوصاً كتائب الجيش الحر وكتائب أجناد الشام وأحرار الشام، في حربها ضد الأكراد. يجب الانتباه إلى أن حرب الوكالة التي تقوم بها تركيا وفّرت على تركيا العتاد والعديد، خصوصاً في معارك شمال سورية.
نفذت تركيا ثلاث عمليات عسكرية في سورية كانت أشبه بمقامرة لمساعدة قوات المعارضة السورية، بدءاً من عام 2016 بعملية “درع الفرات” و”غصن الزيتون” في عام 2018 و”نبع السلام” في 2019. تهدف الجهود العسكرية التركية العابرة للحدود إلى إزالة “الأكراد المتشدّدين”، الذين يُنظر إليهم على أنهم يشكلون تهديدًا للأمن القومي التركي من حدودهم إلى الجنوب. في الوقت ذاته، تقدّم تركيا الدعم لجماعات عسكرية سورية عديدة؛ إحداها هو “الجيش الوطني السوري”، وهو مجموعة من العرب والتركمان (المعروفين أيضًا باسم “بير- بوجاك التركمان”) الذين يكنّون ولاءً مطلقًا لتركيا.
نفذت تركيا ثلاث عمليات عسكرية في سورية كانت أشبه بمقامرة، في 2016 عملية “درع الفرات”، و”غصن الزيتون” في 2018 و”نبع السلام” في 2019
عمق أمني من 30 إلى 40 كيلومترًا جنوب تركيا، وتحييد الأكراد، وتوفير منطقة آمنة (عازلة) يُرحّل إليها اللاجئون كانت كلها أهداف عملية “غصن الزيتون” 2018، ضد مناطق الأكراد في مناطق عفرين وراجو وجويق وغيرها. أما “نبع السلام” 2019، فهي متابعة لحرب أنقرة ضد التشكيلات الكردية في مناطق تل أبيض وعين العرب (كوباني) ورأس العين، مستغلة الفراغ الأمني والعسكري بعد انسحاب القوات الأميركية من الشمال السوري، لكن بغطاء الحرب على الإرهاب وذريعة توطين ما لا يقل عن مليون لاجئ سوري. لاقت العملية تنديدًا واسعًا من المجتمع الدولي، كونها اعتداء على الأراضي السورية، وستعرّض المدنيين الأكراد للنزوح والتهجير من مناطقهم في الشمال، بالإضافة إلى قلق المجتمع الدولي من هروب جهاديي “داعش” المحتجزين لدى الأكراد وانضمامهم من جديد لصفوف التنظيم.
مواجهة الاتحاد الأوروبي أنقرة وتنديده بعملية “نبع السلام” لم تجدِ نفعًا، إذ ما لبثت تركيا أن فتحت حدودها أمام اللاجئين للنفاذ إلى أوروبا، وبالتالي كان على دول الاتحاد أن تعيد النظر في تفاهمات مع أنقرة، كون اللاجئين (حوالي 2.5 مليون) ورقة ضغط لا يُستهان بها ضد أوروبا، في وقتٍ تعاني به دول الاتحاد من أزماتٍ سياسية ومالية داخلية. كبّدت عمليات شمال سورية أنقرة خسائر فادحة، لكن ما يهم أن تبقي الأكراد خارج حسابات تشكيل أي قوة ضاربة في الجنوب. فعليًا، قدّمت أنقرة لدمشق فرصة جيوسياسية على طبقٍ من ذهب، تمثلت في إعادة سيطرة الجيش السوري على مناطق كانت قد انتزعتها منه قوات الأكراد. وهذه المناطق استراتيجية لدمشق، لقربها من مناطق النفط شرقي البلاد، ولقربها من موارد مائية كبيرة، ولأنها تشكل حائط صد أمام التوغل التركي في البلاد.
حرب ليبيا
لم تعد تركيا تخفي وجودها في ليبيا، البلد الذي يمتلك احتياطات هائلة من النفط، في ظل وجود قوات أجنبية موزّعة على الأراضي الليبية بما يتناسب مع مصالحها. حرب ليبيا مهمة للولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، لكنها أهم ما تكون بالنسبة لتركيا وروسيا. مغامرة واضحة تقوم بها تركيا في ليبيا التي لا تمتلك معها أي حدود، بحرية أو برية، ولكن وجود موضع قدم لها في شمال أفريقيا يضمن عدم خروجها مهزومةً في صراع المتوسط. لتجاوز أي احتجاجات دولية، عملت تركيا عام 2019 بالتنسيق مع حكومة الوفاق الوطني، المدعومة تركيًا والمعترف بها دوليًا، على تنفيذ اتفاقيةٍ جريئةٍ يتم بموجبها ترسيم الحدود البحرية، من بنودها توفير الدعم العسكري والمالي لحكومة الوفاق، مقابل السيادة التركية على مناطق بحرية جديدة في المتوسط. فتحت هذه الاتفاقية عيون دول الاتحاد الأوروبي على مخطط تركيا في التوسّع والانتشار في المتوسط وشمال أفريقيا، الأمر الذي استدعى انغماسًا تركيًا أكبر في الحرب في ليبيا، وتطلب منها إرسال جنود أتراك لدعم قوات “الوفاق”. لم يكن في وسع أردوغان سوى الإقرار بإرساله 35 عسكريًا تركيًا إلى ليبيا، لكن هؤلاء من من الضباط الأتراك الذين سيشرفون على تدريب قوات ليبية. أما عن الوجود الفعلي لقوات من تركيا، فإننا نتحدّث عن مقاتلين سوريين من فصائل، تدعمها في شمال سورية وتتبنى مقاتليها.
اعتماد تركيا على جنودها لا يمكّنها من الانتصار في معاركها على الجبهات المفتوحة الآن. وبالتالي، فإن حرب الوكالة توفّر عليها عناءً كثيرا، ولا تقحم حزب العدالة والتنمية في أتون صراع داخلي، يودي به في نهاية المطاف.
أقر أردوغان بإرسال 35 عسكريًا تركيًا إلى ليبيا. أما عن الوجود الفعلي لقوات من تركيا فيعني التحدث عن مقاتلين سوريين من فصائل تدعمها في شمال سورية وتتبنى مقاتليها
اعتمدت تركيا في حربها في ليبيا بشكل رئيس على ولاء فصائل “الجيش الوطني”، المؤلف من حوالي 60 ألف مقاتل؛ يعمل 40 ألفًا منهم داخل الأراضي السورية، بينما يعمل حوالي 20 ألفًا على الطرف التركي من الحدود السورية التركية. بالنظر إلى واقع هذه المقاتلين، فإن ما يدفعه للقبول بعرض قادتهم هو الوضع المعيشي البائس في الشمال السوري، وأن مبلغ ألفي دولار شهرياً يحقق لعائلاتهم كفافًا عن رواتب العمل العسكري المحلي.
صراع شرق المتوسط
أشعل هذا الصراع على غاز البحر المتوسط وزاد من حدّته نشر تركيا سفنًا للتنقيب عن الغاز وسفنًا أخرى حربية قرابة سواحل جزيرة كاستيلوريزو اليونانية، ما أثار غضب أثينا التي عدّته اعتداءً على مياهها الإقليمية. هذا الصراع مختلف نوعًا ما، إذا ما قورن بحروبٍ أخرى تخوضها تركيا؛ إذ إن احتمال نشوب حرب وارد، لكنه ضعيف بحساب أن كلًّا من تركيا واليونان أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتحكمهما علاقات تجارية ودبلوماسية، لا تخفى على المتعمق في سياسة البلدين. صراع السيادة على المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة لكل من تركيا واليونان وقبرص كان قد تم إرساء قواعد حلّه في اتفاقياتٍ أهمها لوزان عام 1923 التي تم من خلالها ترسيم الحدود البحرية والمضائق البحرية التركية والأوروبية. لكن مع دخول كل من مصر وإسرائيل واليونان وإيطاليا وفرنسا في اتفاقية تنقيب عن الغاز في حوض شرق المتوسط، من دون إدخال الأتراك، جعل من الضروري لأنقرة إعادة فرض وجودها في المنطقة الزرقاء، من خلال تحرّك عسكري بحري، وإجراء مناورات بحرية من شأنها إرسال رسالة إلى الدول الفاعلة في شرق المتوسط، أن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي، في حال استمرّت عمليات التنقيب على حساب الطرف التركي.
احتمال نشوب حرب بين أنقرة وأثينا وارد، لكنه ضعيف بحساب أن البلدين عضوان في حلف الناتو وتحكمهما علاقات تجارية ودبلوماسية
أربك دخول فرنسا وإيطاليا ومصر وإسرائيل على الخط، ودعم كل منها اليونان أمام التحالف الليبي التركي (اتفاقية ترسيم الحدود البحرية 2019) وضع أنقرة في موقفٍ لم يكن في الحسبان، واضطرها إلى التراجع، واللعب على الدبلوماسية في التخفيف من حدّة التوتر القائم في المنطقة، خصوصًا بعد أزمةٍ اقتصاديةٍ بدت معالمها أوضح في ظل انخفاض قيمة الليرة التركية، ومحاولة واشنطن التلويح بفرض عقوباتٍ على أنقرة في حال استمرّت في برنامجها في المتوسط.
أذربيجان – أرمينيا .. تحقيق الانتصار
جديد الجبهات التي فتحتها تركيا على ذاتها حرب ناغورنو كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان. لم يقف اختلاف البلدين دينيًا وثقافيًا وهوياتيًا أمام ستالين في بداية القرن الماضي أن يقدّم اقتراحًا يمكّن أرمينيا من ضم الإقليم (اسمه الأرمني أرتساخ) إلى أرمينيا، بحكم أن الأرمن يشكلون 95% من سكانه البالغ عددهم 150 ألف نسمة، مقابل إعطاء إقليم ناختشيفان ذي الأغلبية المسلمة استقلالًا داخل أرمينيا. وبعد تفكّك الاتحاد السوفييتي، تفجّرت الأزمة بين البلدين على خلفية الحقن الديني والديمغرافي، لينتهي بهدنة عام 1994.
خلال العقود السابقة، كانت تركيا حليفة استراتيجية قوية لأذربيجان التي ينتمي سكانها إلى العرق التركي، ويتحدّثون لسانًا من اللغة التركية؛ وجعلت أنقرة من باكو شريكًا قويًا في المنطقة، خصوصًا أن البلدين يجتمعان على عداوة أرمينيا. وفي الوقت ذاته، اتخذت روسيا من أرمينيا ربيبةً لها بحكم الارتباط الديني والثقافي، ودعمتها لإبقاء يدٍ لها في القوقاز كمنطقة جيوسياسية وتجارية استراتيجية، خصوصًا بعد أزمة الحدود مع جورجيا وأزمة إقليم أبخازيا الذي اعترفت به موسكو دولة مستقلة. وبغض النظر عن مشكلات روسيا مع أرمينيا، والمتمثلة برغبة موسكو في تأديب يريفان، بعد أن بدأت بالانفتاح على الغرب، من خلال اتفاقيات اقتصادية وسياحية، إلا أن ما يهم هو خلاف تركيا مع روسيا، وكيف جرّت تركيا إلى حربٍ كانت في غنىً عنها.
أفصحت امتدادات الصراع الأذري – الأرمني الجيوسياسية عن حرب وكالة بين تركيا وروسيا، على أراضٍ غير أراضي البلدين، وباستخدام قوات وعديد من غير الجنسيتين، الأمر الذي فرض على تركيا إعادة النظر في علاقاتها وتحالفاتها في القوقاز والبلقان، لإتمام مهمة هذه الحرب، وبالتالي إبعاد خطر أرمينيا، والوصول إلى عمق أذربيجان عبر ناختشفان. اختلاق حرب جديدة، إضافة إلى الساحة السورية، ونقل ساحة الصراع بين تركيا وروسيا إلى القوقاز، هو رغبة روسية بتشتيت القوة التركية وفتح جبهةٍ لا يمكن لها أن تلتئم، إذا ما نظرنا إلى تاريخ الصراع وأساساته، وأهمها القومية والثقافة والدين، في إقليم حدوده كاملة داخل أذربيجان، وسكانه من الأرمن وتسيطر عليه أرمينيا؛ وفي الوقت نفسه يتمتع بحكم ذاتي.
أفصحت امتدادات الصراع الأذري – الأرمني الجيوسياسية عن حرب وكالة بين تركيا وروسيا، على أراضٍ غير أراضي البلدين، وباستخدام قوات وعديد من غير الجنسيتين
أذربيجان مهمة للغاية لتركيا ومشروع الطاقة التي تعمل عليه في المتوسط والبلقان، بحساب أنها من أهم مصدّري الغاز الطبيعي، والتي ترمي تركيا من خلالها إلى تقليل الاعتماد على الغاز الروسي والإيراني البالغ ما مجمله 55% من واردات الطاقة. يهدّد النزاع الأذري – الأرمني آمال تركيا في مشاريع أنابيب الغاز الطبيعي، وأهمها مشروع “غاز عبر الأناضول” أو “تاناب”، بالإضافة إلى خط أنابيب باكو – تبليسي – أرضروم الواصل بين أذربيجان وتركيا، وبالتالي فإن انتصار أذربيجان في الحرب يعني انتصار تركيا في القوقاز والبلقان، وتحكّمها في موانئ ومصادر الغاز والنفط في المنطقة الأهم عالميًا، بحسب عالم الجغرافيا السياسية هالفورد ماكندر الذي يقدّم، في أطروحته “قلب العالم”، أن من يحكم مناطق شرق أوروبا يحكم قلب الأرض. وهذا فعلياً ما تسعى إليه روسيا وتركيا وأميركا، وبالتالي فإنها ستسيطر على صنع السياسات وتشكيلها في المنطقة.
إمداد تركيا أذربيجان بالسلاح والطائرات من دون طيار (درونز) في غياب الدعم الروسي لأرمينيا زاد الوضع سوءًا في المنطقة؛ لكن ما يهم تركيا انتصارها في حربٍ جديدةٍ، تسمح لها بالنفاذ والسيطرة على جغرافيا سياسية جديدة تحدّد هويتها المستقبلية. وبعد ست أسابيع من المعارك المتواصلة، أعلنت باكو انتصارها في كاراباخ، ليكون انتصارًا لتركيا أكثر منه لأذربيجان. العمق الاستراتيجي الذي استفادت منه تركيا وفّر لها نشر صواريخ تركية من طراز “تايغر T-300″، ما يجعل إقليم ناختشيفان الذي سيطرت عليه باكو محميةً عسكريةً تركيةً لإطلاق صواريخ بعيدة المدى، بالإضافة إلى إجراء مناوراتٍ عسكريةٍ مشتركة بعديد 2600 جندي و200 مدرّعة و180 نظامًا صاروخيًا مطوّرًا. ويتيح وصول العلاقات التركية الأذربيجانية إلى هذا المستوى المجال أمام مرحلة تجارية جديدة بين الطرفين، بحيث تجرى عمليات تجارية قيمتها لا تقل عن 300 مليون دولار لمنطقة شرق الأناضول التركية فقط لا غير. أما المكسب الأهم فهو مناقصة طرحتها شركة بوتاش التركية للطاقة لمدّ خط أنابيب من مدينة إغدير شرقي تركيا يزوّد ناختشيفان بالغاز، في خطوةٍ تهمّش الخط الإيراني الذي كانت قد اعتمدت عليه أذربيجان في ما مضى.
مهيب الرفاعي
العربي الجديد