ما حدث في شوارع بغداد قبل أيام كان عبارة عن تمرين على التحدي فشلت إيران في البقاء فيه حتى النهاية. فبمجرد أن وصلتها إشارات غاضبة من واشنطن تراجعت واعترفت أنها بعثت إلى واشنطن رسالة توضيحية.
لم يكن المقصود من تهديدات حزب الله العراقي التي انطوت على الكثير من السخرية لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بشخصه بقدر ما كانت حركة استعراضية أرادت تلك الميليشيا الأكثر قربا من إيران أن تستفز الولايات المتحدة من خلالها بعد أن تعرضت سفارتها لقصف، كشفت الحكومة العراقية الجهة المسؤولة عنه وألقت القبض على الرأس المدبر له.
الرسالة الإيرانية التوضيحية لم يعد مضمونها سريا. فقد تملصت إيران من خلال بيان رسمي من مسؤوليتها عن القصف وأدانته كما أنها بدت غير مرتاحة لما حدث من تداعيات بعده.
هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها إيران بمثل تلك المبادرة. وهو ما يؤكد أنها حاولت أن تستبق الأحداث بعد أن صار عليها أن تستقبل وفدا عراقيا لم تكن زيارته تتضمن إلا سطرا أميركيا واحدا “اضبطوا حركة أتباعكم وإلا ستدفعون الثمن”. كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد خص إيران بجمل نارية، لكن حدث ذلك قبل وقوع التطورات الأخيرة في بغداد والتي بدت إيران من خلالها وكأنها تستعرض عضلاتها في وجه الولايات المتحدة.
شعرت إيران أن شعرة ربما تنقطع لتبدأ مرحلة جديدة من العلاقة بالولايات المتحدة عنوانها الحرب. لذلك سارعت إلى إرسال رسالة براءتها وهي التي حرصت طوال الأوقات الماضية على التصريح بأنها مستعدة لخوض حرب مدمرة ضد الولايات المتحدة.
في لحظة واحدة سحبت إيران كل تصريحات جنرالاتها وباتت أقرب إلى السلم منه إلى الحرب ولسان حالها يقول “ليس ما حصل في بغداد سوى لعبة أولاد مشاغبين غلبهم الطيش فصاروا يهرفون بما لا يعرفون. إنهم صبية مراهقون للحكومة العراقية الحق في تأديبهم والحد من تصرفاتهم الحمقاء”.
ترى ما السر في ذلك التحول الذي باغت إيران وهي التي كانت تفخر بأن رأسها صلبة وعنيدة وأنها تخطط لما لا يمكن رؤيته لذلك فإنها تُظهر غير ما تفعل؟ لمَ صار عليها فجأة أن تتخلى عن أحد فصائلها الرئيسية في العراق وتعترف بصلاحيات الكاظمي باعتباره رئيسا للوزراء؟
في المرات السابقة كانت الولايات المتحدة توجه ضربات محدودة إلى مواقع عسكرية تنتقيها في العراق لتؤدب هذا الفصيل أو ذاك من فصائل الحشد الشعبي الذي يأتمر بأوامر الحرس الثوري الإيراني. كانت تلك الضربات بالرغم مما تلحقه من أضرار بشرية ومادية بالوجود العسكري الإيراني، محصورة داخل العراق ولا تضر ببنية النظام الإيراني.
أما وقد وضعت الولايات المتحدة على لسان رئيسها إيران على خارطة حرب وشيكة فإن الأمور يجب أن تُرى بطريقة مختلفة. سينتهي اللهو ليبدأ الجد. وحين يبدأ الجد فإن إيران تعرف حجمها العسكري الحقيقي بالمقارنة مع الولايات المتحدة التي يمكن أن تحد من حركتها خلال ساعات قليلة لتبدأ في ما بعد بتدميرها.
تتذكر إيران جيدا درس العراق الذي ساهمت في تدميره.
إيران نزعت فتيل الأزمة وهي في ذلك إنما تعيد إلى الأذهان طريقتها الذرائعية في تجنيب نفسها قدرا، كان الناس البسطاء ممن يؤمنون بها عقائديا يظنون أنها ذاهبة إليه بل ولن تحيد عنه.
في الحقيقة فإن إيران تكذب في كل ما تقوله عن حربها ضد الولايات المتحدة وضد إسرائيل. يمكنها أن تحارب خارج حدودها ومن خلال عملائها. ذلك صحيح ومؤكد. غير أنها لن تعرض نفسها لتجربة حرب ستقضي عليها حتما. فالنظام الذي يحكم في إيران ليس عزيزا عليه أن يتخلى عن أي شيء حتى لو كان ذلك الشيء فكرة المهدي المنتظر مقابل أن يظل ممسكا بالسلطة.
السلطة هي أعز على ملالي طهران وقم من كل مكتسباتهم التي حققوها عبر الأربعين سنة الماضية. لذلك فمن اليسير عليهم أن يتخلوا عن ميليشيا في العراق. بل إن من اليسير عليهم أن يتخلوا عن العراق كله مقابل ألا يتورطوا في حرب، يعرفون جيدا أنهم لن يخرجوا منها سالمين.
أما ما يروج له أتباع إيران في المنطقة فإنه محض أكاذيب. ليست إيران قادرة على تنفيذ تهديدات جنرالاتها. إشارة واحدة من ترامب جعلتها تجنح للسلام وتتخلى عن عصائبها وحزب الله الذي زرعته في العراق. وإذا ما اشتد العصف الأميركي فإن إيران مستعدة لشراء رضا إسرائيل طمعا في استرضاء الشيطان الأكبر.
العرب