في الـ17 من ديسمبر/كانون الثاني 2010 أضرم محمد البوعزيزي البائع التونسي المتجول النار في نفسه بمدينة سيدي بوزيد احتجاجا على مصادرة سلطات البلدية المحلية العربة التي كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه.
لم يكن البوعزيزي يدرك أن تصرفه الفردي ذاك سيشعل موجة من الانتفاضات العارمة في أرجاء المنطقة ضد استبداد الأنظمة الحاكمة فيما أُطلق عليها لاحقا اسم “الربيع العربي”.
وأفادت الصحفية ميغان أوتول، في تقرير نُشر على موقع “ميدل إيست آي” (Middle East Eye) الإخباري البريطاني، بأن قوى الثورة المضادة لتلك الانتفاضات استخدمت العنف لقمعها في سعيها إلى تكريس الوضع القائم.
وبعد 10 سنوات لا تزال شعوب المنطقة من السودان إلى لبنان ومصر تواقة إلى التضحية بالنفس احتجاجا على الأوضاع في بلدانها.
وتقول أوتول إن الظروف التي أذكت أوار الثورات العربية، المتمثلة في فساد الحكومات، وفشل الاقتصاد، وتدهور الخدمات الاجتماعية تقهقرت أكثر، وزادت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) الطين بلة.
وقد أدى إخفاق حكومات المنطقة في معالجة الأسباب الكامنة وراء تلك الأوضاع إلى موجة ثانية من ثورات الربيع العربي المطالبة بتحسين الظروف المعيشية للمواطنين.
وينقل الموقع الإخباري البريطاني عن الدبلوماسي الأردني السابق مروان المعشر -الذي ألّف كتابا بعنوان “الصحوة العربية الثانية”- قوله “كان من الممكن أن يسفر الربيع العربي الأول عن سلام اجتماعي لو أن الحكومات العربية أدركت الحاجة إلى عقود اجتماعية جديدة وإلى مزيد من الأنظمة السياسية المنفتحة، وضرورة محاربة الفساد مؤسساتيا”.
لكن معظم تلك الحكومات -حسب المعشر- لم تشأ أن تفعل ذلك، بل آثرت تحصين نفسها، فعادت الدولة العميقة بقوة أشد.
وبدأت أصوات المحتجين تعلو ثانية، بعد أن تعلموا الدروس الأساسية هذه المرة من المرات السابقة، كما يرى محللون.
وأوردت أوتول في تقريرها 5 من تلك الدروس:
اعلان
1- حاجز الخوف يمكن أن ينكسر
إن أحد الملامح المهمة فيما يتعلق بانتفاضات 2010-2011 أنها كشفت عن أن حاجز الخوف لدى شعوب المنطقة يمكن أن ينكسر، كما تقول داليا غانم، وهي باحثة مقيمة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.
البوعزيزي أضرم النار في نفسه احتجاجا على مصادرة سلطات البلدية المحلية العربة التي كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه (وكالات)
ورغم القمع الذي أعقب الانتفاضات الشعبية، فإن هذا الوعي الجديد كشف عن إمكانيات سياسية واجتماعية واقتصادية ماثلة. فقد كان لوسائل التواصل الاجتماعي التي اكتسبت أهمية متزايدة دور فعال في إفساح المجال لتداول أفكار في تلك الجوانب عبر منصات ومنتديات الإنترنت.
وترى داليا غانم أن “المواطنين العرب نجحوا في تغيير الوضع السائد، وهذا في حد ذاته إنجاز”، مشيرة إلى أنه منذ ذلك الحين سقط طغاة واستيقظت شعوب من سباتها، فقررت أنها تستحق ما هو أفضل، وأن العقد الاجتماعي الذي صيغ في الحقبة الاستعمارية لم يعد فعالا.
وأضافت الباحثة في مركز كارنيغي أن المواطنين يطالبون اليوم بأن يكون لهم دور في اتخاذ القرار، وأن يعيدوا البحث في ماهية المواطنة إذ يتساءلون “ماذا يعني أن تكون مواطنا عربيا؟”
2- السيطرة على الساحات العامة
إبان ثورات الربيع العربي، كانت الساحات العامة -مثل ميدان التحرير في القاهرة والمطعم التركي في بغداد وساحة الشهداء في بيروت- رمزا للصوت الجماعي الواحد للمتظاهرين.
فعلى سبيل المثال، احتلّ المحتجون المصريون المطالبون بسقوط نظام الرئيس حسني مبارك الميدان أكثر من أسبوعين رغم عنف السلطات وهجمات أنصار الحكومة على صهوات الخيول والجمال عليهم. وتحقق لهم ما أرادوا في الـ11 من فبراير/شباط 2011.
وما لبثت أن تحولت التجربة الديمقراطية التي لم تدم طويلا في مصر إلى نظام استبدادي أشد قمعا مما كان عليه الحال في عهد مبارك. فقد أطاح انقلاب عسكري عام 2013 الرئيس المنتخب ديمقراطيا محمد مرسي، قاده الفريق أول عبد الفتاح السيسي الذي بدأ منذ ذلك الحين بشن حملة قمع على معارضيه، على حد تعبير تقرير الموقع الإلكتروني البريطاني.
ويقول جاد صعب -وهو كاتب ومنظّر سياسي كندي من أصول لبنانية- إن الموجة الأولى من الاحتجاجات الشعبية التي اعتمدت إستراتيجية التجمعات في الساحات والميادين العامة قادرة على تحقيق مراميها.
ويضيف أن احتلال الأماكن العامة هو الإستراتيجية الأكثر شيوعا، حيث أصبحت مواقع لمراجعة وصياغة هوية الوطن بأكمله، ومناهل للفنون والثقافة.
3- تشكيل قوى اجتماعية
في أعقاب انتفاضات الربيع العربي الأولى سادت مرحلة من الهدوء النسبي في أرجاء المنطقة. فقد أبدى العديد من المواطنين حذرهم من الاحتجاج مرة أخرى بعد أن رأوا كيف أن الانتفاضات في سوريا وليبيا واليمن تحولت إلى حروب أهلية خربت بلدانهم، وأودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص، وتسببت بنزوح ملايين آخرين.
وبرأي جاد صعب أن ذلك الحذر كان بمنزلة ذخيرة للأنظمة القمعية في المنطقة استخدمتها في قمع أي تحرك جماهيري ودمغه بأنه لا يعدو أن يكون فعلا “فوضويا”.
ولم تكن الحركات الاحتجاجية الاجتماعية التي نشطت في 2010-2011 -وفقا لصعب- متطورة، “وهو أمر يمكن تفهمه إذ إنها كانت ترزح تحت نير مجتمعات استبدادية”.
لكن الكاتب والمنظّر السياسي الكندي يقول إن الأحداث التي صاحبت الربيع العربي الأول أسهمت في تطور تلك الحركات ونضجها.
من جانبه وصف المعشر الاحتجاجات الأخيرة بأنها كانت سلمية، وضرب مثالا على ذلك بمظاهرات السودان والجزائر التي حظيت بدعم واسع لنبذها العنف.
أما مجدي الجزولي -وهو باحث سوداني في “معهد ريفت فالي” وهو مؤسسة أبحاث وتدريب مستقلة تعمل مع المجتمعات والمؤسسات في شرق أفريقيا- فيرى أن القاسم المشترك في العديد من تلك الاحتجاجات تمثل في المطالبة بالحريات الاجتماعية، وهي دعوات يصفها بأنها “مشوشة في أغلب الأحيان”.
لكن ما إن تحققت تلك الحريات -حسب الجزولي- بدت الحركات الاحتجاجية غير قادرة على التعامل مع المستجدات التي طرأت على الساحة.
على مدى 9 سنوات لم تتوقف المظاهرات السلمية في سوريا رغم المعارك (الجزيرة)
4- تجاوز التغيير السطحي
إن الدرس الأهم الذي ينبغي للمحتجين أن يعوه عام 2020، عند النظر إلى الوراء في الأحداث التي وقعت قبل 10 سنوات، هو أن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها.
كما أن التنازلات السطحية، كإحلال رئيس صوري مكان آخر، لن تفضي إلى إصلاح سياسي صادق. فالتحول إلى نموذج سياسي جديد يستغرق وقتا وممارسة ضغوط باستمرار.
5- الثبات على المواقف إلى أبعد مدى دون مساومة وبلا هوادة
يقول جاد صعب إن الانتفاضات الشعبية الأخيرة في دول مثل لبنان والجزائر اتسمت بطابع “ليبرالي جديد”، وأخذت دروسا وعبرا مما حدث في 2010-2011 في تونس، التي استطاعت أن تحقق الديمقراطية رغم أنها لا تزال تعاني مشكلات اقتصادية أوقعها فيها النظام القديم.
ويعتقد الكاتب الكندي أن المنطقة ستظل تشهد مطالبات بتغيير جذري ما دامت الطبقات الحاكمة تخفق في حل المشكلات الأساسية الكامنة. وفي اعتقاده أيضا أنه لا بد للمتظاهرين من تطوير رؤية سياسية موحدة، وأن تتضافر جهود الساعين إلى الإصلاح لتشكيل حركة واحدة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن إلا في السودان.
وبدوره يشير مروان المعشر إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تضررت بشدة مثل غيرها من دول العالم، من تفشي جائحة (كوفيد-19) العام الماضي، وأضاف أن الجائحة أدت إلى تراجع في وتيرة نشاط الحركات الاحتجاجية “لكنها مع ذلك لم تقضِ عليها”.
ووصف الدبلوماسي الأردني السابق تأثير الفيروس بأنه “سيف ذو حدين”، فقد جاء نعمة للأنظمة الاستبدادية فأعاقت تحركات البشر وأشاعت الخوف في نفوسهم، لكنها في الوقت نفسه ساهمت في تعميق المشكلات الاقتصادية التي كانت وقودا للحركات الإصلاحية وجعلت اندلاع مزيد من الاحتجاجات أمرا حتميا.
المصدر : ميدل إيست آي