خلال الأشهر الستة الماضية من عمر الحكومة العراقية الجديدة، كانت الآمال التي ارتبطت باسم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي كبيرة في إطار مكافحة السلاح المتفلت خارج سلطة الدولة، وملاحقة قتلة المحتجين ومكافحة الفساد، لكن مؤشر الآمال هذا سرعان ما تهاوى بعد عدم حدوث أي متغيرات جذرية في تلك الملفات.
وبدأت الحكومة العراقية خلال الفترات الماضية، بتكرار أحاديث تتعلق بالضغوط والتحديات، التي تواجهها في معالجة تلك الملفات، فضلاً عن تسريبات عدة تحدثت عن سلسلة طويلة من التسويات مع الأطراف المسلحة الموالية لإيران، ما صعّد من منسوب التشاؤم في احتمالية أن تحرز الحكومة أي تقدم في ملف السلاح المتفلت أو أي ملفات حساسة أخرى.
متغيرات ومفاجآت الساعات الماضية
لكن إجراءات الساعات الـ 72 الماضية، التي بدت مغايرة لنسق تحركات الحكومة طوال الفترة السابقة، وما رافقتها من تطورات لافتة، أعادت الآمال إلى حد ما في إمكانية استعادة الحكومة بعضاً من الثقة، وربما تكون قادرة على إنجاز شيء ملموس في إطار حسم تلك الملفات.
كانت المفاجأة الأولى عندما أعلنت الحكومة العراقية اعتقال مجموعة على صلة بالهجمات الصاروخية، وهي سابقة تحدث للمرة الأولى بعد تصاعد الهجمات خلال السنتين الأخيرتين.
وفي وقت لاحق، بحسب المصادر الأمنية التي تحدثت لوسائل إعلام بينها وكالة روسية، أن من بين المجموعة قيادياً في حركة “عصائب أهل الحق” ومسؤول القوة الصاروخية فيها، على خلفية اتهامات مباشرة له بالتورط في عمليات القصف، التي حصلت في العاصمة العراقية بغداد، ومن بينها القصف الأخير الذي طال المنطقة الخضراء الحكومية وسط بغداد بنحو 21 صاروخاً.
أمن الحشد وتسويات معتقلي الفصائل
لعل ما زاد من التفاؤل يرتبط بإصرار الحكومة الاحتفاظ بالمتهم وعدم تسليمه إلى هيئة الحشد الشعبي وفقاً لرغبة الميليشيا المسلحة، على الرغم من تعالي مستوى التهديد والوعيد من قبل شخصيات ضمن الحركة ومنصات إعلامية على صلة بالفصائل.
وفي قراءة للأحداث المشابهة التي كان آخرها عملية اعتقال “خلية الكاتيوشا” التابعة لـ”كتائب حزب الله” في يونيو (حزيران) الماضي، يبدو أن نسق التعامل الحكومي بات مختلفاً، حيث لم يحدث أن أصر رئيس حكومة على عدم تسوية ملف كهذا والاحتفاظ بالمعتقل إلى هذا الحد، على الرغم من تصاعد مستوى التهديدات.
وعلى رغم أن الحوادث من هذا النوع قليلة جداً، بخاصة في ما يتعلق بمحاولات اعتقال أشخاص على صلة بالفصائل بمستويات أدنى بكثير من “قائد قوة الصواريخ” في حركة “العصائب”، إلا أنها كانت تنتهي في الغالب بتسليم السلطات المتهمين إلى ما يسمى “مديرية أمن الحشد الشعبي”، وهو جهاز تابع للهيئة، تتم تسوية الملفات المشابهة عن طريقه، إلا أن الحكومة العراقية أظهرت هذه المرة حزماً في ما يتعلق بهذا الأمر.
وحاولت المنصات الإعلامية للفصائل المسلحة ترويج خبر مفاده أن المتهم حسام الزيرجاوي سُلّم إلى أمن الحشد، إلا أن ضباطاً كبار ومصادر رفيعة، فضلاً عن عضو المكتب السياسي في الحركة سعد السعدي، نفوا الأنباء التي تتحدث عن تسليم المتهم إلى أمن الحشد، وأنه لا يزال بحوزة السلطات.
قلب المسار
يبدو أن الكاظمي بدأ عملياً بقلب المسار الذي تحدث عنه قيس الخزعلي بعبارة “كل الحكومات تاريخياً… كانت تغلّس على عملياتنا.. وعليك أن تغلّس”، وهي كلمة دارجة في اللهجة العراقية تعني غض الطرف والتجاهل، حيث دعا الخزعلي في يونيو الماضي، الحكومة العراقية إلى السير على مسار الحكومات السابقة في ما يتعلق بتجاهل هجمات الفصائل.
وتزامنت خطوات الكاظمي الأخيرة مع تغير واضح وتراجع غير مسبوق في لهجة الميليشيا الولائية الأكبر من حيث العدد والعدة والإعلام، ظهر على لسان عدد من قادتها، من بينهم القيادي في المكتب السياسي محمود الربيعي وآخرين.
تراجع لهجة التصعيد والتحدي تلك، كانت واضحة على لسان الربيعي، الذي كرر في ظهوره الأخير، تبرؤ حركته ومجاميعها المسلحة من أي عملية مسلحة سواء كانت قصفاً صاروخياً أم غيره من العمليات، متهماً جهات أخرى بالوقوف خلفها.
وفي إحدى التصريحات النادرة، التي يمكن سماعها من مسؤولين في مليشيات موالية لإيران، استنكر القيادي في حركة “عصائب أهل الحق” أي اعتداء على السفارة الأميركية في بغداد.
وقال المتحدث باسم المكتب السياسي للحركة، الربيعي، “بصراحة وكل وضوح، نرفض ونستنكر ونشجب أي اعتداء على البعثات الدبلوماسية، مع تحفظنا على دور السفارة الأميركية التخريبي، لكنها بعثة دبلوماسية، وهي بحماية العراقيين وتحت سيادة العراق، ونؤمن بأن الاعتداء عليها هو اعتداء على سيادة العراق”.
وانتقد الربيعي تصريحات العسكري الأخيرة التي هدد فيها رئيس الوزراء العراقي، مشيراً إلى أن “العصائب ترى أن تغريدة العسكري تزيد الأوضاع توتراً”.
استعداد للمواجهة
وكان الكاظمي، في 25 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، عبر للمرة الأولى عن استعداده للمواجهة، بعد أن دفعت الفصائل بعجلات رباعية الدفع وسربت منصاتها الإعلامية أنباءً عن سقوط العاصمة بيد الفصائل، حيث غرد الكاظمي بلهجة متحدية معبراً عن استعداده للمواجهة إذا تطلب الأمر من أجل حماية أمن البلاد.
وبعد ساعات من تلك التطورات، نزل رئيس الحكومة بنفسه وتجول في شوارع العاصمة برفقة ضباط كبار، وظهر في مشاهد مصورة وهو يترجل ويجري جولات شملت جانبي الكرخ والرصافة من العاصمة العراقية، الأمر الذي دفع الفصائل على ما يبدو إلى سحب سياراتها ومن ثم إطلاق تصريحات بأنها لم تقم بأي انتشار، وأن المجاميع التي انتشرت ربما تصرفت بشكل فردي.
أمر قبض بحق أبو علي العسكري والهيئة تنفي
في السياق ذاته، حاولت بعض الفصائل استعادة زخمها أمام الرأي العام، حيث أطلق أبو علي العسكري القيادي المثير للجدل في “كتائب حزب الله”، الذي ورد اسمه في قضية اغتيال الباحث هشام الهاشمي، تغريدة هاجم فيها رئيس الوزراء وهدده وتوعده بـ”قطع أذنيه”.
لم تمض ساعات على هذا التهديد، حتى سربت مصادر مقربة من الحكومة قراراً غير مسبوق ضد شخصية بهذا المستوى، حيث صدر أمر إلقاء قبض بحق الناطق العسكري باسم إحدى أقوى فصائل إيران في العراق.
وانتظرت هيئة الحشد الشعبي نحو 24 ساعة، ومن ثم أصدرت بياناً مقتضباً نفت فيه أن تكون قد رفعت دعوى ضد أبو علي العسكري، إلا أن مصادر حكومية أكدت أن الدعوى قد أقيمت بالفعل وأمر القبض قد صدر، وأن العسكري هُرّب إلى خارج العراق.
لحظة تاريخية
في السياق ذاته، يرى رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث منقذ داغر، أن “الكاظمي يستغل لحظة تاريخية فيها نوع من التوافق بين الدولة الإيرانية والأطراف المعتدلة فيها والحكومة العراقية”، مبيناً أن “إيران كدولة لا تريد التصعيد مع واشنطن أو إعطاء ذريعة للرئيس الأميركي دونالد ترمب لتنفيذ تهديداته”.
ويشير داغر إلى أن “صانعي القرار في طهران يحاولون تهيئة أرضية مناسبة في الفترة الحالية للتفاوض مع إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، وهو الأمر الذي استغله الكاظمي لصالحه في توجيه ضربات لتلك المليشيات في هذه المرحلة”.
ويتابع أن “إيران باتت تخشى من إمكانية أن يعقد ملف الاستهداف المتكرر للسفارة الأميركية في بغداد احتمالية إحراز تقدم مع إدارة بايدن”، لافتاً أنه “على الرغم من توجه المعتدلين في إيران إلى حسم تلك الملفات، إلا أن الحرس الثوري والتيارات المتشددة الداخلية، ما زالت ترى أن المفاوضات لم تأت بشيء يذكر”.
وإضافة إلى تلك العوامل، يشير داغر إلى أن “زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الذي يحاول استغلال تلك اللحظة وتقديم تياره لاقتناص رئاسة الوزراء، يتوافق مع تلك التوجهات في ضرب المليشيات الموالية لإيران، وهو الأمر الذي استغله الكاظمي لتدعيم موقفه داخلياً وخارجياً”.
استعراض إعلامي وافتقار للإستراتيجية
في المقابل، يرى أستاذ العلوم السياسية إياد العنبر أن “التحركات الحكومية الأخيرة لا ترتقي إلى مستوى الإستراتيجية الشاملة في مواجهة قوى اللادولة والسلاح المنفلت، وما جرى مجرد استعراض إعلامي، وليس مقدمة لتفعيل نقاط الصدام المؤجلة مع تلك القوى”.
ويوضح العنبر “ما جرى خلال الأيام الماضية، لا يمكن قراءته إلا في إطار محاولات الحكومة التنفيس عن الأزمات الكبيرة التي تعصف بالبلاد، وفي أفضل الأحوال هي مجرد ردود فعل”.
ويشير العنبر إلى أن “قوى اللادولة لا يتم التعامل معها بهذه الطريقة التي تفتقر إلى الرؤية، وعلى الحكومة إن كانت جادة في حسم هذا الملف أن تبدأ في سلسلة تحركات من خلال التفاوض على مناطق نفوذ تلك الجماعات التي تنطلق منها التهديدات، وجذب القوى السياسية إلى جانبها في حراك تدعيم سلطة الدولة”.
ويتابع العنبر، أما الإستراتيجية الأخرى التي على الحكومة التحرك وفقها فهي “البدء بتجفيف المنابع الرئيسة التي أسهمت في تضخيم هيمنة تلك القوى على مؤسسات الدولة الاقتصادية والسياسية والأمنية”.
ولعل المسار الثالث بحسب العنبر يرتبط بحتمية الصدام مع تلك القوى والإعلان عنها بشكل صريح، مشيراً إلى أن “مشكلة الحكومة تتمثل بعدم قدرتها حتى الآن على تحديد عناوين قوى اللادولة التي تتحدث عنها بشكل متكرر ولا تشير إليها”.
ويختم أن “كل ما جرى من خطوات حتى الآن لا يعطي انطباعاً أن الحكومة ماضية بشكل جدي في حسم هذا الملف”.
تحول لافت
في المقابل، يعتقد رئيس مركز “كلواذا” للدراسات باسل حسين، أن “هناك تحولاً في موقف الكاظمي من دور كيس الملاكمة الذي استقر في ذهن كثير من الميليشيات والأحزاب ومراكز القوى منذ حادثة خلية الكاتيوشا التابعة لكتائب حزب الله، إلى دور الملاكم الشرس”، مبيناً أن “اعتقال القيادي في العصائب كانت فرصة مناسبة لإظهار هذا الدور”.
ويشير حسين، إلى أن “رسالة الحكومة هذه المرة كانت مباشرة بأنها ماضية نحو تحقيق اشتراطات بناء الدولة وعلى رأسها احتكار العنف ومنع أي قوة موازية من منافسة سلطة الدولة”، موضحاً أن ما عزز موقف الكاظمي الأخير هو “انفكاك حشد العتبات عن هيئة الحشد الشعبي”.
ويلفت حسين أن “تكرار سيناريو حادثة خلية الكاتيوشا وإطلاق سراح المعتقلين سيقوض سمعة الدولة داخلياً وخارجياً، ويقلل من فرص إعادة الاستقرار، ويرسل رسالة خاطئة إلى قوى اللادولة بكونها صاحبة الكأس العلي في البلاد”، مضيفاً أن “هذا التحدي يوفر فرصة حقيقية لأن تكون محطة فاصلة لانتصار قوى الدولة على قوى اللادولة”.
أحمد السهيل
اندبندت عربي