سقطت دبلوماسية القمم العالمية في عام 2020 ضحية لجائحة وباء كورونا الذي أجبر بعض التجمعات الدولية العالية المستوى على تأجيل اجتماعاتها، وحوّل بعضها الآخر إلى قمم افتراضية، لكن تلك التي ستعقد العام المقبل والتي قد يظل بعضها افتراضياً للسبب عينه، ستكون حاسمة بالنسبة إلى العالم وإلى قضية التعاون الدولي أكثر من أي وقت مضى، إذ ستختبر قوة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، الذي سيكون مطالباً بتحويل مسار سياسة الرئيس الحالي دونالد ترمب من “أميركا أولاً” إلى تحقيق ما تعهد به من تعاون متعدد الأطراف وخطوات ملموسة لمعالجة مشكلات العالم المتراكمة. فما هي أهم عشر قمم ستعقد خلال عام 2021 ولماذا تحمل قدراً من الأهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة والعالم؟
سنستعرض في ما يلي القمم العشر التي ستختبر سياسة بايدن بعد تولّيه للسلطة في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل.
قمة حلف شمال الأطلسي
على الرغم من احتفال قادة حلف شمال الأطلسي (ناتو) بعيد ميلاده السبعين في أبريل (نيسان) الماضي، إلا أن الحلف الذي تأسس عام 1949 واتسعت رقعته ليضم 30 دولة في أوروبا وأميركا الشمالية، “أصيب بسكتة دماغية” على حد وصف بعض قادته بعدما واجه تحديات عدة خلال السنوات الأخيرة مثل الخلاف التركي مع دول الحلف، بخاصة فرنسا، وتهديدات ترمب بانسحاب الولايات المتحدة بدعوى أن المنظمة لا تمثل أهمية استراتيجية لبلاده، وهو ما ردده مستشار ترمب السابق للأمن القومي جون بولتون حين حذر من أن الرئيس الأميركي قد ينسحب بالفعل من “ناتو” خلال دورة حكمه الثانية إذا فاز في الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي جعل أوروبا تفكر في تدشين جيش أوروبي بعدما خشيت من أن اعتمادها طويل الأمد على الولايات المتحدة قد يعرّض أمنها للخطر.
لكن بعد نجاح جو بايدن، دعا ينس ستولتنبرغ، أمين عام “ناتو”، الرئيس الأميركي المنتخب إلى قمة الحلف على مستوى القادة في أوائل عام 2021 بمدينة بروكسيل، على أمل استعادة التضامن عبر ضفتَي الأطلسي بعد سنوات ترمب المضطربة، ذلك أن الاجتماع سيمثل لحظة محورية كونه يتزامن مع ذكرى بدء مهمة دامت نحو 20 سنة في أفغانستان وسط دعوات إلى إعادة تقييم الوضع برمّته في أفغانستان وغيرها.
ويطالب باحثون في واشنطن أن يبدأ بايدن بإعادة التأكيد على التزام الولايات المتحدة الصارم بالدفاع الجماعي بموجب المادة 5 من معاهدة الحلف، وأن يتبنّى المفهوم الاستراتيجي الناشئ الذي يتصور دوراً سياسياً عالمياً للحلف في مواجهة كل من الصين وروسيا، إضافة إلى إطلاق مبادرات لمعالجة التهديدات الناشئة غير التقليدية مثل التحديات التي تفرضها التكنولوجيا التخريبية والمنافسة في الفضاء الخارجي وقضية تغيّر المناخ.
القمة الأميركية – الأوروبية
من جهة أخرى، اشتعلت توترات متفاوتة بين إدارة ترمب وكل من ألمانيا وفرنسا خلال السنوات الماضية، إذ تصاعد طموح بلدان أوروبية عدة لتحديد أولوياتها العالمية والعمل بشكل مستقل مع شركاء من اختيارها في السياسة الخارجية، وامتلاك القدرات المادية والمؤسسية الكافية لتنفيذ هذه القرارات. وظهر ذلك بوضوح في تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن أوروبا “ذات السيادة”، وفي طموحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين حول إنشاء “لجنة جيوسياسية” تمهيداً لما سُمّي بالحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا.
إلا أن الصورة تبدلت الآن، فوفق صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، ينظر قادة الاتحاد الأوروبي إلى انتخاب بايدن على أنه فرصة مثالية ونادرة لتنشيط الشراكة عبر الأطلسي، ويخططون لاستضافته في بروكسيل أوائل عام 2021. وليس ذلك فقط، بل كشفت المفوضية الأوروبية هذا الشهر عن وثيقة بعنوان “برنامج عمل جديد بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتغيير العالم”، تؤطر العلاقة بين الطرفين باعتبارها المحور الأساسي لتحالف عالمي جديد من الشركاء المتشابهين في التفكير.
وإلى جانب التنسيق الوثيق بشأن التحدي الاستراتيجي الذي تمثله الصين، فإن هذا البرنامج يدعو إلى تعزيز التعاون الثنائي على ضفتَي المحيط من أجل تطوير اللقاحات ومكافحة تغيّر المناخ وتنظيم التجارة الإلكترونية والذكاء الصناعي وغيرها من القضايا ذات المصلحة المشتركة، ما يؤشر إلى أن سنوات بايدن تبشّر بعهد جديد من إعادة التنظيم الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
قمة الديمقراطية
وعلى الرغم من أن بايدن تعهد بجمع خلال العام الأول من حكمه “الديمقراطيات حول العالم” بهدف دعم المؤسسات الديمقراطية وصياغة أجندة مشتركة للتصدّي للتهديدات التي تواجه القيم الديمقراطية الغربية، إلا أن هذه القمة التي لم يقرر موعدها بعد ويتوقع أن تعقد في العاصمة الأميركية واشنطن، تبدو محفوفة بالمخاطر بسبب صعوبة تحديد قائمة الدول التي ستُدعى إلى المشاركة فيها.
فمن الناحية الواقعية، يمتلئ العالم بأنظمة شبه ديمقراطية مثل البرازيل والمجر والفيليبين وتركيا وهي دول حليفة للولايات المتحدة، وليس واضحاً ما إذا كان يجب أن توجّه الدعوى إلى قادتها للمشاركة في القمة في وقت تمارس هذه الدول سياسات مثيرة للجدل، بل إن بعضها، كتركيا مثلاً، تبنّى سياسات قمعية ديكتاتورية خلال سنوات حكم الرئيس ترمب، كما أن الهند التي تعدّ أكبر ديمقراطية في العالم، تنتهج حكومتها “سياسات شوفينية للقومية الهندوسية”، بحسب وصف ستيوارد باتريك، الباحث في مركز العلاقات الخارجية في واشنطن، الذي أشار إلى “مخاطر إنشاء تصدعات جديدة هائلة مع هذه الدول الحليفة للولايات المتحدة”.
علاوة على ذلك، سيضع عقد هذه القمة مصداقية أميركا في الميزان أيضاً، إذ ستبرز تساؤلات عما إذا كانت سنوات حكم ترمب وما واكبها من انتهاكات قانونية وانتقادات عنصرية، تؤهل البلاد لإصدار جدول الأعمال الخاص بالقمة.
قمة التنوع البيولوجي
في المقابل، تستضيف الحكومة الصينية في مدينة كونمينغ من 17 وحتى 30 مايو (أيار) المقبل، المؤتمر الخامس عشر للدول الأطراف الموقّعة على اتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي، الذي كان مقرراً عقده في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ يتوقع أن تتبنّى الدول المجتمعة خطة استراتيجية، توصف بأنها “صفقة جديدة” لتوجيه الجهود الفردية والجماعية لحماية التنوع البيولوجي حتى عام 2030.
وتبدو الحاجة ملحّة للتوصل إلى خطة جديدة بعدما حذرت تقارير موثقة من تراجع عدد أنواع الكائنات الحية والنظم البيئية بسبب تغيّر المناخ وتدهور حال البيئة الطبيعية البرية والبحرية والاستغلال المستمر لها والتلوث.
غير أن هذه الاعتداءات على الطبيعة تقوّض أسس التنمية المستدامة على كوكب الأرض، بل تقوّض الرأسمالية العالمية نفسها، ولهذا تزايدت الرهانات على ما يمكن أن يحدثه بايدن من تغيير لوقف تراجع التنوع البيولوجي من خلال دعمه حملة تستهدف حماية 30 في المئة من مساحة اليابسة والبحار من الاستغلال البشري.
قمة الدول الصناعية السبع
كذلك من المقرر أن يستضيف رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قمة مجموعة الدول الصناعية السبع في المملكة المتحدة العام المقبل، بحيث تدرس المجموعة توسيع عضويتها بعد مغادرة ترمب السلطة وغياب مقترحه معه بشأن إعادة روسيا إلى المجموعة. وبدلاً من ذلك، دعا جونسون أستراليا والهند وكوريا الجنوبية إلى الحضور والمشاركة في القمة مع الأعضاء الحاليين وهم بريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وإذا بات وجود هذه الدول الجديدة دائماً، فستصبح “مجموعة العشرة”، وإن مثل هذا التجمع سيشكل ثقلاً غربياً موازناً لنفوذ الصين المتزايد في آسيا وحول العالم.
وفيما يتوقع أن يساند بايدن بقوة هذه الطموحات الجيوسياسية الغربية، يرجح أن تستخدم المملكة المتحدة رئاستها لمجموعة السبع لتعزيز التأهب العالمي تجاه الأوبئة التي يمكن أن تحدث في المستقبل، فضلاً عن محاولاتها تقوية التجارة الحرة في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي وتشجيع التعهدات الطموحة بخفض انبعاث غازات الاحتباس الحراري قبل انعقاد قمة المناخ في نوفمبر (تشرين الثاني) في مدينة غلاسكو الاسكتلاندية.
قمة منظمة التجارة العالمية
في الموازاة، لا تزال حكومة كازاخستان تأمل في استضافة المؤتمر الوزاري الثاني عشر لمنظمة التجارة العالمية، المؤجل من عام 2020، في مدينة نور سلطان، لكنها تنتظر التأكيد منذ أشهر. ومع ذلك، فإن عدم قدرة منظمة التجارة العالمية على جزم مسألة عقد قمتها المقبلة هو أقل المشكلات التي تواجهها هذه المنظمة الدولية، فعلى مدى السنوات الأربع الماضية، سعت إدارة ترمب إلى تهميشها من خلال شن حرب تجارية ثنائية ضد الصين تارة، وضد الاتحاد الأوروبي تارة أخرى، إضافة إلى شلّ آلية تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية واستخدام حق النقض (الفيتو) ضد اختيار مرشح توافقي لمنصب مدير عام المنظمة، العام المقبل.
وفي حين يتوقع أن يحافظ بايدن وممثلته التجارية كاثرين تاي على موقف أميركي متشدد تجاه الصين، إلا أن المفاوضات والجهود ستكون على عكس أسلوب ترمب، إذ تدرك الإدارة الجديدة أن وجود منظمة تجارة عالمية قوية والحصول على دعم شركاء تجاريين رئيسيين آخرين إلى جانب الولايات المتحدة، أمر بالغ الأهمية من أجل إجبار بكين على التعامل وفقاً للقواعد العالمية للتجارة.
مؤتمر عدم انتشار الأسلحة النووية
على صعيد آخر، كان من المفترض أن تجتمع الدول الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية في مؤتمر المراجعة الدوري الخاص بها في أبريل (نيسان) الماضي، إلا أنه بعد إعادة جدولته مرتين، سيعقد في مقر الأمم المتحدة في نيويورك خلال شهر أغسطس (آب) 2021، على الرغم من أن نظام الحد من التسلح العالمي يتعرض لضغط غير عادي.
فمن ناحية، ستنتهي المعاهدة الجديدة لخفض الأسلحة الاستراتيجية (ستارت) في فبراير (شباط) المقبل، ومن ناحية أخرى قد تختبر كوريا الشمالية الإدارة الأميركية الجديدة بمزيد من الاستفزازات والتجارب النووية أو الصاروخية مثلما فعلت مع ترمب بعد تولّيه السلطة عام 2016. كما يمكن لإيران أن تفعل الشيء عينه إذا تعثّر بايدن في خططه للانضمام إلى الاتفاق النووي المعروف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة” الذي وُقّع في عام 2015 قبل انسحاب ترمب عام 2018.
في الوقت ذاته، اتسعت الانقسامات بين الدول النووية والدول غير النووية مع اقتراب دخول معاهدة الأمم المتحدة لحظر الأسلحة النووية حيّز التنفيذ في يناير (كانون الثاني) المقبل، وهو ما يضع ضغوطاً على الرئيس الأميركي الجديد كي يصلح ويراجع الوضع النووي الذي اتّبعه سلفه ترمب.
أما أول فرصة رفيعة المستوى لبايدن كي يتحدث أمام الأمم المتحدة، فستحل في سبتمبر (أيلول) المقبل، عندما يعتلي المنصة الدولية في الافتتاح السنوي للجمعية العامة، مخاطباً شعوب العالم، وفي الوقت ذاته، يخاطب الجمهور الأميركي في إطار عمل متوازن ودقيق يتّبعه الرؤساء الأميركيون منذ أمد بعيد. ويتوقع أن يسعى بايدن إلى كسب التأييد الدولي من خلال التخلي عن لهجة ترمب القومية والغرائز الأحادية والدفاع عن سيادة الولايات المتحدة، بالتزامن مع إعادة تكريس دور بلاده كلاعب أساسي يعزز الأغراض التي تأسست من أجلها الأمم المتحدة. وعلى صعيد الجبهة الداخلية في أميركا، سيكون بايدن مطالَباً بأن يؤكد ما تفعله الأمم المتحدة لتعزيز المصالح والقيم لمواطني الولايات المتحدة، مع تخفيف التوقعات بشأن ما يمكن أن تقدمه المنظمة الدولية في وقت يشهد العالم تنافساً خطيراً من الناحية الجيوسياسية.
قمة العشرين
على صعيد آخر، تولّت إيطاليا رئاسة مجموعة العشرين في 1 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، بعد رئاسة ناجحة للمملكة العربية السعودية، واختار الإيطاليون “الناس والازدهار والكوكب” باعتبارها ثلاثة مواضيع مترابطة للقمة المقبلة، إذ يأملون في تنشيط التعاون متعدد الأطراف في مواجهة الأزمات الصحية والاقتصادية والبيئية العالمية، حتى يتمكن العالم من إعادة البناء بشكل أفضل بعد انتهاء وباء كورونا، مع اعتماد نموذج نمو جديد يلبّي الحاجات البشرية الأساسية ويقلل من عدم المساواة ويحافظ على البيئة العالمية.
قمة المناخ
من ناحية ثانية، سيكون المؤتمر السادس والعشرون للدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ، أهم قمة في عام 2021، إذ سيجتمع القادة من الأول إلى الثاني عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، في اسكتلندا لاستعراض التقدم المحرز في تنفيذ اتفاقية باريس لعام 2015، التي تلزم الأطراف الإبقاء على متوسط ارتفاع درجات الحرارة العالمية عن معدلها الطبيعي، إلى ما دون 1.5 درجة مئوية، بما في ذلك زيادة مساهماتهم لتحقيق هذا الهدف.
غير أن ذلك سيتطلب الحد من انبعاث غازات الاحتباس الحراري بنسبة 7.2 في المئة سنوياً حتى عام 2030، لكن دول العالم ليست قريبة من تحقيقه.
وبينما تعهّد بايدن بالانضمام إلى اتفاق باريس للمناخ فور تنصيبه، وجعل المعركة ضد تغيّر المناخ محور رئاسته، غير أن مصداقية القيادة الأميركية ستعتمد على ما إذا كان بإمكانه إقناع الكونغرس بتمويل خفض المواد الكربونية المسببة للاحتباس الحراري أو لا.
ومثلما تشير القمم العشر المذكورة، فإن الأجندة العالمية التي يواجهها بايدن هي الأكثر صعوبة لأي رئيس أميركي منذ عقود، إذ إن مستقبل الأمن الدولي والحرية والازدهار والتنمية والصحة، بل كوكب الأرض نفسه، كلها أمور تحتاج إلى تضافر جهود العالم مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن إعلان الرئيس المنتخب أن أميركا عادت إلى الساحة الدولية ليس سوى البداية، ولكنها خطوة أولى أساسية في مواجهة أكثر التحديات صعوبة في العالم.
طارق الشامي
اندبندت عربي