تباينت تقديرات باحثين وسياسيين إسرائيليين خلال مؤتمر لمعهد دراسات الشؤون الخارجية الإقليمية “ميتفيم” في قراءة الوضع الاستراتيجي الراهن والمستقبلي لإسرائيل. وفيما أشاد بعضهم بالتطبيع مع دول عربية حذر بعضهم من الغرور ومن تجاهل القضية الفلسطينية واعتبرها لب الصراع.
ويوضح مدير الدراسات في المعهد دكتور روعي كيبريك أنه من الصعب التعامل مع إسرائيل كأنها تنتسب لمنظومة إقليمية واحدة فقط لأنها موجودة “بين بين، وداخل ولجانب” وأحيانا هي خارج المنطقة. ويتابع: “لذلك ليس صدفة أن الاستطلاع السنوي لمعهد “ميتفيم” يظهر انقسام الإسرائيليين عند إجابتهم على سؤال الهوية والانتساب بين من يرى إسرائيل تنتمي للشرق الأوسط وبين من يراها تنتمي لحوض البحر المتوسط وبين من يراها تنتمي لأوروبا. وإسرائيل تنشط في كل هذه المناطق كجزء من النسيج الإقليمي ومن ميزان القوى كي تخدم مصلحتها”.
يدعو كيبريك للتذكير أن هذه المناطق غير منفصلة عن ذاتها وأن سياسة إسرائيل في حوض البحر المتوسط غير منفصلة عما يحدث في الشرق الأوسط وفي أوروبا والعكس صحيح
ويدعو كيبريك للتذكير أن هذه المناطق غير منفصلة عن ذاتها وأن سياسة إسرائيل في حوض البحر المتوسط غير منفصلة عما يحدث في الشرق الأوسط وفي أوروبا والعكس صحيح. ويرى أن السنة 2020 شهدت تحولات جوهرية بعضها مفاجئ وبمبادرة إسرائيلية وبعضها بقيادة لاعبين آخرين أو نتيجة ظروف خارجية. ويعتبر كيبريك أن هذه التحولات تدفع تحديات وفرصا كثيرة أمام إسرائيل التي لم تعد “جزيرة” معزولة محاطة بالأعداء كما كانت ترى نفسها طيلة عقود.
وبرأيه تستطيع إسرائيل جني أرباح كثيرة من عمليات تعاون وقادرة على إدارة علاقات مع دول مختلفة حتى عندما تكون هذه الدول متنازعة معها أو موجودة في نزاعات داخلية فيما بينها. ويقول إن إسرائيل تبنت سياسات خارجية إقليمية مركبة وحساسة أكثر مما كان في الماضي. ويتابع: “يبدو أن الظروف هي التي دفعت إسرائيل لتبني هذه التوجهات وليس قرارا واعيا موزونا ولكن إسرائيل من شأنها تحقيق أرباح وفيرة إن عرفت كيف تتصرف في السياسات الخارجية واستخدام الأدوات الصحيحة بناء على التحولات المذكورة”.
القضية الفلسطينية هي الأهم
ويرى الباحث في شؤون الشرق الأوسط بروفيسور إيلي بوديه عضو إدارة معهد “ميتفيم” أن العام الحالي شهد أبعادا إيجابية رغم كونه قاسيا، لافتا لفشل إسرائيل في الصراع مع كورونا حتى الآن ومن جهة أخرى يشير لنجاحها في توقيع ثلاثة اتفاقات تطبيع. ويضيف بوديه: “لو قال أحدهم قبل عام إن إسرائيل ستوقع ثلاثة اتفاقات سلام قريبا لاعتبروا ذلك حلما غير أنه تحقق وهو يناقض المفهوم السياسي الذي ساد حتى الآن واعتبر أنه من غير الممكن التقدم في العلاقات مع دول عربية دون تسوية القضية الفلسطينية. يبدو أننا لم نتنبه بشكل سليم للتحول الحاصل في قسم من العالم العربي وللإرهاق من الشأن الفلسطيني وللتصميم الأمريكي ولتبعات كورونا”.
ويعتقد بوديه أن التغيير الكبير النابع من الاتفاقات المذكورة هو تحسين أحوال إسرائيل الاستراتيجية مقابل أعدائها يليه تغيير اقتصادي يتمثل بتحسين قدراتها الاقتصادية، زاعما أن تحسنا قد طرأ على صورتها في الإعلام ولدى المجتمع المدني في بعض دول الجوار. وينبه بوديه أن التغيير الحاصل ليس دراماتيكيا وفوريا إنما هو بداية مسيرة تدريجية، ويقول إن التعامل الإعلامي العربي مع إسرائيل سلبي في أساسه لكنها تبدو إيجابية أكثر بعيون دول الخليج مثلما طرأ تغيير أيضا على النظرة لمصطلح التطبيع.
وادعى بوديه أن السلام مع الإمارات والبحرين هو سلام مختلف جوهريا من السلام مع مصر والأردن الذي وقع مع نظامين حاكمين بالأساس، ويضيف: “مع الإمارات والبحرين التغيير يأتي من القاعدة وليس من فوق فقط. هذا سلام مغاير وهو سلام مع الآخر والذي لم يحدث في الحالتين المصرية والأردنية”.
في المقابل يحذر الباحث الإسرائيلي الخبير بشؤون الشرق الأوسط بوديه من الانجرار لحالة انتشاء مثلما حصل في الماضي وتابع: “المكاسب جميلة لكنها تبقى في هوامش الشرق الأوسط ولا تؤثر بالضرورة بشكل دراماتيكي على بعض الصراعات والمشاكل الإقليمية. في نهاية المطاف القضية الفلسطينية هي قلب الصراع ونحن لا نستطيع صرف الاهتمام للهوامش والافتراض بأن الاتفاقات هذه ستدفع نحو تسوية الصراع. ربما نكون قد أبعدنا الحل. التغيير السياسي في البيت الأبيض من شأنه أن يقود للتغيير المراد والذي يؤدي لموضعة القضية الفلسطينية في صدارة الأولويات الأمريكية”.
في المقابل ترى زميلته في معهد “متفيم” دكتورة موران زاغا أن الاتفاق بين إسرائيل والإمارات حدث مؤسس ضمن مسيرة واسعة منوهة أن الثانية تموضع ذاتها في السنوات الأخيرة كـ”دولة عظمى إقليمية” وسط نشاط إقليمي ودولي، معتبرة أن التطبيع مع إسرائيل علامة فارقة إضافية في مساعي الإمارات لتصبح دولة فاعلة ومبادرة تقود خطوات شجاعة تغير الواقع”. وتشير لوجود دوافع استراتيجية وأيديولوجية لدى الإمارات في هذه المسيرة مقابل مصلحة إسرائيل بتمكينها من أداء جوهري في الشرق الأوسط لأن الإمارات تعكس رؤى إقليمية مشابهة لتلك الإسرائيلية وتتمتع بقدرات تأثير في أماكن لا تصلها إسرائيل كسوريا والعراق”.
تعتقد زاغا أن نتائج الاتفاق مع الإمارات لا تنعكس في مجرد علانية العلاقات الثنائية فحسب بل في حجم وإمكانيات مجالات التعاون
وتعتقد زاغا أن نتائج الاتفاق مع الإمارات لا تنعكس في مجرد علانية العلاقات الثنائية فحسب بل في حجم وإمكانيات مجالات التعاون: البحث والثقافة والسياحة والدبلوماسية والأمن الغذائي والطاقة والتهديد الإيراني. وتشير الباحثة الإسرائيلية لأهمية مواصلة صيانة العلاقات مع الإمارات وتوسيع التواصل معها لتشمل جهات تتعدى الطبقة الحاكمة وتتعدى إمارتي دبي وأبو ظبي وتتابع: “هناك جهات محلية في بقية إمارات الدولة لم تبد موقفها بعد من التطبيع وينبغي متابعة ذلك علما أن الإمارات بحاجة اليوم لمنح تطبيعها شرعية ولذا فهي تتمنى أن تنضم للتطبيع دول عربية أخرى لها”. من هنا تستنتج أنه على خلفية ما قالته فإن الإمارات تطمح بأن تعزز علاقاتها مع إسرائيل كجزء من منظومة إقليمية وليس اتفاقا ثنائيا فحسب معها وتضيف: “هناك مصالح مشتركة – تعزيز المبادرة الإماراتية في التعامل مع إسرائيل وتوسيع شبكة علاقات إسرائيل في الشرق الأوسط”.
العلاقات مع الاتحاد الأوروبي
وترى الباحثة مايا شيؤون تسادكياهو مديرة برنامج الدراسات “إسرائيل- أوروبا” في معهد “ميتفيم” أن علاقات إسرائيل مع الاتحاد الأوروبي في العام الأخير التي بدأت في ظل “صفقة القرن” كانت متوترة ووصلت لحد التهديد الأوروبي باتخاذ عقوبات بحال أقدمت إسرائيل على ضم مناطق فلسطينية لسيادتها، منوهة أن العلاقات هذه تحسنت بشكل جوهري مع تعيين غابي أشكنازي (أزرق – أبيض) وزيرا للخارجية.
وتشير لأهمية العلاقات مع الاتحاد الأوروبي بالنسبة لإسرائيل في مجالات شتى ولمحاولة الاتحاد استثمار التراجع الإسرائيلي عن مخطط الضم لتحسين العلاقات. وترى أن اتفاقات التطبيع مع دول عربية تلزم الاتحاد الأوروبي بإعادة النظر والتفكير مجددا بطريق دفع حل الدولتين في ظل تغيير المفهوم بأن عدم تسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لم يعد يشكل حاجزا دون التطبيع مع دول عربية. وتعبر الباحثة عن موقف رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بقولها إنه حتى يتمكن الاتحاد الأوروبي من إيجاد آذان إسرائيلية صاغية عليه إعادة النظر بموقفه وشطب ربطه بين عدم تقدم علاقات إسرائيل مع دول عربية وبين عدم التقدم في مسيرة السلام مع الفلسطينيين.
في المقابل تقترح أن تتوقف حكومة إسرائيل عن تصريحات التحريض على الاتحاد الأوروبي التي تظهره وكأنه خصم وليس صديقا وبالتالي تدفع الرأي العام الإسرائيلي لمواقف سلبية حيال الأوروبيين لا مبرر لها وتمس بالعلاقات الثنائية. وتضيف: “على إسرائيل أن تمد يد التعاون مع الاتحاد الأوروبي كونه شريكا استراتيجيا لها من خلال الحوار والتمييز بين السياسة وبين الاقتصاد”.
منتدى الغاز
أما مدير العلاقات الخارجية لمعهد “ميتفيم” غابرئيل ميتشيل فيرى أن دمج إسرائيل بين القدرات الاقتصادية وبين تلك الاستراتيجية قد أنتج فرصا كثيرة في شرق حوض البحر المتوسط. ويقول إن اكتشاف الغاز في قاع البحر الأبيض المتوسط يمكن إسرائيل من إدارة حوار مع جاراتها يطال مجالات أخرى وإنها وقعت في العام الأخير على ميثاق ترتيب المنتدى الخاص لشؤون الغاز في شرق حوض البحر المتوسط بصفته “منظمة دولية”، وقعت اتفاقا مع اليونان وقبرص في مجالات تصدير الغاز وكورونا والسياحة.
غابرئيل ميتشيل يرى أن دمج إسرائيل بين القدرات الاقتصادية وبين تلك الاستراتيجية قد أنتج فرصا كثيرة في شرق حوض البحر المتوسط
ويرى أن إسرائيل تقف اليوم أمام ثلاثة تحديات إقليمية جوهرية: “لم يعد بمقدورها الاعتماد بشكل حصري على الولايات المتحدة الموجودة اليوم في عملية انسحاب من المنطقة ولذا عليها الاهتمام بنفسها وبمصالحها الاستراتيجية وإيجاد طرق إضافية للتقدم نحو أهدافها في المنطقة”. التحدي الثاني برأيه يكمن بانهيار أسعار الغاز في العالم وتجميد التنقيب عنه في حوض البحر المتوسط في ظل أزمة كورونا. ويرى أن التحدي الثالث يكمن بمواجهة سياسات تركيا التي تهدد النظام الإقليمي بتحركها وتمددها بواسطة توجهات مستقلة وفظة”.
ومن أجل دفع مصالحها في حوض البحر المتوسط يقترح على إسرائيل تعزيز علاقاتها مع شريكاتها في “منتدى الغاز” وتوسيع التعاون في مجالات متنوعة كجودة البيئة، الطاقة المتجددة، السياحة، السايبر والأمن المائي. ويقول إن إسرائيل تستطيع تعزيز علاقاتها مع دول أوروبا التي تستثمر في المنطقة وتشجيع الولايات المتحدة لتكون متداخلة في “منتدى الغاز” وتوسيع مشاريع بحثية إسرائيلية- أمريكية أمام دول أخرى وإبداء رغبة لتسوية الحدود المائية مع لبنان وإيجاد حل لمشكلة الطاقة في غزة والمحافظة على قنال اتصالات مفتوح مع تركيا.
وقف الفوضى الدبلوماسية الإسرائيلية
ويقول رئيس معهد “ميتفيم” الدكتور نمرود غورن إن فرصا جديدة فتحت أمام إسرائيل في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة منوها للتعاون في مجالات كثيرة علانية بدلا من علاقات سرية وأمنية. ويرى غورن أن تحقيق القدرات والفرص المفتوحة يقتضي التقدم في مسيرة السلام الإسرائيلي – الفلسطيني ويتابع: “هذا صحيح حتى في فترة تبدي فيها دول عربية مستعدة للتطبيع مقابل وقف الضم في الضفة الغربية دون التقدم الحقيقي نحو السلام”.
لكنه يشير أيضا لوجود عوامل أخرى تعيق تحقيق الفرص في العلاقات الإقليمية جوهرها – طريقة جهات حكومية إسرائيلية في إدارة العلاقات مع الدول المجاورة ويتابع: “بالإضافة لوزارة الخارجية التي ضعفت في الفترة الأخيرة هناك 30 جهة إسرائيلية حكومية تنشط في العلاقات الخارجية دون تنسيق”. ويشير لبعض الأمثلة عن الخلل الإسرائيلي في إدارة العلاقات الخارجية منها الخلافات والتوتر بين المستوى السياسي والمستوى الأمني في التعامل مع موضوع التطبيع مع الإمارات والبحرين والسعودية وغيرها، داعيا لتعزيز دور وزارة الخارجية ورفع مستوى تنسيق الجهات الحكومية الإسرائيلية في ظل الفرص الكبيرة المنفتحة أمام إسرائيل من ناحية علاقاتها مع العالم العربي والإسلامي.
من جهته يقول عضو اللجنة الإدارية لمعهد “ميتفيم” دكتور إيهود عران إن “اتفاقات إبراهيم” تنبع من مصالح استراتيجية وأمنية كالوقوف أمام التهديد الإيراني في ظل تراجع أمريكي من المنطقة في السنوات الأخيرة داعيا هو الآخر لترتيب الدبلوماسية الإسرائيلية وتقوية وزارة الخارجية.
ويدعو الباحث في شؤون الشرق الأوسط حاييم ريغف لزيادة وتعميق النشاط الدعائي الإسرائيلي بقيادة وزارة الخارجية في منتديات التواصل الاجتماعي من أجل بلوغ السلام للشعوب العربية لا للأنظمة الحاكمة، معتبرا ذلك واحدا من دروس السلام البارد مع مصر والأردن ويتابع: “علينا الاهتمام باستثمار الفرصة كي تكون إسرائيل “بنت بيت” في المنطقة العربية”.
المعركة على الوعي
وترى الوزيرة للشؤون الاستراتيجية أوريت فاركاش هكوهن التغيير الكبير في الشرق الأوسط “بانقلاب السودان على لاءات الخرطوم التاريخية واستبدالها بمد يد التطبيع والسلام”. ونوهت لدورها ووزارتها في مجال الحرب على الوعي والرواية وعلى صورة وشرعية إسرائيل من خلال الإعلام الاجتماعي متجاهلة موضوع القضية الفلسطينية.
وفي مقال يرى عضو الكنيست عوفر شيلح من الحزب المعارض “هناك مستقبل” أن الفجوة الكبيرة في الشرق الأوسط اليوم هي بين “الإسلام الراديكالي” وبين الدول الطامحة للاستقرار مما يفتح آفاقا وفرصا أمام إسرائيل لتحسين صورتها ومكانتها الإقليمية. وأشار لغياب إسرائيل السلبي عن تسوية الأوضاع في سوريا بعد حرب أهلية طويلة. وتابع شيلح: “يدعو بوتين نتنياهو لالتقاط صور مشتركة لكنه في الشأن السوري يتحدث مع روحاني وأردوغان فقط”.
على غرار الباحث بوديه يرى شيلح أنه في أعقاب “اتفاقات إبراهيم” فإن الانفصال عن الفلسطينيين هو المصلحة العليا لإسرائيل إن رغبت بالبقاء دولة يهودية ديموقراطية، وتابع: “رغم احتفالات نتنياهو بانتصار نظرية السلام مع العرب دون حل القضية الفلسطينية لكن على إسرائيل عدم تفويت فرصة الاتفاقات مع دول عربية كي تقوم بتسويتها وإلا ستبقى “اتفاقات السلام” صفقات تمت من أجل تحسين أحوال أنظمة عربية حاكمة تخشى فقدان الدعم الأمريكي مع استبدال ترامب”. وهذا ما أكده رئيس حزب “ميرتس” اليساري – الصهيوني نيتسان هوروفيتس الذي قال إن اتفاقات التطبيع مهمة وتستحق الدعم لكنه حذر من الرهان عليها ومن زعم اليمين بأنها قادرة على إبطال القضية الفلسطينية. وتابع: “هذه مزاعم كاذبة وخطيرة ومضرة بالمصلحة الإسرائيلية لأن المفاوضات مع الفلسطينيين مصلحة إسرائيلية كي يتمكن الإسرائيليون العيش هنا بأمن وسلام، والاتفاقات مع دول عربية ربما تكون عاملا مساعدا لتحقيق تسوية الدولتين”.
القدس العربي