خلال شهر سبتمبر الماضي قام حسن بلارك أحد كبار الضباط في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات قبل أشهر بتهمة تهريب السلاح، بزيارة غير معلنة لواحد من أقدس المواقع عند الشيعة في مدينة كربلاء بجنوب العراق.
تلك الزيارة كانت لتفقد مشروع توسعة العتبة الحسينية البالغ تكاليفه 600 مليون دولار حيث تتولى تنفيذه شركة يملكها مع آخرين من رجال الحرس الثوري تربطها صلات بالمرشد الأعلى علي خامئني وهي مؤسسة تفرض عليها الولايات المتحدة عقوبات أيضا.
ولم تنشر وسائل الإعلام الإيرانية أو العراقية شيئا عن الزيارة، لكن وكالة رويترز قالت إن عاملا في الموقع أرسل صور بلارك لها وهو يضع على رأسه خوذة ويغطي وجهه بكمامة طبية زرقاء أثناء قياس درجة حرارته قبل دخوله الموقع.
ودأب بلارك وقادة آخرون في الحرس الثوري يشرفون على المشروع في التردد على المشروع دون سابق إخطار، وتتولى شركات ومهندسون إيرانيون تم التعاقد معهم حصريا تنفيذ الأعمال المطلوبة بعد اطلاعهم على التطورات في جولات سريعة.
وسبق تصوير قاسم سليماني قائد فيلق القدس الذي قاد استراتيجية إيران العسكرية والسياسية في مختلف أنحاء المنطقة خلال جولة قام بها في المشروع في 2018 قبل 18 شهرا من مقتله في ضربة أميركية بطائرة مسيرة. كما أن إسماعيل قاآني الذي خلف سليماني في منصبه قام بزيارة غير معلنة للعتبة المقدسة بعد أسبوعين من زيارة بلارك.
كانت زيارة بلارك لكربلاء أحدث علامة على أن الحرس الثوري يواصل أعمال مؤسسة الكوثر رغم الضغوط الأميركية على أنشطته في العراق. وتعد توسعة العتبة الحسينية في المدينة أكبر مشروع تقود تنفيذه مؤسسة الكوثر المملوكة للحرس الثوري لتطوير السياحة الدينية في العراق وسوريا وهناك مشروعات أخرى في الطريق.
ويعتبر الكثيرون أن هذا الأسلوب الذي دأبت عليه إيران منذ الإطاحة بصدام حسين خلال الغزو الأميركي قبل 17 عاما هو أحد أساليبها الناعمة لدعم نفوذه السياسي والعسكري الخشن.
ويتيح التحكم في تطوير العتبات المقدسة تعميق العلاقات التجارية كما أنه ينطوي على فرص اقتصادية لإيران. فالسياحة الدينية صناعة تدر مليارات الدولارات سنويا في العراق وهي ثاني أكبر مصدر للدخل في البلاد بعد قطاع النفط.
وقال وزير عراقي سابق مطلع على المشروع لوكالة رويترز “صارت علاقة، وصار توغل إيراني. دخلوا في الدولة العميقة. العلاقة العقائدية أكبر من العلاقة السياسية وهم (الإيرانيون) يستخدمون السياسة الناعمة جدا”.
وتمنح الحكومة العراقية المشروعات الدينية امتيازات خاصة منها إعفاءات جمركية على الإسمنت والصلب وغيرهما من المواد المستوردة من إيران. وتقول مصادر إن الكثير من البضائع تدخل العراق بدعوى تطوير العتبات ثم يباع في أماكن أخرى في البلاد، وليس من المعلوم كم يقدر حجم هذه التجارة.
وتتولى لجنة إعادة إعمار العتبات المقدسة في إيران، والتي شكلها الزعيم الأعلى آية الله علي خامنئي ويتولى إدارتها من يتم تعيينهم من الحرس الثوري، تطوير العتبات الشيعية. وفي مارس الماضي، فرضت واشنطن عقوبات على اللجنة وعلى مؤسسة الكوثر جناح الأعمال الهندسية التابع لها في العراق، وكان بلارك من المسؤولين المستهدفين بالعقوبات.
التحكم في تطوير العتبات المقدسة في العراق يتيح لإيران الحصول على أموال من السياحة الدينية لتوظيفها في أجندتها الخارجية
وترى إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب أن اللجنة والمؤسسة متورطتان في تقديم “مساعدات مميتة” لفصائل تعمل لحسابها في العراق وسوريا وأنشطة استخباراتية وغسل أموال. وقال متحدث باسم وزارة الخزانة الأميركية لرويترز إن “إيران تسعى لتوسعة نفوذها واستغلال قطاعي المال والأعمال في العراق”.
وبينما لا يمكن للمسؤولين بالحكومة العراقية التعليق على أنشطة مؤسسة الكوثر في العراق لعدم وجود تفاصيل وهو ما كرره متحدث باسم الوقف الشيعي الذي يدير العتبات المقدسة، قال أفضل الشامي نائب الأمين العام للعتبة الحسينية المقدسة إن الدور الإيراني ضروري لأن “الوضع الاقتصادي في العراق لا يستطيع أن يبني مثل هذه المشاريع الكبيرة فالشعب الإيراني شعب يحب الأئمة ويحب العراق ويريد أن يتبرع بأموال للعتبات المقدسة”.
وتحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها تقليص النفوذ الإيراني بالعقوبات واغتيال قادة عسكريين وبتحالف جديد بين إسرائيل والإمارات والبحرين. وللمرة الأولى منذ سنوات أخذت حكومة عراقية بقيادة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي صف الولايات المتحدة وعارضت الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران تعيين الكاظمي.
وقالت وزارة الخزانة الأميركية في نص العقوبات التي فُرضت في مارس إن مؤسسة الكوثر “عملت كقاعدة لأنشطة المخابرات الإيرانية في العراق بل وشحن أسلحة وذخائر لجماعات الميليشيات الإرهابية المدعومة من إيران”، لكن مسؤولا بالجمارك العراقية يقول إن إيران لا تحتاج لنقل السلاح للمؤسسة التي يتركز نشاطها في التجارة والقوة الناعمة.
استراتيجية بعيدة المدى
اقرأ أيضا: حسن بلارك ذراع جديدة لإيران في العراق
تقول لجنة إعادة إعمار العتبات المقدسة إنها تشرف على 17 مشروعا على الأقل في مراقد مهمة في النجف وكربلاء وبغداد ومدينة سامراء الشمالية وكثيرا ما تكون تعاقدات هذه المشاريع لسنوات طويلة وتبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات.
وفي النجف قامت مؤسسة الكوثر ولجنة إعادة الإعمار بإصلاح القبة الذهبية في مرقد الإمام علي وإيوانه كما أنهما تنفذان توسعة للبنية التحتية في المرقد أيضا بتكلفة تبلغ 500 مليون دولار. وفي بغداد صنعت المؤسسة واللجنة شبابيك مزخرفة في مرقدين لاثنين من أئمة الشيعة كما تعملان على إصلاح مئذنة مائلة بسبب ارتفاع منسوب المياه الجوفية وفقا لما قاله مصدر مقرب من العتبات.
وتعمل اللجنة أيضا على توسعة مرقد الإمام العسكري في سامراء الذي فجره متطرفون سنة 2006 مما أدى إلى اندلاع بعض من أسوأ أعمال العنف الطائفي وإراقة الدماء في العراق.
ويتطلع بلارك إلى المزيد من الأعمال. فقد قال لوكالة فارس الإيرانية شبه الرسمية للأنباء في أغسطس الماضي إنه يأمل بتنفيذ توسعة في موقع آخر في كربلاء هو مرقد الإمام العباس في إطار خطة وافقت عليها وزارة البلديات العراقية، لكن المسؤولين بالمرقد لم يطلبوا ذلك حتى الآن.
وبالنسبة للجمهورية الإسلامية تعد المشاركة في تطوير المراقد الشيعية في العراق استراتيجية بعيدة المدى. إذ يحقق لها ذلك وجودا دائما في مراكز النفوذ الشيعي حيث تأمل إيران التأثير في خلافة السيستاني أكثر رجال الدين الشيعة في العراق نفوذا.
واشنطن فرضت عقوبات على مؤسسة الكوثر كونها قاعدة لأنشطة المخابرات الإيرانية في العراق ودعم الميليشيات بالسلاح
ويوجد الحرس الثوري بصفة منتظمة في النجف حيث مقر آية الله العظمى السيد علي السيستاني وكانت فتاويه وبياناته قد دفعت العراقيين للمشاركة في الانتخابات للمرة الأولى في حياتهم عام 2005 وأدت إلى ظهور مزيج من الفصائل المسلحة الشيعية لقتال تنظيم الدولة الإسلامية في 2014 وأطاحت بحكومة عراقية في العام الماضي.
ويعارض السيستاني أي تدخل خارجي حتى إذا كان إيرانيا في شؤون العراق كما يعارض نموذج الحكم الديني على غرار ولاية الفقيه. وفي 2018 توفي المرجع الذي وقع عليه اختيار إيران لخلافة السيستاني البالغ من العمر 90 عاما وذلك في انتكاسة لخطط طهران في العراق.
ويؤكد المراقبون أن إيران تستخدم وجودها لإبراز قوتها الإقليمية أمام السعودية ودعم شرعيتها في الداخل باعتبارها حامية الأماكن الشيعية المقدسة. وقال النائب محمد صاحب الدراجي عضو اللجنة المالية النيابية “إيران تريد نفوذا اقتصاديا ودينيا وسياسيا. وأفضل مكان لتحقيق ذلك هو كربلاء والنجف. إيران ضعفت لكنها أقوى من الولايات المتحدة في العراق”.