قبل أيام قليلة أعلنت واشنطن فرض عقوبات على الوكالة الحكومية التركية المكلفة بشراء الأسلحة، بموجب قانون مكافحة خصوم أميركا عن طريق العقوبات، المعروف بـ”كاتسا”، على خلفية شراء واختبار منظومة صواريخ “أس 400” الروسية للدفاع الجوي، وهو الأمر الذي تسبب في غضب واسع داخل أنقرة التي نددت بالعقوبات داعية الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في هذا القرار “غير المنصف”، بينما وصفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه خطوة “تفتقد إلى الاحترام”.
وفي حين دعت أنقرة، في بيان أولي صدر عن وزارة خارجيتها، الإثنين، إلى بحث القضية عبر الحوار والدبلوماسية، فإن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أبدى نغمة تحد في مقابلة متفلزة، الخميس، قائلاً إن بلاده لن تتراجع عن شراء منظومة الدفاع الجوي “أس 400″، وستتخذ خطوات للرد بعد تقييم العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة. وأضاف، بحسب صحيفة “أحوال” التركية، أن العقوبات تمثل اعتداء على الحقوق السيادية لتركيا.
قاعدة إنجرليك
وفقاً لتقارير صحافية، فإن هناك شائعات بشأن اتجاه تركيا للانتقام من الولايات المتحدة من خلال مطالبتها بمغادرة قاعدة إنجرليك الجوية العسكرية، وهي القاعدة التي تعد من الأصول الإستراتيجية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في المنطقة.
تم إنشاء قاعدة إنجرليك كقاعدة جوية أميركية تركية مشتركة، فى الخمسينيات في جنوب شرقي تركيا. ولعبت هذه القاعدة دوراً كبيراً في المعركة ضد تنظيم داعش، حيث أطلقت منها الولايات المتحدة ضرباتها في سوريا. وتخزن الولايات المتحدة في هذه القاعدة 50 رأساً نووياً من نوع “B-61″، تعود إلى حقبة الحرب الباردة، كما يتواجد بها نحو 1500 عسكري أميركي. وتخضع القاعدة لسيطرة من البلدين منذ عام 1955، وكانت موقعاً مناسباً لتخزين القنابل النووية الأميركية الموجهة ضد الاتحاد السوفياتي.
وتمثل الأسلحة النووية التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة جزءاً من إستراتيجية الردع لدى حلف شمال الأطلسي. وخلال قمة عقدت في يوليو (تموز) عام 2016، في العاصمة البولندية وارسو، أعلن قادة الحلف أنه “طالما بقيت الأسلحة النووية، فإن الناتو سيبقى تحالفاً نووياً”. وفي حين ترغب بعض الدول مثل ألمانيا في إزالة هذه الأسلحة من أراضيها، فإن تركيا تبقي عليها باعتبارها إشارة سياسية على الوحدة. فبحسب جوشوا والكر، المتخصص في العلاقات الأميركية التركية لدى صندوق مارشال الألماني (مؤسسة بحثية في بروكسل)، فإن تركيا تعتبر القنابل نقطة فخر لها.
وعلى الرغم من أهمية قاعدة إنجرليك للعمليات العسكرية في المنطقة، يتردد منذ العام الماضي الحديث داخل دوائر صنع القرار الأميركي، عن نقلها إلى إحدى دول المنطقة. وبحسب تقارير صحافية أميركية، نُشرت في سبتمبر (أيلول) الماضي، يتردد داخل الكونغرس الحديث عن التخلي عن القاعدة الجوية في تركيا، بسبب السياسة الخارجية “المقلقة” للرئيس التركي، ما دفع بالمسؤولين الأميركيين إلى تكثيف الاستعداد للانسحاب منها، وربما استبدال جزيرة كريت اليونانية بها، والتي تضم بالفعل قاعدة تابعة للبحرية الأميركية، وذلك وفقاً لسيناتور جمهوري رفيع ومحللين أميركيين تحدثوا لصحيفة “واشنطن إكسماينر” الأميركية.
وقال السيناتور، رون جونسون، رئيس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية الأوروبية في مجلس الشيوخ بالكونغرس، إن واشنطن عليها أن تستعد للأسوأ في حال اضطرت إلى الخروج من قاعدة إنجرليك؛ بسبب السياسة الخارجية لأردوغان. وأضاف جونسون “نريد الحفاظ على وجودنا كاملاً في تركيا، لكن من موقف دفاعي، فأعتقد أنه يتعين علينا النظر إلى حقيقة أن المسار الذي يسلكه أردوغان ليس جيداً”. وأشار إلى أن اليونان قد تكون خيار واشنطن المناسب في حال انسحاب الجيش الأميركي من قاعدة إنجرليك.
في حين نفى البنتاغون تلك التقارير حينها، لكن الحديث عن الرغبة الأميركية في نقل القاعدة الجوية في ظل توتر العلاقات بين واشنطن وأنقرة، يتردد منذ العام الماضي. فعقب الاجتياح التركي لشمال شرقي سوريا في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، حيث ارتكبت القوات التركية جرائم بحق الأكراد والأقليات الأخرى، وفق تقرير لمنظمة العفو الدولية، تقدم أعضاء من الحزبين في مجلس الشيوخ الأميركي بمشروع قانون “مكافحة العدوان التركي” يتطلب النظر في قواعد بديلة للعسكريين والأصول الأميركية في إنجرليك. وأعربت عضو لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب كندرا هورن عن قلقها الشديد من بقاء الأسلحة النووية الإستراتيجية في قاعدة جوية داخل الحدود التركية.
ويؤيد بعض المراقبين الخطوة كسبيل للضغط على أردوغان لتعديل سلوكه. ويقول بوريس زيلبرمان، مدير السياسة العامة والإستراتيجية لدى مركز “سي يو إف أي أكشن فاند”، للأبحاث في واشنطن، لقد أثبت حلفاؤنا في شرق البحر الأبيض المتوسط أنهم يمثلون ثقلاً موازناً فعالاً لتركيا وأظهروا باستمرار نهجاً يعكس أولوياتنا. وأضاف أن “الجهود المبذولة لتوسيع الوجود العسكري الأميركي في اليونان، على سبيل المثال، يجب تسريعها في ظل الإدارة المقبلة. وبالمثل، يجب إعادة نشر المزيد من الأصول الموجودة في تركيا إلى شركاء إقليميين أكثر ودية وأكثر أماناً”.
وأشار زيلبرمان، في مقال منشور بمجلة “نيوزويك”، إلى أن أداة العقوبات طالما كانت الأكثر فعالية في التعامل مع الرئيس التركي، وهو ما ثبت في الإفراج عن القس الأميركي أندرو برانسون الذي كان محتجزاً لدى أنقرة عام 2018، وكذلك استخدمت روسيا نفس الأداة بعد إسقاط الأتراك طائرة عسكرية روسية.
يبدو أن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تتخذ بالفعل خطوات لتقليص اعتمادها على إنغرليك. فبحسب وسائل إعلام أميركية، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 150 مليون دولار في العامين الماضيين لتطوير قاعدة موفق سلطي الجوية في الأردن، إضافة إلي تطوير القواعد الأميركية في اليونان وقبرص.
أنقرة تريد الحوار
لكن لا يبدو أن أنقرة تريد رحيل حلفائها الغربيين عن إنجرليك أو المزيد من توتر العلاقات. ففي تعليقات سابقة لإذاعة “صوت أميركا”، قال السفير التركي السابق ميثات ريندي “إنهم (الكونغرس) يتحدثون عن إزالة الترسانة النووية من إنجرليك. إذا أزيلت، فسيكون ذلك مؤشراً على افتقار كبير للثقة (من قبل واشنطن في أنقرة)”. وأضاف “ستكون هناك مشكلة ثقة وقد تنهار العلاقات إذا سحبت الترسانة النووية من تركيا”. وستتوقع رد فعل مبالغ فيه من الجانب التركي إذا سحبت الولايات المتحدة ترسانتها النووية.
تعليقات سفير أنقرة السابق تشير إلى أهمية البقاء على القوات والأسلحة الأميركية على الأراضي التركية. وعقب إعلان العقوبات أبدت الخارجية التركية “الاستعداد لبحث القضية عبر الحوار والدبلوماسية انسجاماً مع روح التحالف”.
ومن جانب آخر حذر متخصصون من أن موسكو ستكون حريصة على الاستفادة من أي تخفيض للقوات أو الأسلحة الأميركية في إنجرليك. وقال حسين باججي، أستاذ العلاقات الدولية لدى جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة “إذا أخذ الأميركيون أسلحتهم النووية، فيمكنني أن أخبرك إذا فعلوا ذلك، فإن الأتراك سيستبدلونها بصواريخ روسية. عندها سيكون للروس حرية أكبر بكثير لكسب تركيا… والفائز سيكون (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين”. وأضاف في تعليقات للإذاعة الأميركية: “لم تعد تركيا في موقف دفاعي. فكلما زاد الضغط الأميركي، ستعمل تركيا بشكل وثيق مع روسيا- وهذا تغيير تاريخي في السياسة الخارجية التركية”.
انجي علي
اندبندت عربي