رغم حمى التصعيد بين الولايات المتحدة والصين، والتي اشتدت مع الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب في العديد من الملفات ومن أهمها المعركة التجارية، إلا أنّ نظرة عميقة لموازين القوى تحيل إلى أن جبهة الصراع الأكثر سخونة اليوم تكمن في مكان آخر، وتتمثل في حربهما الباردة للسيطرة على المناطق النامية.
واشنطن – عوضت الصين بعد ثلاثة عقود من انتهاء الحرب الباردة، الفراغ الذي تسبب في تفكك الاتحاد السوفييتي، بعد أن كان يزاحم نفوذ الولايات المتحدة للسيطرة على العالم، حيث يتوقع الباحثون والمؤرخون أن تتحول الدول النامية مرة أخرى إلى ساحة للتنافس، ولكن بين بكين وواشنطن.
ومع انتهاء فترة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب، يبدو أن واشنطن تجنبت، وبالمصادفة، خطر أن تفصلها الصين عن الديمقراطيات المتقدمة الأخرى في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ. ومع ذلك يرى المؤرخ الأميركي هال براندز أن صراع النفوذ في العالم الثالث مازال في بدايته، حيث تمتلك بكين مزايا كبيرة وطموحات هائلة.
ويقول براندز، الذي يعمل أستاذا لكرسي هنري كيسنجر للشؤون العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز الأميركية إن الصراع بين واشنطن وبكين يدور في أطراف العالم لأن القلب الديمقراطي للعالم لم يعد مهددا بالمخاطر كما كان الحال خلال الفترة الماضية.
وقد كان مزيج النفوذ الاقتصادي الصيني والسلوك الأميركي المدمر للذات تحت حكم ترامب في أواخر العام الماضي وحتى بداية هذا العام يهدد بدق أسافين عميقة في الغرب وبدا من المحتمل أن تختار قطاعات كبيرة من أوروبا موقف الحياد بين واشنطن وبكين، أو حتى الاعتماد تكنولوجيا على الصين، وهو الخطر الذي تراجعت حدته مؤخرا وإن لم يختفي تماما.
ويعتقد براندز في تقرير نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء أن تزايد حدة القمع الداخلي، والضغط على النظام الديمقراطي في تايوان وقهر الدول التي تنتقد أو تقاوم سياسات الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، عوامل أدت إلى موجة من ردود الفعل الدبلوماسية المناوئة للصين في الغرب.
وتراجعت شعبية الصين بالفعل في أوروبا وشرق آسيا، ووصف الاتحاد الأوروبي الصين بأنها “منافس خطير”، كما قررت العديد من الدول المتقدمة سواء بشكل صريح أو ضمني عدم استخدام تقنيات شركة معدات الاتصالات الصينية هواوي في إقامة البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس للاتصالات.
والمفارقة، بحسب براندز، هي أن حقبة رئاسة ترامب للولايات المتحدة التي اتسمت في أغلب سنواتها بمحاولة تفتيت العالم الديمقراطي، لتنتهي بظهور تدريجي لتحالف ديمقراطي لمقاومة النفوذ الصيني.
ولكن للأسف، فالموقف مختلف في المناطق النامية، وتحديداً في وسط وجنوب شرق آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية. فخلال الحرب الباردة، كان العالم الثالث نقطة ضعف استراتيجية لواشنطن وكانت شعوب هذه الدول أكثر استعدادا لقبول النفوذ السوفييتي بسبب مزيج من التطرف الأيديولوجي والمشاعر المناوئة للغرب في حقبة ما بعد انتهاء الاستعمار.
والآن تغيرت الظروف، وتراجع اسم العالم الثالث، ليحل محله اسم الدول النامية أو الأسواق الصاعدة للتعبير عن هذه المناطق من العالم. ورغم ذلك فمازالت هذه المناطق تمثل تحديا استراتيجيا للولايات المتحدة.
وبشكل عام، فهذه الدول أقل تطورا من حلفاء الولايات لمتحدة في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، ما يجعل عروض القروض والتمويل الصينية حتى السلبية منها، أكثر جاذبية لهذه الدول النامية. كما أن أنظمة الحكم الديمقراطي أقل قوة والفساد السياسي أكثر انتشارا في دول العالم الثالث سابقا، مقارنة بالدول الغربية، ما يفتح نقاط دخول جيدة للنفوذ الصيني.
وبسبب خبراتها التاريخية مع الاستعمار والتدخل الغربي أحيانا من جانب واشنطن نفسها، فإن الدول النامية تفضل مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وتتجنب إدانة الانتهاكات الاستبدادية للحزب الشيوعي الصيني لذلك فإن الصراع على النفوذ في دول الجنوب أصبح في قلب الاستراتيجية الجيوسياسية للصين.
ونظرا لضخامة عدد دول العالم الثالث، فإن الحصول على دعمها مهم لجهود الصين من أجل السيطرة على المؤسسات الدولية أو احتوائها، من المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى الاتحاد الدولي للاتصالات. ورغم أن هذه المؤسسات لا تبدو مهمة جدا من الناحية الاستراتيجية، لكنها تلعب دورا حيويا في وضع قواعد ومعايير النظام العالمي.
وبالمثل فإن مبادرة الحزام والطريق الصينية تستهدف تعزيز العلاقات الصينية الاقتصادية والدبلوماسية والتكنولوجية وفي ما بعد العسكرية مع الكثير من دول العالم النامي، فمن منظور بكين يعد بناء حزام نفوذ في العالم الجنوبي طريقا لتحقيق التكافؤ الجيوسياسي مع الولايات المتحدة.
في المقابل يقدر المسؤولون الأميركيون خطورة التحركات الصينية، فخلال سنوات حكم ترامب تحدث مسؤولون كبار مثل وزير الخارجية ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي جون بولتون علانية على طابع “الإمبريالية الجديدة” للصين.
ويعتبر إنشاء مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأميركية استجابة أولية للتحركات الاقتصادية الصينية على الصعيد العالمي، كما أن الديمقراطيات الرئيسية الأخرى مثل أستراليا واليابان تعمق علاقاتها مع الدول الأخرى في جنوب المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا.
ومع ذلك فإن القروض ومشروعات البنية التحتية الصينية تنتشر في العالم، كما تجذب مبادرة طريق الحرير الرقمي العديد من الدول إلى أحضان الصين التكنولوجية، ومازال النفوذ الدبلوماسي لبكين يتمدد ولا يتراجع. وفي المستقبل القريب سيصبح التحدي الصيني في العالم الثالث حقيقة استراتيجية تحتاج إلى تعامل منسق ومبتكر من الولايات المتحدة وحلفائها.
ويعتقد براندز بأن إقامة تحالف معزز بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والاتحاد الأوروبي للديمقراطيات الكبرى تتيح استخدام مواردها المجمعة بصورة أكثر استراتيجية لتعزيز النمو الاقتصادي والبنية التحتية في دول العالم الثالث.
وسيقلل تشكيل تحالف ديمقراطي في مجال التكنولوجيا بهدف تسهيل وتمويل مشروعات الاتصالات التي لا تعتمد على التكنولوجيا الصينية، استخدام دول العالم الثالث لتقنيات هواوي في شبكات الجيل الخامس للاتصالات على سبيل المثال.
كما أن جائحة كورونا، توفر فرصة جيدة لكي تعلن الدول الغربية الديمقراطية الغنية عن برنامج سخي لتوفير وتوزيع لقاحات المرض للدول النامية، وهو ما سيكون خطوة جيدة من الناحية الأخلاقية، ومحاولة لمنع استغلال الصين لدبلوماسية اللقاحات من أجل تعزيز نفوذها في هذه الدول.
وبمرور الوقت سيكون على واشنطن وحلفائها التأكيد على أساليب الحكم الرشيد والإصلاح الديمقراطي في العالم النامي لأن التقدم في هذه المجالات سيجعل من الصعب على الصين إيجاد حكام مستبدين أو قادة انتهازيين تعقد معهم الصفقات.
ومع تشجيع التواصل الإيجابي كأفضل ضمانة للنفوذ الأميركي، يرى المؤرخ براندز أنه من الضروري أن تلقي واشنطن وحلفاؤها الضوء سواء بشكل علني أو بهدوء على الجوانب الأكثر استغلالية في الممارسات الصينية في دول الجنوب مثل استغلال الموارد الطبيعية أو دعم الحكام المستبدين ورفض مبادرات تخفيف الديون على الدول الفقيرة.
العرب