عام يكاد يكون الأصعب بين الأعوام الأخيرة التي مرت على العراق، بسبب انتشار فيروس كورونا وانعكاساته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، الأمر الذي كشف ضعف مؤسسة الدولة في البلاد وعدم فاعليتها في إدارة الأزمات والموارد.
وكشف انتشار الفيروس إخفاقات النظام الصحي في البلاد، وعقد الأزمة السياسية، وانعكس بشكل مباشر على حياة العراقيين اقتصادياً واجتماعياً.
وخلفت أزمة انتشار الوباء أكثر من 12 ألف ضحية، حيث يعد العراق الأعلى عربياً في عدد الإصابات، بأكثر من 500 ألف مصاب حتى لحظة إعداد التقرير.
ارتفاع نسب الفقر والبطالة وانعدام التنمية
لعل للاقتصاد الحيز الأكبر في الأزمة التي خلفها الفيروس على مستوى العراق، حيث أدى الانتشار الكبير له إلى عدة أزمات لم تكن مقتصرة على الجهاز الإداري في الدولة، بل إن التأثر الأكبر كان من نصيب القطاعات الأخرى، التي عانت خسائر كبيرة نتيجة الإغلاق التام في بداية الأزمة، ثم ضعف السيولة بسبب انخفاض أسعار النفط والأزمة المالية التي يعيشها العراق.
ويرى مراقبون أن الانعكاسات الحادة لانتشار الوباء ستؤدي إلى انحسار معدلات التنمية في الأعوام المقبلة، خصوصاً مع ازدياد الدين الداخلي في العراق، حيث بلغ إجمالي الديون الداخلية في البلاد للعام الحالي فقط 27 تريليون دينار (نحو 23 مليار دولار)، في حين ارتفع إجمالي ديون العراق، بحسب نواب في البرلمان العراقي إلى أكثر من 160 مليار دولار.
وأدت الأزمة إلى ازدياد نسب الفقر في البلاد بشكل ملحوظ، حيث أعلن وزير التخطيط العراقي، خالد بتال النجم، في يونيو (حزيران) الماضي، ارتفاع نسبة الفقر في البلاد إلى 31.7 في المئة بعد أن بلغت نحو 20 في المئة عام 2018، في حين يقدر مراقبون النسب الحقيقية للفقر في حدود 50 في المئة.
وأوضح الوزير أن تداعيات الفيروس، تسببت بإضافة 1.4 مليون عراقي جديد إلى إجمالي أعداد الفقراء سابقاً والبالغ 10 ملايين شخص.
وكانت مفوضية حقوق الإنسان في العراق، قد أفادت في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بارتفاع معدلات الفقر في محافظة البصرة إلى 40 في المئة نتيجة الأوضاع الاقتصادية السيئة.
وإضافة إلى تعطل سوق العمل والأضرار المباشرة التي تعرضت لها نتيجة ارتدادات الوباء على أسعار النفط، تعاني طبقة الموظفين العراقيين من تأخر رواتبها واحتمالية تعسر الحكومة من الإيفاء بهذا الالتزام بشكل متكرر.
الإجراءات لم تكن موازية لحجم الكارثة
وتقول أستاذة الاقتصاد سلام سميسم إن “ما تعرض له العراق اقتصادياً نتيجة انتشار فيروس كورنا مثّل ضربة مزدوجة”، مبينة أنه “إضافة إلى آثار كورونا على الاقتصاد محلياً، كان انخفاض أسعار النفط التحدي الأكبر أمام الدولة، والتي لم تكن إجراءاتها موازية لحجم الكارثة الاقتصادية”.
وتشير سميسم، إلى أن “انتشار الوباء أدى إلى موت سريري للعديد من القطاعات البدائية وغير المنتظمة في سوق العمل، والتي يمثل عمالها الجسم الأكبر من حراك الأفراد الاقتصادي”.
وتضيف أن هذا الانهيار جرى بسبب “الانكماش في السوق وضعف السيولة وانخفاض إيرادات النفط”، لافتة إلى أن “كل تلك الإشكالات لم تواجه بأي إجراءات حكومية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع في معدلات الفقر والبطالة”.
وتابعت أن “نسب الفقر تجاوزت حدود 40 في المئة نتيجة الوباء، بسبب تعطل غالبية القطاعات واعتماد السوق العراقي على السيولة من الدولة التي تعاني هي الأخرى إشكالات مالية كبرى”.
“قطاع المرأة المعيلة”
ولعل أحد أكثر القطاعات تأثراً بالأزمة الأخيرة كان “قطاع المرأة المعيلة”، كما تعبر سميسم، التي توضح أن “هذا القطاع يضم كثيراً من النساء في العراق وتوسع نتيجة الحروب الكثيرة”.
وتشير سميسم إلى أن “إحدى تمثلات تأثير انتشار فيروس كورونا الواضحة كانت بعجز الدولة عن الايفاء بالتزاماتها إزاء موظفيها لمدة ربما هي الأطول في تاريخ العراق”، مردفة “هذا الأمر ربما يتفاقم بشكل أكبر في حال تطبيق الورقة البيضاء التي ستشكل ضغطاً إضافياً”.
وتعتقد أن “انتشار الوباء أكد أن النظام السياسي في العراق لم يكن معنياً بتنويع المصادر، وكشف المأزق الكبير بما يتعلق بغياب التنمية، الأمر الذي أسهم بتضخيم الأزمة على مستوى العراق”.
وتختم أن “حلول المأزق الاقتصادي للعراق تتضارب مع مصالح السياسيين، الأمر الذي يمثل إشكالية مركبة تمنع أي حلول للأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد”.
ولم تقتصر انعكاسات انتشار الوباء كما في بقية بلدان العالم على الاقتصاد فحسب، بل امتدت للتأثير في القضايا السياسية بشكل مباشر، خصوصاً مع تزامنها مع الانتفاضة العراقية ولحظاتها المفصلية في اختيار رئيس الوزراء والضغط باتجاه التعجيل بملف الانتخابات المبكرة.
في السياق، يقول أستاذ العلوم السياسية إياد العنبر، إن “وباء كورونا مثل الحدث الأبرز في السنة الأخيرة، لأنه أسهم بقوة بإخفات تأثير الانتفاضة العراقية، التي كان بالإمكان أن تساهم في إيجاد حل لمأزق النظام السياسي، والضغط بمسألة الانتخابات المبكرة”، مبيناً أن “انتشار الفيروس تسبب في تضاؤل تأثير الانتفاضة”.
ويضيف، “في مقابل تقليل الوباء لتأثير الانتفاضة وتوفيره فرصة للمنظومة السياسية، إلا أنه أسهم بالكشف بشكل أكبر وأكثر وضوحاً عن إخفاق النظام السياسي وهشاشة الدولة التي تركت الناس لمصيرهم، الأمر الذي زاد من شعور المجتمع العراقي بالرغبة بشكل أكبر في إزاحة المنظومة السياسية الحالية”.
ويشير العنبر إلى أن العراق “كان أحد أكثر الدول تخبطاً وسوء إدارة في معالجة الأزمة الصحية، وتحرك إزاءها بفوضوية، مما أكد للمجتمع العراقي أن النظام السياسي عاجز عن إدارة أي أزمة تواجه البلاد”، مبيناً أن “العديد من الدول الأخرى الأكثر تخلفاً كانت إجراءاتها أفضل في مواجهة الأزمة”.
“النظام العراقي بات أقرب إلى الفوضى منه إلى الدولة”، كما يعبّر العنبر، الذي يبين أن “ما جرى في العراق خلال فترة انتشار الوباء كان تأكيداً على أن هذا النظام الهش لا يمكن التعويل عليه في إدارة أي أزمة قد تواجه البلاد”.
ويختم العنبر، على الرغم من كون الأزمة مثلت “محطة استراحة للطبقة السياسية، فإنها أيضاً جرس الإنذار الأخير الذي أفقد السلطة السياسية قدرتها على ايجاد مبررات لإقناع المجتمع بتمكنها من إدارة الدولة وتحقيق الإصلاح”، لافتاً إلى أن تلك الأزمة “ربما ستمهد لانفجار أكبر”.
تحديات في قطاع الصحة
وشخصت أزمة الفيروس إخفاق النظام الصحي في البلاد وتردي الخدمات المقدمة للمصابين، حيث يعاني العراق نقصاً كبيراً في المستشفيات والمعدات الضرورية لمواجهة الازمات الصحية.
ويرى مراقبون أن الفساد المالي المستشري في وزارة الصحة بات واضحاً بشكل كبير خلال أزمة كورونا، التي كشفت حجم الإخفاق الكبير في إدارة المؤسسات الصحية في البلاد.
ولطالما وجهت اتهامات كثيرة بالفساد لوزارة الصحة، حتى من قبل العديد من النواب في البرلمان العراقي، كان آخرها في عهد وزيرة الصحة السابقة عديلة حمود التي تضمنت تقديم نواب ملفات تتعلق بفساد في أجهزة غسيل الكلى وعقود الأحذية الطبية.
وواجهت دوائر الصحة في العراق خلال أزمة وباء كورونا العديد من الإشكالات من بينها نقص المعدات وضعف القدرة الاستيعابية للعناية المركزة وأزمة نقص الأكسجين في العديد من المستشفيات في البلاد.
في السياق، يقول مدير صحة الكرخ جاسب الحجامي إن “أبرز تحد واجهته وزارة الصحة في الفترة الماضية هو عدم التزام المواطنين بإجراءات الوقاية، فضلاً عن تحديات أخرى من بينها قلة السيولة والتخصيصات المالية”.
ويضيف الحجامي لـ”اندبندنت عربية”، “على الرغم من الخسارة الكبيرة فيما يتعلق بضحايا الوباء فإن الأزمة أسهمت في تعريفنا مواطن الخلل في المؤسسات الصحية”، مبيناً أنه “لم تكن لدينا مختبرات بهذا الحجم وأجهزة الكشف عن الأمراض لم تكن بهذا المستوى، فضلاً عن السعة السريرية التي ازدادت واكتساب الكوادر الصحية خبرات أكبر”.
وفيما يتعلق بالشحة المالية التي تعاني منها دوائر الصحة في العراق، يبين الحجامي أن “المتعارف عليه هو أن الصحة والتعليم يتمتعان بالأولوية في الإنفاق، لكنها عملياً لم تكن كذلك”، مشيراً إلى أن “العراق من أقل الدول إنفاقاً على الصحة وتخصيصات الموازنة قليلة مقارنة بالدول الأخرى حتى الفقيرة منها”.
ولعل أحد أبرز الإشكالات ترتبط بتأخر رواتب الكوادر الصحية في العراق، بحسب الحجامي، الذي يشير إلى أن “وزارة الصحة هي آخر الوزارات التي تتسلم رواتبها ولا نعرف السبب في ذلك”.
ويتابع أن “التخصيصات المالية للوزارة لا تتناسب مع حجم الأزمة، وتكاد تكون غير موجودة عدا ما يتعلق بالرواتب وبعض المبالغ القليلة جداً”، مبيناً أن “الديون تراكمت على الدوائر الصحية خلال الأزمة، خصوصاً ما يتعلق بالمواد الطبية وعبوات الأكسجين”.
ويلفت إلى أن “الواقع الصحي في العراق يعاني الإهمال الشديد وقلة التخصيصات وانعكاس الصراعات السياسية بشكل مباشر عليه”، مؤكداً أن “عدم الاهتمام بالجانب الصحي في العراق ما يزال قائماً، ومباني المؤسسات الصحية قديمة وتحتاج إلى تأهيل فضلاً عن العديد من الجوانب الأخرى”.
ويلفت الحجامي إلى جانب آخر انعكس على الجانب الصحي يتعلق بـ”بتأثر الكوادر الصحية المباشر بالوباء، حيث أصيب الآلاف وفقدت الوزارة العشرات من الكفاءات المهمة من أطباء على مستوى عال وبقية الكوادر الصحية”.
ويشير إلى أن أحد الإشكالات التي تواجه كوادر الوزارة تتمثل بـ”عدم السيطرة على مناطق التجمعات التي لا تشهد التزاماً بإجراءات الوقاية”، مبيناً أن “الجهات الأمنية لا تتفاعل بالمستوى المطلوب فيما يتعلق بتوجيهات وزارة الصحة”.
تزايد في الإشكالات الاجتماعية
وتفيد البيانات الرسمية بزيادة ملحوظة في حالات العنف الأسري في العراق بالتزامن مع انتشار كورونا، حيث تؤشر الإحصاءات الواردة إلى المحاكم العراقية ارتفاعاً كبيراً في حالات العنف ضد النساء والأطفال وكبار السن، خصوصاً في فترة الإغلاق التام.
وتشير إحصاءات رسمية لوزارة الداخلية العراقية توثيق أكثر من 5 آلاف حالة عنف أسري في عموم البلاد خلال النصف الأول من العام الحالي 2020.
وفي أبريل (نيسان) الماضي، طالبت ممثلات المرأة العراقية في البرلمان والحكومة، في بيان مشترك، بالإسراع بسن قانون يجرم العنف الأسري، بعد استشراء الظاهرة مع فرض القيود المتعلقة بفيروس كورونا، إلا أنه لم يشرع حتى الآن بسبب معارضة التيارات السياسية الموالية لإيران على رأسها زعيم “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي.
وجاءت تلك المطالبات، كرد فعل على سلسلة حوادث عنف أسري، كانت أبرزها حداثة وفاة ملاك الزبيدي التي أضرمت النار بجسدها في محافظة النجف، جراء تعرضها لعنف أسري من قبل زوجها وعائلته.
ويقول الباحث الاجتماعي واثق صادق إن “ظاهرة العنف الأسري بشكل عام تسبق انتشار فيروس كورونا، لكنها تفاقمت وسُلط الضور عليها بعد الأزمة الأخيرة نتيجة أسباب اقتصادية ونفسية”، لافتاً إلى أن “تلك الحالات هي انعكاسات للفشل في إدارة الدولة وتأثيراتها النفسية على المواطنين”.
ويضيف، “معدلات العنف ازدادت تحديداً في فترة الحجر والإغلاق التام، نتيجة الاحتكاك المباشر وسوء الأوضاع المالية”، مبيناً أن “الأعباء المالية والفقر والضغوط، فضلاً عن الإشكالية الاقتصادية التي تمر بها البلاد والتي أدت إلى تأخر صرف الرواتب، تسببت بزيادة في حالات العنف”.
أحمد السهيل
اندبندت عربي