هل طلق بايدن اليسار في حكومته الجديدة أم ليس بعد؟

هل طلق بايدن اليسار في حكومته الجديدة أم ليس بعد؟

أوضح تشكيل الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن لحكومته حتى الآن تجاهله اليسار الليبرالي في اختياراته للمناصب الوزارية ولمساعديه في البيت الأبيض وقادة الوكالات المهمة، وهو ما أصاب التيار الليبرالي اليساري بالإحباط بعدما عوّل على بايدن كثيراً وساهم بقوة في فوزه بالانتخابات، وزاد من قلق اليسار أن الرئيس المنتخب لم يكتف فقط باختيار عناصر وسطية أو وجوه مألوفة في واشنطن، بل إنه لم يعدهم بأي شيء ولم يحمل شعلة من نافسوه من هذا التيار مثل بيرني ساندرز وإليزابيث وارين، فهل سيعدل بايدن من سياسته ويرضي هذا التيار الذي يحتاج إليه من أجل تمرير مشاريعه القانونية في الكونغرس؟ أم سيواصل نهجه الوسطي الحالي التزاماً بما تعهد به في حملته الانتخابية، وكي يتجنب أية مواجهات صعبة مع الجمهوريين الذين يرصدون تقدم اليسار بحساسية شديدة؟

أسباب الإحباط

على الرغم من أن التشكيل الحكومي للرئيس المنتخب لم يكتمل بعد، إلا أن النظرة الأولى لاختياراته، تشير إلى أنها تركز على أهل الخبرة الأقرب إلى تيار الوسط، إذ أن فريقي بايدن للشؤون الاقتصادية والبيئية ينتميان إلى الوسط أكثر منه إلى يسار الحزب الديمقراطي، بينما مثلت اختيارات فريقه للسياسة الخارجية التيار الرئيس للحزب، أما كبار مساعديه في البيت الأبيض فقد كانوا من الوجوه المألوفة القديمة في واشنطن وكثيرون منهم يحملون في سيرهم الذاتية خبرتاهم في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما.

وأدى كل ذلك إلى إحباط تيار اليسار الليبرالي وقادة الحقوق المدنية وشباب الناشطين السياسيين، الذين يخشون من أن بايدن يتجاهل اليسار الذي سانده في الانتخابات ضد ترمب، ويقولون إن إدارة نائب الرئيس السابق والسيناتور المخضرم في الكونغرس، ستكون إدارة يهيمن عليها التفكير القديم وغير مستعدة لمواجهة عالم ما بعد ترمب من عدم المساواة العرقية والاقتصادية المتجذرة، وقد لا تكون قادرة على مواجهة الجمهوريين الذين يتخندق كثيرون منهم مع أفكار وسلوك ترمب حتى الآن.

انزعاج أكبر

كما أزعجت اختيارات بايدن لمجلس وزرائه، بعض الحلفاء في “كابيتول هيل”، الذين يزعمون أنه لم يتشاور بشكل كاف مع أعضاء حزبه في مجلس الشيوخ حول هذه الاختيارات، على الرغم من أن بايدن سيحتاج إلى أعضاء ديمقراطيين مؤثرين في المجلس للمساعدة في التصديق عليهم وتثبيتهم خلال جلسات الاستماع التي ستجرى لمرشحي بايدن للمناصب الوزارية والحكومية المهمة، الأمر الذي يسلط الضوء على التحديات الاقتصادية والسياسية والصحية التي سوف يواجهها بايدن وهو يحاول توحيد الحزب حول أجندته الطموحة.

وما يثير غضب اليسار أنه لا يوجد أحد بين المرشحين في حكومة بايدن حتى الآن، يحمل شعلة السياسات التي حاربها ضد منافسيه اليساريين خلال الانتخابات التمهيدية، مثل مجانية التعليم العالي، أو الرعاية الصحية المجانية للجميع، أو أجندة مناهضة لـ “وول ستريت”، أو زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة كبيرة.

مكمن الخطر

وبالنسبة لقيادات وأنصار التيار اليساري والتقدمي في الحزب الديمقراطي، فإن الخطر يكمن في أن بايدن لا يولي اهتماماً كافياً لنضال الطبقة العاملة التي تراجعت ثرواتها في ظل السياسات الاقتصادية للرؤساء السابقين من كلا الحزبين، وأن العودة إلى الوضع السابق للحزب الديمقراطي قبل رئاسة ترمب، لن يكون كافياً لإحداث التغيير المنشود، ولهذا تتوافر رغبة متصاعدة لدى اليسار، في ضرورة اختراق الطريقة التي تفكر بها النخبة السياسية الديمقراطية، والتغلغل في كيفية صنع السياسات، وحث قيادات الحزب على أن تكون أكثر جرأة، ولن يتأتى ذلك سوى بوجود عناصر يسارية فاعلة داخل إدارة بايدن المقبلة، وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة.
ويعبّر كثيرون من الشباب التقدميين في الحزب، عن أملهم في أن يعزز بايدن من تعيين مزيد من الشباب الذين لم تحدد الأجيال السابقة تجربتهم، ويشيرون إلى أن اختيارات الرئيس المنتخب لا تزال تركز على الأكبر سناً وعلى ذوي البشرة البيضاء بنسبة أكبر من الملونين، ويجادلون بأن القيادة التي يحتاجها الحزب الديمقراطي لعقود أخرى مقبلة لن تتحقق إذا واصل الحزب تعيين أشخاص في منتصف الستينات والسبعينات من العمر ممن خدموا في إدارات أميركية سابقة بالفعل كما تفعل إدارة ترمب الآن.

وسطية بايدن

لكن ما يطرحه بايدن من اختيارات يبدو أنه يتناسب مع فلسفته وتوجهه الذي طرحه خلال الانتخابات التمهيدية، وهي أنه وسطياً وليس تقدمياً مثل السيناتور بيرني ساندرز أو إليزابيث وارن، كما أنه ليس ممثلاً لأصحاب المصالح في “وول ستريت” مثل الملياردير مايكل بلومبيرغ، الذي فشل في محاولته تقديم بديل معتدل لنائب الرئيس السابق، ولهذا يبدو تصميم إدارة بايدن الجديدة، كامتداد لأيديولوجيته الخاصة المتجذرة في مبادئ الحزب الديمقراطي ولكن مع تركيز أكبر على معالجة ما تواجهه الطبقة العاملة الأميركية من تحديات، وإعطاء أولوية لقضايا المناخ، وتعاطفه العميق مع قضايا العدالة العرقية التي قال إنها أقنعته بالترشح للرئاسة للمرة الثالثة.

وحسب ما يقول المقربون من بايدن، فإن المرشحين الذين جرى الإعلان عنهم حتى الآن يمثلون انعكاساً للصورة التي نقلتها حملته، والتي أدت إلى فوزه على الرئيس ترمب، فهم متنوعون بالشكل الذي يروق لليبراليين والناخبين الشباب وذوي البشرة الملونة، كما أنهم مؤهلون للوفاء بتعهد بايدن إعادة الكفاءة إلى الحكومة بعد أربع سنوات من إدارة ترمب التي يصفونها بأنها كانت فوضوية.

رهان على المناصب المتبقية

ويراهن كثير من قيادات وشباب التيار اليساري على الأيام المقبلة التي يمكن أن تحمل أخباراً سارة لهم، وخصوصاً بعدما أبدى بايدن نزعة أكثر شعبية مما فعل أوباما، حين تحدث عن تعزيز النقابات وخلق وظائف للطبقة العاملة مع زيادات كبيرة في الإنفاق لبناء طرق جديدة وجسور وطرق سريعة، كما أعلن أنه سيجعل تغير المناخ محور الانتعاش الاقتصادي من فيروس كورونا، ودعا إلى بناء 1.5 مليون منزل موفر للطاقة، ونصف مليون محطة جديدة لشحن السيارات الكهربائية، وإنشاء هيئة مناخية مدنية لتنفيذ المشاريع البيئية.

وينتظر التيار الليبرالي خلال الأيام المقبلة، اختيارات بايدن المتبقية لعدد من المناصب بقدر من الأمل والترقب، إذ لم يختر بايدن حتى الآن نائباً عاماً للإشراف على وزارة العدل، والتي ستكون في صميم وعد الرئيس المنتخب بتوسيع حقوق التصويت، وإصلاح تطبيق القانون وفرض العدالة العرقية في نظام المحاكم في البلاد.

ولم يتم الإعلان بعد عن المرشحين لعدد من الوزارات مثل العمل والتعليم والتجارة، وهو ما يثير أسئلة حول كيفية تنفيذ رؤية بايدن ضخ مزيد من الاستثمار في المدارس، وتوفير وظائف أكثر أماناً وازدهاراً، وخلق بيئة اقتصادية أفضل للمؤسسات الأعمال.

ولأن أحد التحديات الأكثر إلحاحاً التي سوف يواجهها بايدن كرئيس، هو التحول بسرعة نحو تحسين اقتصاد البلاد الذي مزقته جائحة فيروس كورونا، وتسبب في خسارة ملايين العاملين والموظفين وظائفهم، بينما تكافح الشركات من أجل البقاء على قيد الحياة، فإن من المرجح أن يعتمد الرئيس المنتخب على فريق اقتصادي يميل إلى يسار إدارة أوباما التي واجهت ظروفاً مشابهة وإن كانت أقل حدة.

الجمهوريون يترقبون

لكن ما يثير قلق فريق بايدن ويجعلهم مترددين في الإفصاح عن ترشيح أسماء تنتمي إلى التيار الليبرالي والتقدمي هو ترصد الحزب الجمهوري لإشارات من هذا النوع في الوقت الحالي بما قد يؤثر على فرص المرشحَين الديمقراطيين اللذين يتنافسان ضد خصمين من الجمهوريين في ولاية جورجيا على مقعدين حاسمين في مجلس الشيوخ، وخصوصاً أن الجمهوريين لا يدخرون جهداً في إلصاق تهمة الاشتراكية على المرشحيّن الديمقراطيين في الولاية، والتي ستحدد من سوف يسيطر على مجلس الشيوخ خلال العامين المقبلين، وإذا فشل الديمقراطيون في الفوز بأحد هذين المقعدين في الخامس من الشهر المقبل، فسوف يكون من السهل على الجمهوريين عرقلة الكثير من برامج وخطط ووعود بايدن بعد توليه السلطة ودخوله البيت الأبيض.

قلق اليسار يشتعل

وحتى في حال فوز الديمقراطيين بمقعدي جورجيا، فإن هوامش الحزب في كل من مجلسي الشيوخ والنواب ستكون ضئيلة للغاية، ما يجعل من غير المرجح أن يتبنى الكونغرس مقترحات سياسية جريئة ومكلفة، وبالتالي سوف يواجه الرئيس المنتخب في كل الأحوال عند أدائه اليمين الدستورية في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل مجموعة من التحديات الصعبة التي تجعله أكثر حرصاً على اصطحاب وسطيين من ذوي الخبرة في فريق إدارته الجديدة، وليس من هؤلاء الذين تثير توجهاتهم الأيديولوجية كثيراً من اللغط والخلاف في الساحة السياسية الأميركية، وفي وقت يسعى فيه بايدن إلى خطاب افتتاحي يوحد خلفه الأمة الأميركية ولا يفرقها.

ولهذا السبب سوف يظل قلق اليسار مشتعلاً خلال الأيام القليلة المقبلة، من أن يخرج من التشكيلة الحكومية الجديدة خالي الوفاض كما كان يخشى خلال الانتخابات التمهيدية، ومن ثم يصبح الزواج الضمني الذي أبرمه بايدن في وثيقة اتفاق مع السيناتور التقدمي بيرني ساندرز الصيف الماضي طلاقاً بائناً.

طارق الشامي

اندبندت عربي