من نهاية الانتخابات إلى بداية معركة أصعب

من نهاية الانتخابات إلى بداية معركة أصعب

في القرن التاسع عشر قال أندروز بيرس “الحرب كانت طريقة الله في تعليم الأميركيين الجغرافيا”. وفي القرن الحادي والعشرين كانت فانتازيا الإنكار مساهمة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في تعليم العالم عملية الانتخابات الرئاسية الأميركية. فمنذ الرئيس الأول للولايات المتحدة الأميركية جورج واشنطن حتى الرئيس الخامس والأربعين، ترمب، كانت الانتخابات تنتهي في نظر الأميركيين والعالم بعد ساعات من إقفال الصناديق ومعرفة المرشح الذي حصل على 270 صوتاً وما فوق من أصوات المجمع الانتخابي وصار الرئيس المنتخب. أما في انتخابات الرئيس السادس والأربعين، فإن فوز جو بايدن بـ 306 أصوات من المجمع الانتخابي و81.28 مليون صوت شعبي، بقي معلقاً عند ترمب والحزب الجمهوري ورؤساء روسيا والبرازيل والمكسيك إلى نهاية ما في مسار العملية من مراحل. وهو عادة مسار روتيني أوتوماتيكي لا يتم تسليط الأضواء عليه. لكن ترمب الذي أنكر فوز بايدن وادعى أنه هو الفائز الذي جرت “سرقة فوزه بالتزوير” جعل كل مرحلة في آليات العملية معركة تحت الأضواء.

قدم دعاوى التزوير أمام المحاكم في الولايات من دون إثباتات فخسر. قدّم المدعي العام في تكساس دعوى أمام المحكمة العليا التي عيّن ترمب ثلاثة من أعضائها مطالباً بإجبار أربع ولايات ربحها بايدن على إلغاء النتائج وأيده 17 من المدّعين العامين في الولايات ونصف الأعضاء الجمهوريين في مجلس النواب. فردت المحكمة الدعوى. طلب ترمب من حكام الولايات الجمهوريين إلغاء نتائج الانتخابات ودفع الكونغرس في كل ولاية إلى تعيين المندوبين إلى المجمع الانتخابي، ففشل. طالب بالامتناع عن الموافقة على النتائج، فرفض الحكام الجمهوريون أنفسهم. حتى بعدما كرّس المجمع الانتخابي يوم 14 ديسمبر (كانون الأول) فوز بايدن وأقدم كبار مؤيدي ترمب من الشيوخ الجمهوريين، وفي مقدمهم زعيم الغالبية ميتش ماكونيل والسناتور البارز ليندسي غراهام على تهنئة الرئيس المنتخب والاستعداد للعمل معه، فإن ترمب ظل يراهن على خرطوشة أخيرة فارغة يوم 6 يناير (كانون الثاني) المقبل حين يصادق الكونغرس على تصويت المجمع الانتخابي، بحيث يستطيع نائب وسناتور الاعتراض وتأخير العملية لساعتين.
لكن نهاية الانتخابات هي بداية معركة أصعب عنوانها إصلاح ما دمره ترمب داخل أميركا وفي علاقاتها مع العالم على مدى أربع سنوات. من هز الثقة بالديمقراطية والانتخابات في أميركا إلى تدمير الثقة بالمؤسسات. ومن نشر فيروس ضد الحقيقة والوقائع في أوساط الحزب الجمهوري إلى ما سماه المعلق في “النيويورك تايمز” برنت ستيفنز “الدمار غير الظاهر الأخطر من الدمار الظاهر”.

وليس أصعب من أن يشفى الحزب الجمهوري من مرض ترمب سوى أن تشفى أميركا من المرض الذي انتج غشاشاً كاذباً مثل ترمب وقاده إلى البيت الأبيض. فأميركا المتقدمة في العلم والتكنولوجيا والأولى في العالم اقتصادياً وعسكرياً، تعاني في وجوه أخرى خطر الأفول وبعض مظاهر الانحطاط. حتى في القرن التاسع عشر، فإن هنري أدامز قال إن “تطور الرئاسة من جورج واشنطن إلى غرانت يكفي وحده لدحض نظرية داروين” في النشوء والارتقاء والتطور من قرد إلى إنسان. فكيف بعد وصول أميركا من غرانت القائد العسكري قبل الرئاسة إلى ترمب المقاول؟

بايدن يراهن على الوجه الآخر الإيجابي على الرغم من سيئات الوجه السلبي، وهو أن المؤسسات أثبتت أنها قوية في وجه العواصف، وفي طليعتها القضاء. إذ مد يده إلى الجمهوريين ودعا إلى تجاوز الانقسام بالوحدة الوطنية قائلاً إنه سيكون “رئيساً لكل الأميركيين” لا للذين انتخبوه فحسب. وهذا هو التراث الذي تركه الرئيس الثالث توماس جيفرسون القائل بعد الفوز في معركة انقسام حاد: “كل خلاف في الرأي ليس خلافاً في المبادئ، ونحن ندعى بأسماء مختلفة لكننا أخوة في المبدأ نفسه، كلنا جمهوريون، كلنا اتحاديون”.

ومن هنا تأكيد بايدن، بعد انتقاده موقف ترمب من “رفض احترام إرادة الشعب وسيادة القانون ودستورنا” أن “الديمقراطية ربحت في المعركة لاستعادة روح أميركا”.

حين انتهت رئاسته، كتب جيفرسون رسالة إلى جون أدامز قال فيها “أنا الآن أكثر سعادة، لأنني أقرأ تاسيتوس وثوسيديدس بدل الصحف”. ترمب طبعاً لا يقرأ ما كتبه مؤرخو الإغريق ولا حتى الصحف والتقارير. وهو يخرج من البيت الأبيض إلى مواجهة دعاوى جزائية ومالية، والسعي لتمتين قبضته على الحزب الجمهوري أو إنشاء حزب جديد. والمهم هو ألا يقود أتباعه إلى “جيمس تاون سياسية” في إشارة إلى الانتحار الجماعي وراء مؤسس فرقة دينية في غويانا عام 1978، كما يتخوف مراقبون في واشنطن.

رفيق خوري

اندبندت عربي