استطاعت حركة الاحتجاج، التي اندلعت في العراق في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أن تتحول بشكل غير متوقع، إلى ثورة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ذلك أنها حظيت، بسبب مطالبها الجوهرية التي اختُصرت بعبارة «نريد وطنا» بتعاطف عابر للهويات الفرعية ودعم غير مسبوق من العراقيين.
وقد قلنا في مناسبات كثيرة إن كارتل الدولة/ السلطة في العراق، وبتنسيق مع الدولة الموازية، يقوم بجهد منهجي لشيطنة هذه الحركة/ الثورة من أجل تقويض التعاطف الشعبي الاستثنائي معها من جهة، وانتظار إمكانية أن تتشكل ثورة مضادة من داخل حركة الاحتجاج، أو من خارجها، تختلق صداما حقيقيا أو مفتعلا معها مما يسوّغ للسلطات «الرسمية» ذريعة فض النزاع بين «الطرفين» ثم إنهاء الاحتجاجات والاعتصامات بالحيلة، بعد أن فشل في إنهائها بالقسوة المفرطة التي استخدمت ضدها منذ اليوم الأول، والتي وصلت إلى حد الإعدامات الميدانية.
وقد تولى التيار الصدري، الذي دخل حركة الاحتجاج في مرحلة لاحقة من انطلاقها، هذه المهمة بداية من شهر شباط/ فبراير 2020، وتزامن هذا الانقلاب مع المصالح السياسية للتيار الصدري التي تتعلق بمرشح رئاسة مجلس الوزراء البديل لعادل عبد المهدي؛ فبعد اتفاق التيار الصدري مع الفاعلين السياسيين الشيعة الآخرين على المرشح الجديد، وتكليفه رسميا من رئيس الجمهورية في اليوم الأول من ذلك الشهر، ثم فشل القبعات الزرق التي مثلت التيار الصدري، في تجيير حركة الاحتجاج/ الاعتصام لخدمة مصالح التيار السياسية من الداخل (كان المرشح الجديد لرئاسة مجلس الوزراء هو مرشحهم المباشر تماما كما عادل عبد المهدي) شهدنا اول هجوم مسلح وعلني للتيار الصدري على ساحة اعتصام ساحة الصدرين في مدينة النجف يوم 5 من الشهر نفسه، وهو الهجوم الذي أوقع 6 شهداء وعشرات الجرحى، وعلى إثر فشل الهجوم في تحقيق الغاية الرئيسية منه، أمر السيد مقتدى الصدر بسحب أتباعه رسميا من تلك الساحات، اعتقادا منه أن هذا الانسحاب سيكون كافيا لإجهاض هذه الحركة. وبالفعل قامت القوات الأمنية بالتزامن مع هذا الانسحاب بهجوم منظم على ساحة التحرير، الساحة الرئيسية في بغداد، والساحات الأخرى، ولكن تلك المحاولات فشلت بسبب التحشيد الشعبي الكبير الذي دعم الساحات حينها، تحديدا من طالبات وطلاب الجامعات. ليعود التيار الصدري، وبتواطؤ من الحكومة وقواتها الأمنية هذه المرة، بقوة إلى الساحات، في محاولة منه للسيطرة عليها بالقوة، وبالفعل استطاع عناصر التيار السيطرة على المطعم التركي، الذي تحول إلى أيقونة لحركة الاحتجاج/ الثورة، وطرد المحتجين منه، مع توجيهات علنية من السيد مقتدى الصدر بفتح الطرق والجسور، وفرض عودة المدارس بالقوة، كل ذلك على مرأى ومسمع القوات الأمنية التي لم تتدخل لحماية المحتجين من البطش!
لم ينظر الفاعلون السياسيون الشيعة إلى حركة الاحتجاج مطلقا بعين الارتياح، فهم لم يجدوا فيها سوى حركة احتجاج مجتمعي شيعي، بالدرجة الأولى، ضدهم، لهذا بدوا حريصين على استخدام كل الأدوات المتاحة لديهم، وكان العنف المفرط، والقتل المنهجي، والاخفاء القسري، والاعتقالات، أدواتهم المنهجية
وفي سياق الشيطنة المتواصلة، ومحاولات إنهاء ساحات الاحتجاج بالقوة، وصولا إلى الهجوم الأخير على ساحة اعتصام الحبوبي في مدينة الناصرية يوم 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، بدا واضحا أن التيار الصدري، وباتفاق مع كارتل الدولة، وتحديدا الفاعلين السياسيين الشيعة في السلطة، فضلا عن الدولة الموازية بطبيعة الحال، قد تولى بشكل ذاتي، أو بتكليف منهم، مهمة إنهاء حركة الاحتجاج/ الثورة، التي باتت تشكل عبئا عليهم جميعا، وقد حظي القرار بمباركة صريحة من الحكومة العراقية، بدليل السهولة التي اقتحم بها التيار الصدري ساحة الحبوبي مع معرفة الجميع بتوقيت التحشيد ومكانه (ساحة الحبوبي) ومعرفتهم بما يستتبع ذلك من مواجهات بين الطرفين، و لا أحد اتخذ أي إجراء لمنع ذلك! و كل الشواهد التي تبعت ذلك تقول إن الغرض من التحشيد والهجوم علي الساحة هو انهاء الاعتصام في ساحة الحبوبي خاصة بعد موجة مطاردة واعتقال الناشطين الرئيسيين فيها. والأهم من ذلك كله شبه الاتفاق الذي عقد من أجل تعيين أحد أعضاء التيار الصدري محافظا للمدينة!
لم ينظر الفاعلون السياسيون الشيعة إلى حركة الاحتجاج/ الثورة مطلقا بعين الارتياح، فهم لم يجدوا فيها سوى حركة احتجاج مجتمعي شيعي، بالدرجة الأولى، ضدهم، لهذا بدوا حريصين على استخدام كل الأدوات المتاحة لديهم من أجل إجهاضها منذ اليوم الأول، وكان العنف المفرط، والقتل المنهجي، والاخفاء القسري، والاعتقالات، أدواتهم المنهجية في سبيل ذلك. ولكن بعد فشل هذه الأدوات، التي أحرجت كارتل الدولة/ السلطة، وفضحت ممارسات الدولة الموازية، وقد كان الجميع حريصا على التغطية عليها، كان لا بد من استخدام وسائل بديلة، وهي هنا التيار الصدري، فهو اليوم الأداة المثالية لذلك، لاسيما أنه استنفد كل اغراضه السياسية من الاحتجاجات من جهة، ولأنه حريص على الإبقاء على احتكاره للشارع من دون أن تنازعه عليه قوة أخرى من جهة ثانية؛ فحركة الاحتجاج كانت التحدي الحقيقي للتيار الصدري لأنها أفقدته هذا الاحتكار الذي مارسه طويلا في سياق لعبته المزدوجة، من خلال الحضور القوي في كارتل الدولة/ السلطة، واستخدام الشارع لأغراض الابتزاز السياسي للشركاء. لهذا بدا إلقاء زعيم التيار الصدري لعباءة «الوطنية» التي تدثر بها طويلا، دعائيا وخطابيا، بعد حديثه عن العودة إلى «البيت الشيعي».
لم يكن الاحتجاج/ الثورة، بالنسبة للكتل الشيعية سوى محاولة للانقلاب على هذا «البيت الشيعي» الذي يحتكر السلطة في العراق، ومحاولة لتقويض هذا النظام السياسي الذي يحرص الفاعلون السياسيون الشيعة مع غيرهم من الشركاء، على الإبقاء عليه، وإدامته، ولو عبر الدم. من هنا نفسر استخدام السيد مقتدى الصدر، للمرة الأولى، توصيفا شيعيا بحت، عندما وقّع بيانه باسم «الإمامي الاثنا عشري» مع كل ما تحمله هذه العبارة من معنى، و حينما دعا في خطابه إلى ما سمّاه «ميثاق شرف عقائدي» يكرس الامر الواقع ضد أي محاولة «شيعية» أخرى للانقلاب عليهم!
يحيى الكبيسي
القدس العربي