ذهب كثير من التوقعات إلى اعتبار اغتيال الجنرال قاسم سليماني مطلع سنة 2020 بوصفه الشرارة التي ستشعل حرباً عالميةً ثالثة، أو على الأقل، حرباً إقليمية واسعة، وخفتت هذه التوقعات مع الأسابيع الثقيلة التي مرت على العالم مع تفشي وباء كورونا، وكانت لإيران حصة ثقيلة من الموجة الأولى من التفشي أثناء الشتاء والربيع الماضيين.
وقبل أن تنتهي سنة 2020 تلقت إيران ضربة جديدة مع اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده، داخل إيران هذه المرة، أي أن المشكلة لا تتوقف عند الاستهداف نفسه وحساسيته، ولكن يتعقد الموقف الإيراني، لأن الاغتيال هذه المرة يترافق مع اختراق غير مسبوق في العمق الإيراني. ومع ذلك، لا يوجد ما يدفع للتفكير ببدء العد التنازلي لحرب جديدة في المنطقة، فالإيرانيون أصبحوا يمتلكون خبرة واسعة في استثمار الفشل، وليس جديداً في شيء أن يجربوا العيش على الحافة، بل إن الحافة هي المكان الذي ولدت فيه الجمهورية الإسلامية، ويبدو أنه مكانها المفضل على أي حال.
قبل أن تكمل الثورة الإسلامية عامها الأول كانت تدخل أزمتها الكبرى الأولى مع أزمة الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران، لم تكن إيران قوية في ذلك الوقت بأي معنى، فالجيش الإيراني التقليدي، الذي بناه الشاه لم يعد مؤثراً ويعيش في حالة من الفوضى، والحرس الثوري كان مشروعاً جنينياً لا يمكن التعويل عليه، وخرجت إيران من الأزمة في النهاية، وتورط الأمريكيون في نتائجها، وكان رحيل الرئيس كارتر، أحد الارتدادات للعاصفة الإيرانية وقتها، وبعدها ببضعة أشهر كان طبيعياً أن تقف الولايات المتحدة، ومعها قطاع واسع من الدول مع العراق في حربه مع إيران، واستطاعت إيران أن تعيش على الهاوية لسنوات طويلة، وحتى نتيجة الحرب التي لم تكن مقنعة للداخل الإيراني، لم تؤثر سلباً في النظام الإسلامي في ايران، وتتابعت الأزمات الكبيرة والصغيرة ومنها، حالة العداء الموسمي مع بريطانيا، التي شهدت مداً وجزراً متتابعين منذ أزمة فتوى الخميني تجاه الكاتب سلمان رشدي، ومن ثم اعتراف إيران بالجيش الجمهوري الأيرلندي، ولنا أن نلاحظ أن إيران كانت الطرف الذي يستفز بريطانيا هذه المرة.
الإيرانيون لا يخافون من موقعهم على الحافة، وخلافاً لما يعتقد كثيرون، فالحافة مكان إيران المناسب، فهذه الدولة المعقدة، ليس بوسعها سوى الهروب بمشاكلها إلى الأمام، فإيران بأزماتها الطائفية والعرقية، وميراثها الفارسي الثقيل على حدود الفضاءات الباكستانية والأوراسية والتركية، تجد الفرصة في كل أزمة، أي أنها تجيب عن أسئلتها المحلية من خلال استراتيجية القوس المشدود، الموجه إلى الخارج، لا يمنح الداخل فرصة للتحرك، ولا يعطي الخارج فرصة الانقضاض، لأن العقل السياسي في إيران يجيد لعبة السياسة الخارجية، ويعرف أن القوس المشدود لا يعني إطلاقاً انفلات السهم، وإعطاء مبرر الانقضاض للأعداء.
إيران تجيد لعبة السياسة الخارجية، وتعرف أن القوس المشدود لا يعني إطلاقاً انفلات السهم، وإعطاء مبرر الانقضاض للأعداء
الحنكة الإيرانية في التعامل مع السياسة الخارجية، تذكر ببؤس الخيارات العربية في المقابل، فالرئيس المصري جمال عبد الناصر يتخذ قراراً بالتصعيد في أزمة مضائق تيران 1967 بناء على معلومات حملها وزير دفاعه الراحل مؤخراً شمس بدران، اتضح أنها غير دقيقة وربما لم تكن حقيقية من الأساس. والعراقي صدام حسين ينساق إلى فخ غزو الكويت بعد دردشة مع السفيرة الأمريكية، والفرق بين إيران والعرب في هذه النقطة، يعد في تركيبة النظام الإيراني، والمفارقة أنه بينما يرتكز النظام على مرجعية الولي الفقيه علي خامنئي، إلا أن ذلك ليس سوى مسألة على قدر كبير من الشكلية، ففي الحقيقة يقوم النظام السياسي في إيران على معادلة ناضجة لتحقيق التوازن بين المؤسسات، وقدرة على الاستجابة للتحديات، فبين مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور، أتى مجمع تشخيص مصلحة النظام، ومن ورائهم، وليس أمامهم أو فوقهم مثل الأنظمة العربية، مؤسسة الرئاسة والحكومة والأجهزة العسكرية والأمنية، ولذلك من الصعب أن تقدم إيران على عمل متهور، وعلى العكس، فبين تشعب الأشكال والكيانات السياسية يمكن للدولة الإيرانية أن تتبرأ من أي تصريحات تصعيدية، وأحياناً من تصرفات كاملة لأحد الأجهزة أو المؤسسات.
من الصعب الحكم على الشعبية الحقيقية للنظام الإيراني، ومدى سيطرته على مجريات الأمور داخلياً، ولكن قدرته التي تستدعي الإعجاب على التعامل مع التحديات، تؤكد على أن النظام يستقر على مخزون من الخيارات والبدائل المستمرة، ويمكنه أن يخلق الفرصة في اللحظة الأخيرة، وأن يقطع أسلاكا حساسة تحول دون تفجر القنبلة، والفسحة المدروسة من الديمقراطية في إيران، والوعي الحقيقي بالمخاطر المحيطة بها، يجعل الخوف من الحافة غير وارد بالنسبة للإيرانيين الذين يبدون على قدر من الاسترخاء في هذه الوضعية.
هي ضربة موجعة، وتحمل شيئاً من التطاول لأن حادثة الاغتيال التي تظهر فيها الأصابع الإسرائيلية، حدثت في العمق الإيراني، ولكن إيران لن تبادر إلى الحرب ولن تعطي الفرصة لاقتيادها للزاوية بين خصومها، فهي تدرك أن المسألة ترتبط بالوقت، وأن إدارة جديدة في البيت الأبيض ستعيد ترسيم الأوضاع في المنطقة، أن الانسياق وراء إسرائيل لن يكون الخيار الوحيد أمامها في ظل الدور الايراني الذي يمكن أن تؤديه طهران في مواجهة خصوم أكثر أهمية في روسيا والصين، وهو ما تدركه إيران جيداً، وتعرف أهميته، فايران بالنسبة للأمريكيين في المنظور الاستراتيجي، ليست مجرد دولة تمتلك سواحل الخليج العربي وتتنافس على النفط، الذي تتراجع أهميته أمام وقائع اقتصادية جديدة، ولكنها أيضاً دولة تطل على شرايين التجارة البحرية في العالم، وتتاخم جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية، التي كانت من المحيط السوفييتي، وتزاحم باكستان أحد الحلفاء الرئيسيين للصين، والإيرانيون والأمريكيون يعرفون ذلك، أما العرب، فيعتقدون أنهم مركز الكون ويعيشون في أجواء المؤامرة والتشويق السياسي الذي يمارسونه كثيراً باستخفاف وعشوائية.
القدس العربي
سامي محاريق