خسارة مقتدى الصدر التاريخية

خسارة مقتدى الصدر التاريخية

فشلت الأحزاب وميليشياتها في القضاء على ثورة الشباب بعد قتل أكثر من 700 شاب وشابة واختطاف العشرات منهم. لم يكشف رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أسماء المتورطين في هذه الجرائم، كان من الطبيعي البحث عن وسائل وأدوات جديدة تنهي مواقع الاعتصام في العاصمة بغداد ومدن الجنوب، خاصة الناصرية (ذي قار)، بعد فشل بعض الأجهزة العسكرية في تحقيق ذلك، رغم المجزرة المشهورة التي قادها الفريق جميل الشمري قبل عام.

بعد غلق الاعتصام الشبابي في ميدان التحرير بالعاصمة العراقية بغداد، بإجراءات أمنية تحت إدارة وتوجيه الكاظمي، وخضوع شباب تشرين (أكتوبر) لمتطلبات الوقاية من كورونا، كان البرنامج القمعي يتطلب إنهاء بؤرة الناصرية ميدانيا، للدخول في مرحلة التحضير للانتخابات المبكرة بزخم عال، وللإعلان في يونيو 2021 أن هؤلاء الفاسدين والكذابين قد نفذوا شعارات ثورة أكتوبر وانتصروا بأصوات الشعب العراقي. وحين عجز الميدان القمعي المسلح عن تحقيق هذا الهدف، لجأوا إلى “الكنز” الذي يمثله مقتدى الصدر، فكانت الصفقة التي قبلها هي تنفيذ برنامج تصفية هذه الثورة في الميدان والسياسة.

اعتقد قطاع واسع من الشباب “الشيعي” أن الصدر يمكن أن يساندهم في انتفاضتهم التي تبلورت ونضجت في الأول من أكتوبر 2019 بشعاراته الثورية، ومعارضته الإعلامية للطبقة السياسية الحاكمة، رغم مشاركته في السلطة، وكانت قوته في مناكفة رفاقه من شيعة السلطة امتلاكه جمهورا واسعا من الشباب الفقراء، يمكن أن يشكل عنصر ضغط كبير لتعزيز جهود تخليص البلد من الأحزاب الفاسدة ومن النفوذ الإيراني.

لقد تخلى الصدر عن فرصة توحيد الطاقات الشعبية، بعد أن أصبحت الانتفاضة في مرحلة القدرة على التغيير السياسي، خاصة بعد إسقاط حكومة عادل عبدالمهدي عام 2019. فتحوّل إلى خصم للثوار ووصفهم عبر تغريداته بأنهم “صبيان متمردون معتدون على الله وأوليائه”، متجاوزا في تلك القسوة غير المبررة جميع المفردات السابقة للميليشيات وأحزابها.

قد يكون الصدر محقّا في تشخيص وإدانة بعض المظاهر السلبية التي رافقت الاعتصامات، ودخول عناصر غريبة دستها الأحزاب وميليشياتها بخبث، ولا يمكن إعفاء كثر من أنصاره عن التصرفات التي أضرت بالثورة، لكن في تحوله إلى خصم يحمل السيف ويهدد بالموروث الدموي لجيش المهدي، الذي عانت منه قطاعات واسعة من شعب العراق لإنهاء ثورة الشباب الجديدة، فتلك قصة لها أكثر من دلالة في هذه المرحلة العصيبة من حياة العراق.

خطوة الصدر مرتبطة بمجموعة من الإجراءات التي نفذها الكاظمي، الذي أوهم الثوار بأنه نصير وحام لهم، وقد اتخذ بعض الإجراءات الفردية في حماية بعض الشباب، لكنه سعى إلى إحداث شرخ بين بعض قيادات الحراك الشبابي والجمهور المنتفض في استمالتهم ببعض المواقع الرسمية في مكاتبه الاستشارية الكثيرة، ووعود أخرى في دخول الانتخابات المقبلة باسم ثورة أكتوبر.

الصدر تخلى عن فرصة توحيد الطاقات الشعبية، بعد أن أصبحت الانتفاضة في مرحلة القدرة على التغيير السياسي، خاصة بعد إسقاط حكومة عادل عبدالمهدي عام 2019

تزامن موقف الصدر بحملة إعلامية مُدبرة من الأحزاب الشيعية، نفذها بعض أجرائها عبر الفضائيات، تطالب بالعودة إلى تكاتف الأطراف الشيعية وإنهاء ما يسمى بثورة أكتوبر، وتوجيه اتهامات باطلة إليهم، عززتها الاختراقات الكثيرة بين صفوفهم بسبب عفوية الثورة ونقائها ودعوتها الصادقة إلى تخليص الوطن من القتلة والفاسدين.

الثوار الشباب، إلى جانب كل الوطنيين العراقيين، تعاملوا بروح وطنية إيجابية مع مقتدى الصدر، في محاولة لنسيان ذلك الإرث الدموي المؤلم لانتهاكات “جيش المهدي” ضد العراقيين من أبناء العرب السنة، ومازالت فصائل سرايا السلام التابعة للصدر تنفذ إلى جانب باقي فصائل الحشد الشعبي مشروع التغيير الديموغرافي في مدينة سامراء.

لن تخسر ثورة أكتوبر في مواقف الصدر السلبية، بل هو الخاسر، وتغريداته الأخيرة أكدت بقاءه داخل شروط تقاسم السلطة منذ عام 2005، لكنه يبحث عن حصة أكبر معتقدا أنه في قتله للمعتصمين وتشويه سمعتهم سيتمكن من مصادرة نتائج ثورتهم لصالحه، وتعزيز مواقعه السياسية وشراكته مع رفاقه في العملية السياسية من أحزاب الفساد والاستبداد، خاصة بعد دعوته الصريحة للوصول إلى رئاسة الحكومة في الانتخابات المبكرة المقبلة.

الوقائع الأخيرة بعد إعلان موقفه السلبي من ثورة أكتوبر تشير إلى التزامه بشروط النظام السياسي القائم على شراكة الفساد والاستبداد، وليس خصما له، مثلما قال في مجمل إعلاناته السابقة. فسارع إلى مراجعة دعوته إلى استلام رئاسة الحكومة المقبلة التي استفزت الأحزاب المنافسة الأخرى عبر طلبه “ترميم البيت الشيعي”، والدعوة إلى “ميثاق شرف عقائدي وسياسي يُرفع فيه شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله”، في تناقض صريح لفكرة المواطنة والإصلاح الجذري التي رفعتها ثورة أكتوبر.

لا يوجد بين الأطراف الشيعية منذ وصولها للحكم عام 2003 لا ميثاق شرف عقائدي ولا سياسي، الذي حصل أن أكثر المتصدرين في قيادة الحكم كان حزب الدعوة الذي هُزم ومشروع الإسلام السياسي الشيعي عام 2018، الحلفاء معه كانوا رموزا دينية شيعية تمثلت بعائلة الحكيم المتوارثة ووريث محمد الصدر، مقتدى، هذه المسميات جميعها أصبحت تحت عباءة الفشل والهزيمة بعد سرقة أموال العراقيين وإفقارهم وإذلالهم، فهم سيوقعون مجددا على ميثاق الخسارة التاريخية حتى وإن حاولوا تحت عنوان كبرياء المهزومين دخول الانتخابات المقبلة.

رغم أن مواقف الصدر التي لا يعرف المتابع مدى التزامه الاستمرار بها وعدم مغادرتها في أي لحظة إلى مواقف مثيرة جديدة، لكنه من جانب آخر قدم في موقفه من ثورة الشباب خدمة كبيرة لمسؤولي الأحزاب الشيعية النافذة، فهم غير مكترثين وغير مطمئنين لمنطقه القائل: انظروا أنا القادر على إنهاء ثورة أكتوبر ولستم أنتم. فبعضهم لديه خصومة تاريخية معه، وهم مغتبطون لخصومته وعدائه الصريح لثورة الشباب، فذلك في نظر قادة تلك الأحزاب قد أسقط شعاراته الجماهيرية الثورية، وعاد إلى حقيقته كعضو في فريق النظام والحكم، ميزان موقعه يحسب كغيره في وراثة المكانة المذهبية لشيعة السلطة، في وقت أصبحت المنافسة السياسية تقاس بمن يمتلك أعدادا أكبر من حاملي السلاح وليس بالإنجاز الذي لا وجود له.

خسر الصدر فرصة تاريخية في زمن صعب يمر به العراق، الذي تحوّل إلى فريسة يتقاسمها الغرباء في تخليه عن شعاراته في الدفاع عن قضايا المظلومين والمسروقين الثائرين. كان قادرا على استعادة بعض ما قرأناه في التاريخ العربي الإسلامي والتاريخ العراقي الخاص وجزء منه حقيقي في علو مكانة من تتوفر لديهم فرصة قيادة الناس لمواجهة الظلم والتسلط والاستبداد والانتصار على أدواته، لكنه اختار أخيرا معسكر الخاسرين المهزومين الفاسدين طمعا بالسلطة والجاه.

العرب