إدارة بايدن.. أى أولويات وأى سياسات

إدارة بايدن.. أى أولويات وأى سياسات

فى الفترة الانتقالية بين انتخاب جو بايدن وتسلمه مهامه الرئاسية فى العشرين من كانون الثانى تكثر الأسئلة والتساؤلات، والمخاوف أو التمنيات عند البعض فى المنطقة، حول حجم التغيير الذى سيحصل بين إدارة ترامب وإدارة بايدن فيما يتعلّق بالسياسة الخارجية.
بداية ودون أدنى شك سيحدث تغيير أساسى فى طبيعة الخطاب الأمريكى: فالخطاب الترامبى اتّسم بالحدّة والمواجهة والشعارات التحريضية والصدامية والتبسيطية أو الاختزالية لوصف أوضاع وتقديم حلول فى أمور شديدة التعقيد. خطاب يعبّر عن عنوان «أمريكا أولا» الذى رفعه ترامب والذى تحوّل فى حالات كثيرة كما يقول الدبلوماسى دنيس روس، المعروف جدا فى الشرق الأوسط، «بأمريكا وحيدة». خطاب بايدن والإدارة الجديدة سيتّسم بالعودة إلى اللغة الدبلوماسية التقليدية. دبلوماسية الانخراط مع الآخر لتسوية الخلافات كبديل عن دبلوماسية المواجهة ولو على مستوى الخطاب. دبلوماسية الانخراط لا تعنى بالطبع التسليم للخصم أو الطرف الذى تتّسم علاقته مع واشنطن بالخلاف، ولكن اللجوء إلى ثنائية العصا والجزرة والبحث عن أرضية مشتركة لإحداث تغيير فى موقف «الآخر» المختلف مع واشنطن.
يأتى ذلك بعد سياسية الأحادية الحادة التى طبعت إدارة ترامب والتى قامت على تهميش وإزدراء عناوين التعاون الدولى ومتطلبات الشراكة مع الحلفاء التقليديين فى الأطر المتعددة الأطراف التى تجمع بينهم وذلك لمصلحة العلاقات الثنائية مع كل دولة على حدة كما كان يردّد ترامب دائما. لكن ذلك لا يعنى أن الإدارة الجديدة لن تعمل على إحداث تغيير فى تلك العلاقات عمّا كانت عليه سابقا قبل إدارة ترامب. فالعودة لتنشيط حلف شمال الأطلسى أو الشراكة الاستراتيجية مع أوروبا الغربية ستفترض من منظور الإدارة الجديدة مزيدا من تحمّل المسئوليات والتكلفة من قبل الحلفاء أو الشركاء. كما إن من أولى مهمات الإدارة الجديدة فى إطار تنشيط الدبلوماسية المتعددة الأطراف العودة إلى اتفاقية المناخ التى خرجت منها الولايات المتحدة مع الرئيس ترامب وكذلك إلى منظمة الصحة العالمية. تحدّ أساسى أمام الإدارة الجديدة يكمن فى كيفية العودة ضمن إطار جماعى تعاونى محوره واشنطن إلى منطقة آسيا والمحيط الهادى بعد انسحاب ترامب من «الشراكة العابرة للهادى» الأمر الذى ساعد الصين الشعبية بعد ثمانى سنوات من انطلاق الفكرة، إلى إنشاء أكبر منطقة تجارة حرة فى العالم تضمّ خمس عشرة دولة. ويحمل ذلك الكثير من التداعيات على استراتجيات المنافسة الأمريكية الصينية على الصعيد العالمى. مواجهة الصين الشعبية ومحاولة احتواء نفوذها المتزايد ستشكل عنصر استمرار بين الإدارتين. العلاقات مع روسيا الاتحادية قد تخضع لبعض التوترات بعد إعادة التموضع الأمريكى فيما يتعلّق بمقاربة مختلفة بالانخراط الدبلوماسى على الصعيد الدولى.
ويبقى الشرق الأوسط من أكثر الأقاليم الدولية إثارة للاهتمام من حيث طبيعة الاختلاف بين مقاربة الإدارتين للمنطقة وخاصة لموضوع الاتفاق النووى مع إيران. انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق ساهم فى «تحرير» إيران من الالتزامات/القيود التى كان يفرضها الاتفاق عليها وأحدث خلافا بين واشنطن وحلفائها الغربيين الأطراف فى الاتفاق. الرئيس بايدن أكد تأييده العودة للاتفاق النووى على أن يواكب ذلك تفاوض لتحسين شروط تطبيقه. الثلاثى الأوروبى (الفرنسى الألمانى البريطانى الشريك بالاتفاق) بدأ بالتحرك مع الإدارة القادمة لبلورة شروط العودة وهى شروط يقول هؤلاء أنها مرتبطة أيضا بالسلوك الإيرانى. الخروج من الاتفاق من طرف ترامب زاد من حدّة المواجهة القائمة فى المنطقة وهذا بالطبع ليس بالسبب الوحيد لازدياد حدة الحرب الباردة الدائرة فى الشرق الأوسط والحروب بالوكالة التى تغذيها. دون شك ستتأثر العودة إلى الاتفاق كما ستؤثر فى ملفين أساسيين فى العلاقات الأمريكية الايرانية: امتلاك إيران للصواريخ البالستية والدور الايرانى فى المنطقة والسؤال المطروح هو كيف سيتم تنظيم العلاقات، علاقة التأثير المتبدال، بين الملفات الثلاثة مع الإدارة الجديدة.
القضية الفلسطينية ستكون نقطة اختلاف أخرى بين مقاربة الإدارتين دون أن يعنى ذلك أن إدارة بايدن ستسقط أو تتراجع عما قامت به إدارة ترامب فى هذا المجال رغم أن قرارات الإدارة الأخيرة شكّلت ضربة قاسية وخروجا كليا عن المرجعيات التى يفترض أن تشكّل الإطار الطبيعى والضرورى لتحقيق السلام. من المرجّح أن تعود إدارة بايدن إلى اعتماد الموقف الأمريكى التقليدى، موقف ما قبل إدارة ترامب، دون أن تنخرط بقوة أو فعالية فى هذا الملف الذى لم يعد يحظى وللأسف بموقع مهم على لائحة الأولويات الإقليمية الضاغطة.
ديناميات سياسية جديدة ومتجددة ستعود بقوة إلى المسرح الاستراتيجى الشرق أوسطى ومعها احتمالات أو سيناريوات مختلفة من نزاعات وتفاهمات وتسويات موقّتة أو طويلة الأمد.
فى نهاية الأمر نرجو، وهذا ليس بالأمر السهل، أن نرى يقظة عربية تسمح ببلورة أجندة أولويات متّفق عليها حتى لا نبقى مجرّد أحجار فى لعبة شطرنج بين لاعبين إقليميين ودوليين.

ناصيف حتى

الشروق المصرية