الخرطوم – يواجه اتفاق السلام الذي وقعته السلطة الانتقالية مع الجبهة الثورية التي تضم في عضويتها حركات مسلحة وتنظيمات سياسية، اختباراً عصيباً عقب إنهاء مهام بعثة حفظ الأمن في إقليم دارفور (يوناميد) التي تحزم حقائبها استعداداً للمغادرة نهائيا مع بداية العام الجديد.
وأعلنت السلطات السودانية، الاثنين، نشر قوة عسكرية كبيرة في ولاية جنوب دارفور، بعد أن تجددت المواجهات المسلحة بين قبيلتي “المساليت” و”الفلاتة” في منطقة “قريضة” بالولاية، أدت إلى مقتل 15 شخصاً وإصابة العشرات.
ويعد خروج قوات “يوناميد” في هذا التوقيت من دون تشكيل “القوى الوطنية لاستدامة السلام في دارفور” ضمن ملف الترتيبات الأمنية بين السلطة الانتقالية والحركات المسلحة، تهديداً مباشراً للاتفاق في ظل انعدام ثقة المواطنين في المنطقة بالقوات الحكومية التي من المتوقع أن تحل محلها، إلى حين تنفيذ بنود الترتيبات الأمنية.
وهناك جهات من مصلحتها عدم منح اتفاق السلام فرصة لإنزاله على الأرض، فحركة جيش تحرير السودان، جناح عبدالواحد محمد نور، صاحبة الثقل العسكري في المنطقة لم توقع بعد على الاتفاق، كما أنّ عددا كبيرا من أصحاب المصلحة أنفسهم لديهم اعتراضات على الاتفاق وآليات تنفيذه، بما يجعله يراوح مكانه.
ومع استقرار الأوضاع نسبياً بعد التوصل لاتفاق السلام يصعب تجاهل التحديات الأمنية الكبيرة في دارفور، في مقدمتها العنف المستمر بين القبائل في الإقليم، واستمرار الاشتباكات المتقطعة بين جيش تحرير السودان، فصيل عبدالواحد نور، والقوات الحكومية، مع وجود مئات الآلاف من النازحين في المعسكرات، وسط أوضاع اقتصادية صعبة تصل إلى حد المجاعة، بحسب تقارير حقوقية.
ويتهم أصحاب المصلحة في دارفور الأمم المتحدة بالتسرع في إصدار قرارها النهائي بإنهاء مهام قواتها من دون الاستماع إلى أصواتهم بعد أن نظموا احتجاجات متتالية بداية الشهر الجاري، طالبوا فيها بضرورة الانتظار لحين توقيع اتفاق شامل للسلام، وسط استمرار حالة انعدام الثقة بين المجتمع الدارفوري وبين القوات الحكومية، على رأسها قوات الدعم السريع التي يتهمها هؤلاء بالتورط في أعمال عنف سابقة.
وقال عضو الأمانة السياسية بحركة جيش تحرير السودان، جناح مني أركو مناوي، آدم والي، إن مجلس الأمن استعجل في قراره قبل ضمان قدرة الحكومة في تحقيق الأمن للمدنيين، ما يجعل الانسحاب بالطريقة الحالية له أثر سلبي بالغ على استقرار الأوضاع الأمنية في الإقليم، لأن “اليوناميد” لم تكن أدوارها عسكرية بحتة، حيث كانت تشكل رقابة دولية على ممارسات الميليشيات المسلحة في تلك المناطق والتي كانت تتحسب خطواتها تجاه التعامل مع أصحاب المصلحة والنازحين.
ولدى أصحاب المصلحة في دارفور قناعة بأن “اليوناميد” لم تكن قادرة على تحقيق أمن كامل وتعرضت معداتها للنهب والهجوم من قبل الميليشيات، لكن في الوقت ذاته حققت الحد الأدنى من السيطرة على الأوضاع الأمنية وتقديم المساعدات والانخراط في الأدوار الاجتماعية، ويخشى مواطنون في الإقليم أن لا يحصلوا على هذا القدر من المكاسب بعد مغادرتها.
وأضاف والي في تصريح خاص لـ”العرب”، أن الانسحاب يؤثر بشكل مباشر على قدرة السلطة الانتقالية في تنفيذ بنود اتفاق السلام بشكل سلس، لأنه يواجه أصلا اختلالات في عملية تطبيقه، بدءاً من خرق الجداول الزمنية، ومروراً بطول أمد مشاورات تشكيل الحكومة، ونهاية بعدم تمثيل أي من القيادات الموقعة على الاتفاق في أي مؤسسة حكومية أو دستورية لها دور في التعامل مع الغضب الكامن بالإقليم.
وتعهدت الشرطة السودانية بتوفير الحماية الكاملة للمدنيين وتأمين قرى العودة الطوعية، وضمان جميع مراحل عودة النازحين واللاجئين بولايات دارفور عقب خروج البعثة.
هذه التطمينات لم تقنع العديد من مواطني دارفور من الذين يرون أن هناك بيئة خصبة لاندلاع أعمال عنف جديدة مع انتشار السلاح بين المواطنين وغياب القوات الحكومية في مناطق تقع تحت سيطرة حركات مسلحة.
ويواجه قرار إنهاء مهام “يوناميد” الذي صدر بإجماع الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن، تحفظا من قوى إقليمية ودولية ترى أنه يشكل تهديداً على استقرار المنطقة التي تتشابك مع أوضاع مشتعلة في بؤر متاخمة لحدوده.
وشككت الاعتراضات في طريقة خروج حوالي خمسة آلاف عسكري دون ربط الأمر بتسليم وتسلم المناطق لقوات مشتركة بين الحركات المسلحة وقوات الجيش النظامية.
وأبدت بريطانيا، أسفها لعدم “تبنّي قرار أكثر حكمة يمكّن قوات يوناميد من مواصلة تقديم الدعم للحكومة السودانية وشعب دارفور خلال مرحلة انسحابها، بموجب حالات سابقة في مجلس الأمن بشأن انسحاب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة”.
ويصب الانسحاب بهذه الكيفية في صالح تنظيمات متطرفة مازالت تحظى بوجود لافت في دارفور، حيث حالة السيولة الأمنية في الإقليم تخدم أجندتها، التي تتداخل مع الصراع القائم حالياً في ليبيا، وتستمر في عمليات تهريب المال والسلاح عبر مسارات معروفة بين دارفور ومدن ليبية يتواجد فيها مرتزقة وميليشيات مسلحة.
وأشار آدم والي، إلى أن وجود إحدى الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا ولها خلفية إسلامية (حركة العدل والمساواة)، يمكن أن يجري استغلالها كحصان طراودة لاستعادة نفوذ تنظيمات متشددة لديها رغبة في إشعال الأوضاع في تلك المنطقة للضغط على الحكومة للحصول مكاسب سياسية.
وتفتقر بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية والتي جرى تشكيلها في يونيو الماضي تحت مسمى “يونيتامس”، وتبدأ مهام عملها بعد أيام، إلى ثقة المجتمع المدني في دارفور.
واستبدلت الأمم المتحدة الوجود تحت البند السابع الذي يجيز استخدام القوة العسكرية إلى البند السادس من خلال بعثة يقتصر دورها على تقديم الاستشارات السياسية والفنية، استجابة لرغبة الحكومة المركزية.
وذكر عمر محمد علي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الخرطوم، أن “السلطة الانتقالية أحد أسباب حالة الاضطراب الحالية في الإقليم، لأنها دعمت خروج (يوناميد)، ولم توفر البيئة الملائمة لاستقبال البعثة الجديدة”.
وأكد لـ”العرب”، أن البطء في التعامل مع ملفات المرحلة الانتقالية، تسبب في فقدان الثقة بين المواطنين والسلطة المركزية، إلى جانب أن عدم قدرتها التعامل مع الأوضاع الأمنية الرخوة في الخرطوم يُصعب التعويل عليها لحل مشكلات دارفور المترامية.
العرب