عقب الانتصار العسكري الذي حققه أذربيجان ضد أرمينيا في قره باغ بدعم تركي واسع، رضخت أرمينيا للشروط الأذربيجانية إلى درجة كبيرة. ومن أجل ضمان تحقيق تواصل جغرافي بين أرمينيا والمناطق التي يقطنها الأرمن في إقليم قره باغ، وافقت الأخيرة على منح أذربيجان ممرا بريا يربط الأراضي الأذربيجانية وناختشيفان لأول مرة منذ نحو قرن من الزمان.
هذا الممر الذي تجري أعمال فتحه على قدم وساق، يربط أذربيجان بمنطقة “ناختشيفان” التي كانت تفصلها عن أذربيجان الأراضي الأرمينية، ومع افتتاح هذا الممر سيتحقق ربط تاريخي استراتيجي بين أذربيجان وناخشيفان، وهو ما يعني ربط تركيا بأذربيجان بشكل مباشر، وهو ما يعني أيضاً ربط تركيا ببلدان “العالم التركي” في آسيا الوسطى.
طريق استراتيجي
وترى تركيا أن هذا الممر يعني فتح حقبة جديدة على المستويين الجيوسياسي والجيواقتصادي بين تركيا وجمهورياتها القديمة في آسيا الوسطى، وسيفتح الباب واسعاً أمام فرص تجارية هائلة بالوصول تدريجياً إلى دول تضم 3 ملايين مواطن، وفتح أفق كبيرة في مجال الطاقة وصولاً لتحقيق تأثير سياسي وعسكري في منطقة تحمل أهمية تاريخية واستراتيجية كبيرة لتركيا، ما يزيد من نفوذها الإقليمي والدولي المتصاعد.
وينص اتفاق قره باغ الأخير في مادته التاسعة على ضرورة إزالة العوائق التي تعترض حركة النقل والروابط الاقتصادية بما يتيح بناء شبكات النقل والمواصلات بين ناختشيفان وأذربيجان، وهو ما يفتح الباب أمام تركيا للبدء في بناء طرق وخطوط مواصلات بين أراضيها وناختشيفان وعبور هذا الممر وصولاً لأذربيجان.
ولم تتأخر تركيا على الإطلاق في إعلان استعدادها لاستغلال هذه الفرصة التاريخية، حيث أعلن قبل أيام وزير النقل والبنية التحتية التركي عادل قره إسماعيل أوغلو، أن بلاده تخطط لإنشاء خط سكة حديد إلى ناختشيفان، موضحاً أن الخطط في هذا الإطار على وشك الانتهاء.
إمدادات الطاقة
وتقول تقديرات تركية، إنه في حال بناء خطوط جديدة مباشرة لنقل الغاز بين تركيا وأذربيجان عبر ناختشيفان، فإن تركيا سوف تحصل على غاز أرخص من أذربيجان، وسيصبح تدريجياً بديلاً عن الغاز الإيراني، حيث تدفع تركيا 490 دولار مقابل كل ألف متر مكعب من الغاز الإيراني، بينما يمكن أن تنخفض هذه التكلفة إلى 335 دولا وذلك بحلول عام 2026 موعد نهاية اتفاق توريد الغاز الموقّع بين تركيا وإيران.
كما ستستغني أذربيجان عن خط الغاز الذي صل إلى ناختشيفان عبر إيران عقب مد خط مباشر من الممر الجديد، وهو ما يعني توفير نسبة الـ15% التي تدفعها باكو لطهران كضريبة مرور الغاز. إلى جانب ذلك، تسعى تركيا لرفع قدرة خط نقل الغاز “تاناب” من أذربيجان لتركيا مروراً بجورجيا من 16 مليار متر مكعب إلى 32 مليارا سنوياً ليلبي الاحتياجات التركية بشكل أكبر على طريق تقليل الاعتماد على الغاز الإيراني، ولتعزيز مكانة تركيا كممر استراتيجي للطاقة.
كما تأمل تركيا أن تفتح التغيرات الجيوسياسية الأخيرة الباب واسعاً أمام مشاريع كبرى تربط بين الشرق والغرب، وتعزز موقع تركيا كممر عالمي للطاقة، حيث تأمل بالدرجة الأولى استئناف العمل على مشروع نقل الغاز من تركمانستان إلى تركيا عبر ممر ناختشيفان الجديد، وذلك بعدما تجمد المشروع عام 2017 لخلافات مالية وصعوبات في مروره عبر دول أخرى.
وبموجب التحولات الأخيرة، يصبح نقل الغاز من تركمانستان إلى تركيا وأوروبا ممكناً أكثر، ليمر خط نقل الغاز من تركمانستان عبر بحر قزوين إلى أذربيجان ومنها عبر الخطوط القائمة (خطوط نقل الغاز أذربيجان-جورجيا-تركيا) أو عبر الممر الجديد لناختشيفان وصولاً لتركيا ومنها إلى أوروبا، بعد أن كانت الخطط السابقة تتمحور حول إيصاله من أذربيجان إلى تركيا عبر جورجيا، كما أن الواقع الجديد يتيح التحرر ولو جزئياً من الضغوط الروسية والإيرانية التي هدفت طوال السنوات الماضية لإفشال المشروع بحجة الأضرار البيئية المتوقعة. لكنّ المختصين يجمعون على خشية موسكو وطهران من أن يشكل الخط الجديد بديلاً عن الغاز الروسي والإيراني للسوق التركي والأوروبي ولو جزئياً.
آفاق تجارية هائلة
وعلى الصعيد القومي وحتى الاجتماعي، ستتمكن تركيا من تعزيز تواصلها التاريخي مع العالم التركي عبر تعزيز السياحة والتواصل المباشر، ومن شأن بناء خط سكة حديد بين تركيا وأذربيجان أن يعزز السياحة وتنقل السكان من تركيا إلى وسط آسيا وما يحمله ذلك من تعزيز للتواصل الذي سيحمل في طياته مشاريع تركية ستؤدي في نهاية المطاف إلى الحفاظ على ارتباط مواطني وسط آسيا من الأصول التركية بموطنهم الأم بكل ما يحمله ذلك من تأثير سياسي استراتيجي على المدى البعيد.
وتجارياً، تتطلع تركيا أن يفتح لها ممر (أذربيجان- ناختشيفان) بوابة تجارية إلى العالم التركي ووسط آسيا بشكل عام وصولاً إلى الصين والهند، وما يعنيه ذلك من تعزيز قدرة تركيا على الوصول تجارياً إلى أسواق دول يصل عدد سكانها إلى 3 مليارات، أي ما يقارب نصف سكان العالم.
وإلى جانب فتح الأسواق الآسيوية أمام البضائع التركية، وتسهيل الوصول إليها عبر الممر الجديد، فإن تركيا تسعى أيضاً لتعزيز القيمة الاستراتيجية لموقعها الجغرافي وتعزيز مكانتها كمحطة إجبارية للربط بين الشرق والغرب، لا سيما تعزيز مكانة موقع تركيا في طريق الحرير التجاري الصيني، حيث افتتحت تركيا طوال السنوات الماضية سلسلة مشاريع خطوط سكك حديدية وجسور وأنفاق وممري “أوراسيا” و”مرمراي” اللذان يربطان آسيا بأوروبا تحت مضيق البوسفور.
كما أنجزت تركيا خط السكة الحديدية الذي يربط بينها وبين أذربيجان مروراً بجورجيا وهو ما يعرف بخط (باكو – تبليسي – قارص) الذي يتوقع أن تكون له أهمية أكبر خلال المرحلة المقبلة، ويمكن أن يضاف إليه الخط الجديد المقرر أن يربط تركيا بأذربيجان عبر الممر الجديد مروراً بناختشيفان.
وأتاح انتصار قره باغ الأخير والاتفاق الذي أعقبه نشر قوات تركية في أذربيجان، حيث من المتوقع أن تبدأ قوات تركية بالانتشار إلى جانب القوات الروسية في قره باغ، وهو ما يحقق تواجدا عسكريا استراتيجيا لتركيا في الحديقة الخلفية لروسيا التي اضطرت لقبول ذلك بحكم تغير موازين القوى العسكرية بفعل الدعم التركي لأذربيجان، وهو ما سيفتح الباب لمزيد من التأثير العسكري والسياسي التركي في منطقة ظلت تحتكرها روسيا على مدى العقود الأخيرة.
القدس العربي