بعد طول انتظار، أعلنت اللجنة العليا للانتخابات في مصر أن الانتخابات البرلمانية التي تأجلت عدة مرات منذ 3 يوليو 2013، ستجرى يومي 17 و18 أكتوبر المقبل، خارج البلاد، و18 و19 من الشهر نفسه داخلها، على أن ينعقد البرلمان نهاية العام.
ويضع تحديد التاريخ نهاية للجدل حول ثالث الاستحقاقات التي نصت عليها خارطة الطريق، التي تم إعلانها في 8 يوليو 2013 عقب الإطاحة بمحمد مرسي، وتضمنت أيضا إعداد دستور جديد للبلاد (تم في يناير 2014)، وانتخابات رئاسية (تمت في يونيو 2014)، إلا أنه في نفس الوقت يسلّط الضوء على الساحة الحزبية في مصر، وما تعيشه من انشقاقات وصراعات وتعددية سلبية، يخشى مراقبون أن تؤثّر سلبا على تركيبة مجلس النواب القادم.
منذ اللحظة الأولى التي قررت فيها الحكومة المصرية فتح باب الترشح لانتخابات البرلمان، والصراع بين القوى السياسية على أشده، فكل حزب مطالب بأن يثبت كفاءته وجدارته لدخول مجلس النواب ومعه أكبر عدد من المقاعد، ومطالب، في سبيل تحقيق ذلك، بالبحث عن موطئ قدم داخل تحالف أو تكتل انتخابي متجانس، ومطالب أيضا بأن يكون قريبا من الظهير السياسي الشعبي لرئيس الدولة.
في ظلّ هذا الوضع، كشفت الأيام القليلة الماضية عن حزمة من الظواهر التي تعد في بعض جوانبها جديدة على المشهد السياسي المصري، فقد انخرطت معظم الأحزاب في مناقشات وحوارات لتشكيل تحالفات انتخابية، بدت عملية تكوينها مثل لعبة الكراسي الموسيقية في تنقلات أصحابها بين التكتلات.
ويبدو جليا انقسام الساحة الحزبية في مصر إلى قسمين رئيسيين: أحزاب دينية وأخرى مدنية. وقد أخذ الخلاف يحتدم بين القسمين. ووصل إلى حد التشكيك في وطنية البعض.
ودخلت المزايدات الحزبية خندقا اقترب من محاولات النفي السياسي، طمعا في أصوات الناخبين أو حرمان آخرين منها، بما يعطي صورة سلبية عن إحدى أعرق وأقدم الساحات الحزبية العربية.
المثير أن الخلافات السياسية انحصرت تقريبا بين القوى الحزبية، وأخذت شكلا استقطابيا حادا، بدا فيه النظام الحاكم بعيدا تماما عن ساحة المعارضة، وبدا كأن قوى المعارضة لا صوت واضح لها في مواجهة النظام الحاكم، وحتى القلة القليلة التي يعلو صوتها في مناسبات معينة فشلت في تكوين مظلة تجمعها، فأصبحت مصر كأنها بلا معارضة حقيقية ومنظمة.
بالرغم من أن ظاهر الخلافات ومبرراته التي تقدم للرأي العام، تشير إلى أنها ترجع لتباين وجهات النظر في قيادة الأحزاب المتنازع عليها، إلا أن المتابع يكتشف أن خلف كل صراع حرب شرسة يقودها رجال أعمال، درجوا على خلط المال بالسياسة منذ عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، ويسعون للسيطرة على مفاصل النظام السياسي الراهن، تارة عبر امتلاك وسائل إعلام لتوجيه المشهد الجماهيري، وأخرى من خلال الهيمنة على قيادات الأحزاب، تمهيدا للسيطرة على مجلس النواب.
هذه المظاهر السلبية، جعلت عددا كبيرا من المراقبين لا يتفاءلون بالبرلمان القادم، بل يتشاءمون من قدرته على مواجهة التحديات المتراكمة والاستحقاقات الصعبة. ويتوقعون تشكيله من قوى متصارعة قد تتفرغ لتصفية حساباتها السياسية. ويمكن أن تكون عبئا على الدولة، وعنصرا مشاغبا بلا طائل، إذا جرى توظيف المزايا الواسعة التي كفلها الدستور الجديد لأعضاء البرلمان بطريقة خاطئة، بدءا من الموافقة على القوانين والتشريعات وحتى البحث في إقالة الرئيس، مرورا بتشكيل الحكومة.
لذلك بدأت بعض الأصوات تتعالى مطالبة بإدخال تعديلات دستورية لتحصين رئيس الجمهورية، ومنع خضوعه للمحاسبة الكاملة من قبل البرلمان.
استقطاب سياسي حاد
علاوة على تزايد حدة الأصوات التي تطالب بسرعة حل الأحزاب الدينية، بما أوجد حالة من التجاذبات، ليس لتناقض وجود هذه الأحزاب مع الدستور، حيث يمنع تشكيل الأحزاب على أساس ديني، لكن لأنها فتحت الباب على مصراعيه لتكاتف القوى المدنية ضد الدينية، التي قد تكون القوة الوحيدة التي استعدت لهذه الانتخابات جيدا.
لكن طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية، قال لـ“العرب”، إن الأحزاب الدينية فقدت مصداقيتها في الشارع المصري، عقب فشل تجربة جماعة الإخوان المسلمين في الحكم، وبعضها لا يزال يستغل عاملي الفقر والجهل، في محاولة استعادة جانب من الثقة المفقودة، قبل إجراء الانتخابات البرلمانية، الأمر الذي يمثّل تحديا بالغ الصعوبة لهذه الأحزاب، لاسيما أن هناك أحزابا مدنية بدأت تمارس لعبة تقديم مساعدات مادية، أملا في كسب أصوات انتخابية.
ويضيف فهمي: إذا أرادت الأحزاب المدنية السيطرة على الشارع المصري، لابد لها من الاستفاقة من حالة الغيبوبة السياسية التي تعيشها والنزول إلى الشارع، لا فقط في موسم الانتخابات، بل من خلال وضع خطة لانتشارها شعبيا، وضرورة أن تتخلى عن المصالح الشخصية الضيقة، لتفوت الفرصة على عودة الأحزاب الدينية.
ولم يستبعد طارق فهمي وجود فئة هامة من المصريين تثق في خطاب من يتحدثون باسم الدين، وتكمن خطورة استمرار التعاطف في تحوله إلى أصوات داخل صناديق الانتخابات.
بينما قال طارق السهري، وكيل مجلس الشورى السابق والقيادي بحزب النور السلفي، لـ“العرب” إن شعبية الأحزاب الدينية عموما كبيرة، وتعتبر رقما خطيرا في المعادلة السياسية حاليا، لكثرة الأحزاب المدنية وتفتتها.
وزعم السهري أن فرص التيار الديني لا تقل عن المدني في انتخابات مجلس النواب القادم، لأن أغلبية المقاعد المتنافس عليها للمستقلين وليست للقائمات. وشدّد على أن فشل تجربة الإخوان المسلمين في الحكم، لا تعني فشل كل التيارات الدينية.
لكن يسري العزباوي، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، قال لـ “العرب” إن الأحزاب المدنية سوف تمثل رقما أساسيا في الانتخابات البرلمانية المقبلة، بسبب تراجع فرص الأحزاب الدينية التي اختفت بنسبة كبيرة من المشهد السياسي، منوها إلى أن الفترة التي أعقبت ثورة 30 يونيو 2013، لم تكن كافية أمام الفصائل الدينية لاستعادة ثقة الشعب المصري.
ويرى وحيد عبدالمجيد، رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية، صعوبة وجود بديل للأحزاب الدينية، على الرغم من تراجع أسهمها في الشارع، خاصة أن الشعب المصري يعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية حادة، وهي عناصر مؤثرة في اللعبة السياسية للإسلاميين.
وأضاف أن حزب النور السلفي يسعى جاهدا لتقديم نفسه كضامن ومسيطر على تيار الإسلام السياسي، بتقديم خدمات مزدوجة، حيث يحاول أن يبقى تيار الإسلام السياسي تحت السيطرة، ويسعى إلى تجنب بطش الأجهزة الحكومية، وتخفيف انتقادات القوى السياسية المدنية.
غير أن هذه المعادلة المعقدة تسببت في حدوث خلخلة في حزب النور، وداخل تيار الإسلام السياسي بشكل عام، ما يؤكد أن الأجواء بين التيارات الدينية ليست على ما يرام، ولا مخاوف من تشكيل تكتلات بينية، لأنها في الأساس ليست على توافق، الأمر الذي تظهر تجلياته عند المحكات الرئيسية.
غياب المعارضة
اللافت أن المسرح السياسي في مصر، بعد التعامل مع الإخوان باعتبارها جماعة إرهابية، يكاد يكون فارغا من لاعب رئيس يقود المعارضة، وحتى حركة 6 أبريل ومجموعة الشباب المحسوبين على ثورة يناير والاشتراكيين الثوريين، أصبحت أصواتهم تدور في خانة المعارضة الإلكترونية، بسبب القيود التي يضعها قانون التظاهر، وجراء التشويه الذي لحق بصورتهم من قبل بعض وسائل الإعلام، وملاحقتهم باتهامات التآمر والعمالة.
حول إمكانية تشكيل جبهة معارضة تضم أعضاء من حركة 6 أبريل وفلول جماعة الإخوان المسلمين، أوضح يسري العزباوي، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، لـ“العرب” أن هذه القوى لا يمكن أن تتوحد، لأن رؤى وتصرفات قياداتها، كشفت صعوبة التوافق حول أجندة سياسية واحدة، لأنها مختلفة أيديولوجيا.
وأكد العزباوي أن التباين الفكري لا يؤدي إلى التوحد على الإطلاق، لاسيما في المجال السياسي، وأي تصريحات من قبل القوى المحسوبة على المعارضة تشي بالتفاهم، يصعب التعامل معها على أنها حقيقة ثابتة، بل متغيرة، ففي ظل وجود هوة واسعة وتناقضات تاريخية متراكمة لا يمكن الحديث عن جبهة معارضة قوية.
بدوره، لفت وحيد عبدالمجيد الانتباه إلى أن معظم الأحزاب تعاني من صراعات داخلية مريرة، وغالبيتها تسعى إلى تصدر المشهد السياسي، دون النظر إلى المصلحة العامة، وهو ما يؤكد أن مصر بحاجة فعلا إلى تحالف يضم جميع أطياف المجتمع لدعم تحقيق الاستقرار، وحتى يكون المشهد البرلماني القادم مخالفا للتوقعات التي ترى فيه استنساخا للتجارب البرلمانية السابقة التي تقوم على تجمع أصحاب المصالح والمال والباحثين عن رضا السلطة، بما يعيق بناء برلمان فاعل يكون نواة لتحول ديمقراطي ملموس.
صحيفة العرب اللندنية