ليس خافيًا أن إسرائيل هي التي دبرت ونفذت اغتيال عالم الذرة الإيراني البروفيسور فخري زاده، وقد قامت إحدى شعب التجسس الإسرائيلية، بالتنسيق مع المخابرات الأمريكية، بتسريب معلومات إلى صحيفة «نيويورك تايمز» الموثوقة والمعروفة بمصداقيتها، حول تورط إسرائيل في العملية. لكن إسرائيل لم تأخذ على عاتقها مسؤولية الاغتيال، وهي أرادت للعالم أن يعرف بدون أن تعترف.
يعود قيام الموساد الإسرائيلي باغتيال فخري زاده تحديدًا، بسب ما ينسب إليه من دور علمي مركزي في المشروع النووي الإيراني، وفي مشروع تطوير الصواريخ الدقيقة، الذي ترى فيه إسرائيل خطرًا لا يقل عن المشروع النووي ذاته. وقد أجمعت التغطيات الصحافية والتقارير البحثية في إسرائيل هذا الأسبوع، على أن زاده لم يكن عالمًا فحسب، بل كان قائدًا إداريًا فذا لمشاريع التسلح الاستراتيجي، وسياسيا له علاقات مباشرة وحميمة مع القيادات صاحبة القرار في إيران، وكان نتنياهو قد تطرق إليه في مؤتمر صحافي في عام 2018، ووصفه بأنه المسؤول الأول عن المشروع النووي الإيراني. وعليه هناك إجماع في إسرائيل بأن الضربة لإيران قوية، حتى لو أن هناك علماء يملأون مكانه المهني.
منذ كشف نتنياهو اسم فخري زاده على الملأ، كان من الواضح أن إسرائيل تستهدفه، وقد فرضت عليه تبعًا لذلك حراسة مشددة. وقيل إن الموساد استطاع تنفيذ العملية، مستغلا «الثغرات» الناجمة عن الصراعات بين الأجهزة الأمنية الإيرانية، وعبر تفعيل البنية التحتية المخابراتية، التي كان لها ضلع في اغتيالات وتفجيرات حدثت في إيران مؤخرًا.
تحتاج عملية اغتيال من هذا النوع إلى أشهر، وربما سنوات من التحضير، لكن القرار بالتنفيذ اتخذ مؤخراً، وللتوقيت هنا أهمية ومغزى، وهو مرتبط بأهداف الاغتيال. لقد أرادت إسرائيل استغلال أيام ترامب الأخيرة للقيام بالاغتيال، وقد تقوم بالمزيد من الاعتداءات الأمنية والعسكرية في الأسابيع المقبلة، قبل أن يأتي بايدن، الذي ينوي تغيير السياسة تجاه إيران، ولن يمنح مباركته ودعمه لعمليات من هذا النوع، كما يفعل ترامب. هذا التوقيت مفيد جدا لنتنياهو، الذي يواجه محاكمة في ملفات الفساد، وانتخابات وشيكة وأزمة سياسية واقتصادية وصحية خانقة. ليست العقلانية وحدها هي تحكم موقف نتيناهو في الملف الإيراني، فهو يعتقد أن العناية الإلهية قد ارسلته منقذًا لشعب إسرائيل من كارثة ثانية، وأنه وحده دون غيره القادر على وقف برنامج التسلح النووي الإيراني، وهذا هو الموضوع السياسي والاستراتيجي الأول عنده، ويأتي فورًا بعد هاجسه الشخصي بالبقاء على كرسي الحكم، وإفشال المحاكمة، وحتى التطبيع مع بعض الأنظمة العربية فهو أمر ثانوي وخاضع لهدفه الأهم، وهو التصدي للخطر النووي والصاروخي الإيراني، الذي يعتبره خطرًا وجوديًا على شعب إسرائيل ودولة اسرائيل. وكتب عن ذلك الكاتب الصحافي في جريدة «معاريف» بن كسبيت، الذي ألف كتابًا عن نتنياهو: «إيران هي حجر الزاوية في سياسة بنيامين نتنياهو، هي مهمته المقدسة. الشيطان التاريخي الذي من الممكن أن يأتي بكارثة ثانية على الشعب اليهودي.. إيران بالنسبة له هي مصدر الشر وهي مهمته التاريخية وهدف حياته، فقد جاء إلى العالم ونمى وترعرع وتعلم، ليحمل رسالة إنقاذ الشعب اليهودي من الخطر الإيراني.. هكذا يصرح في كل خطاباته، ويضيف بأن إسرائيل ستدافع عن نفسها وإذا لم يقم العالم بما هو مطلوب تجاه إيران، فنحن سنقوم بذلك وحدنا، وعندنا ما يكفي من القوة والقدرة والتصميم والشجاعة». لقد قام نتنياهو بتغذية المخاوف من النووي الإيراني، بنشر حالة من الذعر من قدرات إيران الصاروخية، واحتمالات وصولها إلى لبنان وسوريا. ورغم كل ما يقوله، ورغم رغبته في تسديد أقوى الضربات لإيران، إلا أنه يخشى من التورط في حرب شاملة معها، وكان سعيه الأساسي أن تقوم الولايات المتحدة بمهمة محاصرة إيران، وحتى ضربها عسكريًا، وحين حاول أيهود براك إقناعه بضرب إيران، واجه الاثنان معارضة شديدة لدى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي حذرت من الثمن الباهظ من مغامرة عسكرية واسعة النطاق، وطرحت بديلها وهو ما يصطلح على تسميته «حرب الظل» أو «حرب المنطقة الرمادية» وهي فعلًا الحرب المستمرة منذ سنوات طويلة.
جاء اغتيال فخري زادة في إطار الحرب الإسرائيلية غير المعلنة على إيران، التي تدور في المنطقة الرمادية، وكانت له عدة أهداف:
إسرائيل وجهت رسالة عبر الاغتيال، بتمسكها بسياستها المنسجمة مع نهج إدارة ترامب، المتعارضة مع مخططات بايدن
الأول: محاولة عرقلة المشروع النووي الإيراني، مع العلم أن إسرائيل تعرف أن هذا الاغتيال، مثل ما سبقه من اغتيالات وتفجيرات، لن يوقف المشروع، إلا انها تأمل بأن يؤدي إلى إبطائه، وإلى كسب المزيد من الوقت لمساعي منع ايران من اكتساب قدرات نووية.
الثاني: هناك من يعتقد أن الهدف الأهم للاغتيال هو موجه نحو بايدن، لإعاقة إمكانية العودة إلى الاتفاق النووي بين إيران والإدارة الأمريكية المقبلة، عبر تقوية موقف التيار المحافظ، وربما جرّ إيران إلى رد فعل يخلط الأوراق، ويجعل من الصعب على بايدن التوصل مجددًا إلى اتفاق 2015، الذي كان بايدن أصلًا شريكًا فيه كنائب لأوباما.
الثالث: تعرف إسرائيل جيدًا أنها لا تستطيع ثني بايدن عن تجديد المفاوضات مع إيران بشأن الاتفاق النووي، لكنها تسعى إلى إدخال شروطها ضمن شروط الولايات المتحدة، وتحديدًا إضافة بند منع إيران من تصدير الصواريخ الدقيقة المتطورة إلى قوى إقليمية معادية لها، وتمديد فترة سريان مفعول التقييدات على المشروع النووي الإيراني، وانتزاع التزام من إيران بعدم التموضع في سوريا وغيرها، وكذلك تشديد الرقابة على المنشآت النووية. ورسالة الاغتيال لبايدن أن إسرائيل ستواصل نشاطها المستقل، إن لم تقم الولايات المتحدة بالتنسيق والتفاهم معها سلفًا بكل ما يخص الملف الإيراني.
الرابع: تريد إسرائيل زرع حالة من الردع في أوساط العلماء وسائر المشاركين في المشروع النووي الإيراني، بأن حياتهم في خطر، وإن هي استطاعت اغتيال فخري زاده فهي قادرة على اغتيال أي منهم متى شاءت. كما يريد الموساد خلق حالة من الارتباك والاتهامات المتبادلة في صفوف المؤسسة الأمنية الإيرانية.
الخامس: أوساط إسرائيلية عديدة تؤكد على دور فخري زادة في مشروع «تدقيق الصواريخ» وهناك من ذهب إلى أن هذا هو السبب الحقيقي لعملية الاغتيال. وإذ أرادت اسرائيل تسليط الأضواء على مشروع تدقيق الصواريخ، فقد تجند الصحافي في «نيويورك تايمز» توماس فريدمان، وكتب هذا الأسبوع مقالًا خاصا وأجرى مقابلة مع جو بايدن (هي الأولى بعد فوزه) ودعا خلالهما الرئيس الجديد إلى عدم الاكتفاء بمعالجة الملف النووي الإيراني، بل اشتراط رفع العقوبات عنها، بوقف تصدير الصواريخ الدقيقة لمن يهدد أمن اسرائيل. ومن اللافت للانتباه أن بايدن في المقابلة لم يقع في الفخ، وقال إنه يريد أولًا إحياء الاتفاق على أساس التزام إيران به ورفع العقوبات وفقط بعدها يجري الحديث عن أمور أخرى مثل الصواريخ.
السادس: كل ما يقوم به نتنياهو هذه الأيام له علاقة بأهدافه الشخصية في الانتخابات المبكرة، التي من شبه المؤكد انها ستجري في النصف الأول من العام المقبل، وفي محاولته صرف الأنظار عن محاكمته بتهمة الفساد وعن الأزمات الخانقة التي تواجهها حكومته.
من الواضح أن إسرائيل وجهت رسالة عبر الاغتيال، انها تتمسك بسياستها المنسجمة مع نهج إدارة ترامب، والتي تتعارض مع مخططات بايدن. هي تعرف بان إمكانيات الحصول على دعم امريكي لاعتداءات على إيران في عهد بايدن ستكون محدودة إن لم تكن معدومة، وعليه فإن الأيام الأخيرة لترامب خطيرة جدا، لان نتنياهو سوف يستغلها حتى آخر قطرة دم.
جمال زحالقه
القدس العربي