في حين أن التفاؤل بشأن إدارة بايدن في كردستان العراق مدفوع في الأساس بالعلاقات التاريخية مع الولايات المتحدة، إلا أن الآراء السياسية المعاصرة حول السياسة الأمريكية في المنطقة قد تساهم في تشكيل رئاسة بايدن بطرق جديدة أقل إلفةً.
يكشف الحماس الذي يُظهره الكثير من الأكراد إزاء رئاسة بايدن المرتقبة الكثير عن نظرة “إقليم كردستان العراق” إلى الولايات المتحدة وأعلى منصب فيها، نظرًا إلى التاريخ الطويل الذي يجمع بينهما. فأكراد العراق يعرفون جو بايدن ويذكرونه من الأيام التي شغل فيها منصب نائب الرئيس ورئيس “لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي” بين 2001-2003 و2007-2009.
تاريخ بايدن مع كردستان العراق
يعود تاريخ العلاقات العامة بين الولايات المتحدة وأكراد العراق إلى عقود خلت، وقد بُنيت في إطار الحرب الباردة حين اعتبرت الولايات المتحدة الشعب الكردي في العراق على أنه قوة موازنة محتملة لانقلاب عام 1958 الذي أطاح بالحكم الملكي الهاشمي في العراق وجلب عبد الكريم قاسم، الموالي للسوفيات بنظر الولايات المتحدة، إلى السلطة.
وحين اجتمع “مجلس الأمن القومي” الأمريكي في كانون الثاني/يناير 1959 لمناقشة الانقلاب، لفت وزير الخارجية جون فوستر دالاس إلى أن أمريكا لا “تتمتع بالخبرة الكافية” للتدخل في مزيج السياسة العراقية الداخلية المعقد. وفي حين فتح الانقلاب فعليًا المجال أمام الشيوعيين الموالين للسوفيات ليضطلعوا بدور أكبر في سياسة البلاد، إلا أن “حزب البعث” هو الذي عزّز قوته في نهاية المطاف، الأمر الذي أدّى إلى صعود صدام حسين.
يملك جو بايدن تاريخه الخاص في العراق، وهو مطّلع على مسائل المنطقة والقضية الكردية على وجه الخصوص ومنخرط فيها منذ فترة طويلة. وتعود علاقة بايدن بالعراق إلى ما قبل الغزو الأمريكي. فقد قام برفقة صديقه السيناتور تشاك هيغل (جمهوري من ولاية نبراسكا) برحلة لا تُنسى إلى شمال العراق وكردستان في كانون الأول/ديسمبر 2002. يُذكر أن السيناتوريْن استقلا السيارة نفسها على طول الطريق من الحدود التركية مرورًا بجبال كردستان وصولًا إلى أربيل في وسط كردستان حيث كان من المقرر أن يدليا بكلمة أمام البرلمان الكردي. وهذا حدث فريد من نوعه حسب ما يذكر هيغل ويقول “أعتقد أننا كنا الأجنبييْن الوحيديْن اللذين طُلب منهما ذلك”.
وألقى خطابًا أمام البرلمان الكردي بصفته رئيس “لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي” وطمأن الأكراد مؤكدًا “أننا سندعم مساعيكم لبناء عراق موحد” وناقض قول محلي مأثور قائلًا إن “الجبال ليست صديقكم الوحيد”. وفي ذلك الوقت، سُرّ الأكراد بكلامه إذ كانوا يواجهون حالة عدم يقين كبيرة قبل حرب العراق في عام 2003.
وفي خلال الزيارة عينها، التقى بايدن قادة “الاتحاد الوطني الكردستاني” و”الحزب الديمقراطي الكردستاني”. وشارك عماد أحمد، عضو المكتب السياسي في “الاتحاد الوطني الكردستاني”، في الوفد. وفي أعقاب الانتخابات الأمريكية الأخيرة، استذكر سؤاله لبايدن عن دعم الولايات المتحدة للأكراد وعن الحساسية التركية إزاء هذه العلاقة، في خلال الاجتماع في منتجع صلاح الدين قرب أربيل. ونصح بايدن الأكراد بعدم جعل كركوك عاصمة إقليمهم – ففي ذلك الوقت، كانت الأحزاب الكردية تعمل على مسودة دستور نصّت على أن تكون كركوك عاصمة الإقليم.
ويشتهر بايدن بشكل خاص في أوساط أكراد العراق بفضل مقاله الافتتاحي بعنوان “استراتيجية الخروج” الذي نُشر عام 2006 في صحيفة “نيويورك تايمز”، واقترح فيه اللامركزية في العراق. وأتى اقتراح بايدن على الشكل التالي: “تتمثل الفكرة، كما في البوسنة، بالحفاظ على عراق موحد من خلال اللامركزية، ما يمنح كل مجموعة دينية عرقية – الأكراد والعرب السنّة والعرب الشيعة – المجال لإدارة شؤونها، في حين تتولّى الحكومة المركزية إدارة المصالح المشتركة”. وقد رحّب معظم الأكراد والكثير من السنّة باقتراح اللامركزية في العراق، رغم رفض الأغلبية الشيعية في العراق له.
وواصل بايدن رفضه لتوصية “مجموعة دراسة العراق” التي تضمّ أفرادًا من الحزبين الديمقراطي والجمهوري الصادرة في عام 2006 بالتركيز على حكومة مركزية في العراق، كما أوردت صحيفة “فيلادلفيا إنكوايرر” في مقالها الصادر في 7 كانون الأول/ديسمبر 2006 بعنوان “بايدن: الدفع نحو التوحيد قد يؤدي إلى الانقسام”. واليوم، إن الدعوة إلى اللامركزية والمزيد من الفدرالية تنتشر في أوساط عامة الشعب العراقي من الخلفيات كافة، من البصرة وحتى كردستان.
التوقعات المتعلقة بإدارة بايدن الحالية
استنادًا إلى هذه التجارب السابقة مع بايدن، إن توقعات أكراد العراق من إدارة بايدن كبيرة. وناهيك عن الدعم المتوقع للامركزية أكبر في العراق، ينتظر الأكراد أن ينتهج بايدن سياسة مختلفة عن ترامب في ما يتعلق بالعلاقة مع تركيا. وحاليًا، تظن أنقرة أن التغييرات المقبلة في العلاقات الدولية ستزوّد تركيا بفرصة أن تصبح جهة فاعلة إقليمية وتبسط نفوذها بشكل مباشر وغير مباشر في المنطقة. وقد حصل ذلك في كردستان العراق في ظل دخول الجيش التركي إلى الإقليم متوغلًا على عمق أكثر من 30 كلم. وتواصل الطائرات التركية بدون طيار عمليات المراقبة وقتل المسلحين والمدنيين على حدّ سواء. ومنذ بروز “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي في مطلع القرن الماضي، تدهورت علاقات “حكومة إقليم كردستان” – ناهيك عن المنظمات الكردية الأخرى في سوريا وتركيا – مع تركيا. ففي حين يعتبر الأكراد أن إدارة ترامب تنصاع للمصالح التركية، فهم يأملون ألا تتخلى الإدارة الأمريكية الجديدة عنهم وألا ترضخ للضغوط التركية.
غير أن العراق يختلف اليوم عن العراق الذي تحدث عنه بايدن في عام 2006. فالكثير من النخب السياسية الشيعية في بغداد يتوقعون أن الولايات المتحدة ستترك البلاد كليًا. وتعززت هذه الفكرة من خلال تصريحات الإدارة الحالية التي أشارت إلى مغادرة العراق إلى جانب انسحابها الفعلي من أجزاء أخرى في المنطقة. وسواء كان التهديد بالمغادرة حقيقيًا أو محاولة لممارسة الضغوط على العراقيين، فقد أسفر عن ارتباك وعدم أمان نفسي داخل العراق.
ويرتبط الانسحاب من العراق بشكل مباشر بإيران. وفي هذا الخصوص، يمثل بايدن استمرارية لإدارة أوباما. ومن بين الأفكار السائدة في المنطقة أن بايدن سيستأنف “خطة العمل المشتركة الشاملة”، غير أنها على الأرجح حالة من سياسة الحنين التي تقوم على المشاعر أكثر منه على المنطق. وقد يكون من غير الممكن لأسباب عدة أن يعود بايدن إلى الاتفاق، وبخاصةٍ بالطريقة التي تسرّ الإيرانيين. وفي حين يختلف عالم بايدن عن عالم أوباما؛ قد ترتبط العهود التي أطلقها بايدن في خلال حملته الانتخابية في ما يتعلق بإيران بسياسة الحزب الديمقراطي الداخلية – بما يتناسب مع دعوة الجناح التقدمي للحزب – أكثر منه بترجمة أهداف بايدن الرئيسية المرتقبة من إدارته. وثمة أيضًا تحديات إقليمية تعترض العودة إلى الاتفاق وتحديات محلية على غرار مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية.
وفي خضم كل هذه الاضطرابات والتعقيدات، يرى الأكراد أملًا في المستقبل من خلال بناء القنصلية الأمريكية الجديدة في أربيل. فعند التوجّه إلى الجبال انطلاقًا من المدينة، يلاحظ المرء موقع بناء ضخمًا سيضمّ القنصلية الأمريكية الجديدة في عام 2022 لتحلّ محل تلك المسوّرة بالكامل والعادية المظهر التي تقع حاليًا في قلب المدينة. فهندسة المبنى الجديد وحجمه يطمئنان الأكراد إذ ترتبط الهندسة ارتباطًا وثيقًا بالقوة السياسية. وهي توفر نموذجًا لنظام التفكير الهيكلي كما أنها تمثل خطابًا نافذًا. وتشرح شركة “إي واي بي” التي تتولى أعمال تشييد القنصلية أن “الهدف تمثّل بإنشاء مجتمع يتمتع بالسمات والحسّ الهندسي المألوف لدى الشعب الأمريكي وفي الوقت نفسه إقامة رابط مع ثقافة الشعب المحلي الذي يتفاعلون معه يوميًا”. وأضافت أن “مقر القنصلية العامة سيتضمن أمانة سر ومقرًا لقوات المارينز ومساكن ومنشآت دعم ومرافق للموظفين”. هذا وثمة مؤشرات على أن الولايات المتحدة تفقد اهتمامها بالمنطقة الأوسع نطاقًا، إذ إن العراق ليس ضمن أبرز أولويات الإدارة المقبلة كما شرح السفير جيمس جيفري في خلال حديث له عبر الإنترنت.
في غضون ذلك، قد يشير البعض إلى تراجع في العلاقات الأمريكية-الكردية في ظل عدم دعم الولايات المتحدة لاستقلال الأكراد وسحب قواتها من سوريا. وفي المقابل، ثمة مؤشرات على أن أمريكا باقية في الإقليم وأن العلاقة مع الأكراد تتطوّر بسبب تواتر الأزمات في الشرق الأوسط وطبيعة (العلاقة المستقطبة) الديمقراطية للسياسة الداخلية الأمريكية. وتُظهر العقود الماضية توسّع العلاقات الأمريكية-الكردية، ويمثل بناء قنصلية أكبر مثالًا جليًا في هذا الصدد. فضلًا عن ذلك، كان أكراد العراق لعقود من الزمن هم “الأكراد الجيدون” فحسب، ولكن بما أن الولايات المتحدة قد بنت الآن علاقة مستدامة مع أكراد سوريا والإقليم الكردي الذي يتمتع بحكم ذاتي، باتت الولايات المتحدة تُعتبَر جهة فاعلة بارزة يتزايد دورها في الشؤون الكردية عبر الحدود.
تُعتبر مقاربة بايدن الشخصية إزاء السياسة الخارجية سيفًا ذا حدين. ووصفه بن رودس في كتابه العالم كما هو: صورة عن البيت الأبيض في عهد أوباما، على الشكل التالي ‘يضفي على تصريحاته بعض الفكاهات من مسيرته الطويلة في مجلس الشيوخ، مكررًا على الدوام أن تجربته علّمته أن “كامل السياسة الخارجية هي امتداد للعلاقات الشخصية”’. وقد تتواءم هذه المقاربة ذات الطابع الشخصي مع طبيعة المؤسسات في كردستان، ولكن إذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى علاقة طويلة ومستقرة تعود بالفائدة على الطرفين، فقد تحتاج إلى دعم المؤسسات وليس الشخصيات.
تجدر الإشارة إلى أن الأكراد ليسوا الوحيدين الذين تنتابهم مشاعر الحنين عندما يتعلق الأمر ببايدن، فأوروبا وجزء كبير من دول العالم تشاركهم هذه المشاعر. وفي حين أن هذه المشاعر هي أمر جيد، لكن الحقيقة قد يكون وقعها مختلفًا.
سردار عزيز
معهد واشنطن