روى لي أحد المقربين من الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أن الرفاق السوفيات أرسلوا يوماً إلى “أبي عمار” يطلبون منه أن يوفد شخصاً من قادة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية للتباحث معه في موضوع استراتيجي يتعلق بالتنسيق والعمل المشترك بين الطرفين في شأن الصراع العربي الإسرائيلي، فما كان من عرفات إلا أن أرسل لهم القيادي “أبو صالح” (نمر صالح) المحسوب داخل قيادة حركة فتح على التيار المقرب من موسكو، فكان رد فعل الرفاق أن قالوا لـ”أبي عمار” نحن طلبنا أن ترسل لنا شخصاً يمثل حركة فتح.
الشاهد في العودة إلى هذه الحادثة وما نقله هذا الشخص، هو ما قام به رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بإرسال “أبو جهاد الهاشمي” إلى العاصمة الإيرانية طهران مبعوثاً من جانب حكومته للتباحث في شأن تداعيات الأحداث الأخيرة التي شهدتها بغداد جراء عملية القصف التي تعرّضت لها السفارة الأميركية وارتفاع مستوى التوتر الذي أعقب عملية اعتقال أحد قياديي جماعة “عصائب أهل الحق” بزعامة قيس الخزعلي واتهامه بالوقوف وراء عمليات القصف على المنطقة الخضراء.
المعروف لدى القاصي والداني، في العراق وخارجه، أن “أبا جهاد الهاشمي” الذي شغل منصب مدير مكتب رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، من الشخصيات العراقية المقربة جداً من النظام الإيراني، وكان على علاقة وثيقة مع قائد قوة القدس في حرس الثورة الجنرال قاسم سليماني، وهو أحد أعضاء لجنة المتابعة التي تشكّلت قبل اغتيال الأخير من أجل البحث عن حلول للأزمة التي نتجت من انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 الشعبية والحراك المطالب بالإصلاحات والتغيير في العملية السياسية ومحاسبة الفاسدين وإخراح الطبقة السياسية الحاكمة، خصوصاً أحزاب الإسلام السياسي وجماعاته.
وإذا ما كان “أبو جهاد الهاشمي” يتمتع بهذا الموقع وهذه المكانة لدى الطرف الإيراني ويعتبر موضع ثقة لدى مسؤولي الملف العراقي في حرس الثورة، فإن الكاظمي في هذه الخطوة إنما يشبه ما فعله الرئيس عرفات مع الرفاق السوفيات، ما يعني أنه لا يريد سوى الاطّلاع على موقف طهران، وأن ينقل إليها كلاماً لا يستفزها أو على الأقل يحمله بعضاً من التطمينات حول الإجراءات التي يتخذها بحق بعض قيادات محسوبة على هيئة الحشد الشعبي وتنتمي إلى جماعات تعتبر من الفصائل الموالية لطهران. وبقليل من الدهاء السياسي، وقد يكون مستبعداً، قد تكون رسالة الكاظمي عدم رغبته في الحوار حول الخطوات التي يقوم بها وتستهدف ضرب نفوذ هذه الفصائل في إطار محاربة السلاح المتفلت بما يعزز هيبة المؤسستين العسكرية والأمنية للدولة العراقية.
الجانب الإيراني بدوره، لا شك أنه فهم رسالة الكاظمي، وأدرك أن رئيس الوزراء العراقي يهدف من هذه الخطوة تهدئة الأمور والتخفيف من تصاعد التوتر الذي قد يطيح باستراتيجيته في قيادة الحكومة في هذه المرحلة الانتقالية أميركياً، وما يمكن أن تؤدي إليه من إضعاف أوراقه وحظوظه في الاستمرار في موقع رئاسة الحكومة حتى بعد الانتخابات البرلمانية المبكرة المقررة في 6 يونيو (حزيران) المقبل 2021. فكانت رسائل طهران متعددة، وفي أكثر من اتجاه، وهدفها رفع مستوى الضغوط على الحكومة العراقية بحيث تضعها على حافة التعطل من دون الإطاحة بها، عبر فتح ملفات مالية ومطالبة بغداد بمستحقّاتها من الغاز والكهرباء والبضائع التجارية المتراكمة التي ترواح في المباشر بين 3 و6 مليارات دولار، ووفق تقديرات خاصة بغرفة التجارة الإيرانية تتجاوز 30 مليار دولار محتجزة في العراق جراء العقوبات الأميركية. وما يعنيه ذلك من زيادة ارتباك الكاظمي الذي يواجه أزمة حقيقية في توفير رواتب موظفي الدولة، فضلاً عن الموازنة التشغيلية لمؤسساتها التي من المتوقع أن تذهب إلى مزيد من التأزم شعبياً بعد قرار خفض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار الأميركي بنحو 23 في المئة.
علاقات من دون سلام
وهنا، يمكن القول إن زيارة قائد قوة القدس في حرس الثورة الإسلامية الإيرانية الجنرال إسماعيل قآني إلى العراق التي حدثت على وجه السرعة، لم تأتِ من أجل استيعاب ردود الفعل المحتملة نتيجة الهجوم الصاروخي غير المسبوق الذي تعرّضت له السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء في بغداد فقط، بل من أجل تثبيت معادلة أساسية تتعلق بالدور والنفوذ والسيطرة الإيرانية على المشهد السياسي والأمني والعسكري على الساحة العراقية، خصوصاً لجهة الرسائل التي حملتها.
فالزيارة تحمل رسالة إلى الإدارة الأميركية الحالية والمقبلة بأن خيار طهران عدم الذهاب إلى مواجهة عسكرية في هذه المرحلة أو في المستقبل هو خيار جدي، ولن تسمح في جرّها أو في إجبارها على تقديم ذريعة تؤدي إلى الوصول لهذه المواجهة التي لا تخدم سوى رغبات بعض الأطراف الإقليمية وفي مقدمتها الحكومة الإسرائيلية التي تتخوف من إمكانية حصول تفاهمات مع الإدارة الأميركية الجديدة تسهم في إعادة تفعيل الدور الإيراني على الساحة الشرق أوسطية وتكرّس نفوذها في مناطق الصراع على حساب تل أبيب، فضلاً عن بعض الدول الخليجية التي تتهمها طهران بأنها تدفع واشنطن وتل أبيب إلى ضرب إيران، وما يعنيه ذلك من تداعيات داخلية وخارجية تفرض عليها الانسحاب من مناطق نفوذها في بعض العواصم العربية.
أما على الصعيد العراقي، فهي رسالة إلى الداخل العراقي، بأن طهران ما زالت تمسك بخيوط اللعبة في البلاد، وأن أي فصيل أو ميليشيا أو حزب، لا سيما تلك المحسوبة ضمن الفصائل والأحزاب الولائية أو التي تدور في الفلك الإيراني، يريد التفرّد بالقرار من دون العودة إلى مرجعية طهران والعمل بعيداً من الرؤية الإيرانية، فإنها لن تتردد في معاقبته وتقليم أظافره أو وضعه في موقف حرج في مواجهة الدولة والشارع الشعبي العراقي.
وقد تكون الرسالة الموجهة إلى الحكومة العراقية هي الأخطر، التي تؤكد أن طهران ما زالت تمتلك مفاتيح التحكم القادرة على إعطاء الحكومة ومؤسساتها الجرعة الكفيلة بتعزيز حضورها ودورها، أو إعلان موتها سريرياً من خلال إظهار عجزها عن مواجهة التحديات التي تتسبب بها أنشطة الفصائل المسلحة التابعة لها والخاضعة لسيطرتها.
وأمام بعض الممارسات التي تصدر عن بعض الفصائل المسلحة الولائية المنضوية في إطار مؤسسة الحشد الشعبي، كان لا بد لطهران من العودة إلى التأكيد أن أي تمرد على قرارات هذه المؤسسة لن يمرّ من دون عقاب، خصوصاً أن هذا التمرد تضعه طهران في سياق استهداف دور القيادة التي اختارتها لإدارة الحشد وموقعها، على الرغم من كل الأصوات المعترضة على ذلك، حتى إنها لم تعبأ بالموقف الصادر عن الفصائل الأربعة التي تشكّل ما يسمّى حشد المرجعية، والتي أعلنت انفصالها عن المؤسسة الأم ووضعت نفسها في إمرة القائد العام للقوات المسلحة مباشرة.
بالتالي، هي رسالة من طهران إلى كل الأطراف التي تعترض على اتساع النفوذ الإيراني والتدخل الواسع في العملية السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية العراقية، بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي توجه قد يشكّل تهديداً لمصالحها الاستراتيجية على الساحة العراقية ومن ورائها الساحة الإقليمية في معركة عض الأصابع التي تدور بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً لكل الذين قد يمثّلون تهديداً لقواعد الاشتباك القائمة بينها وبين القوات الأميركية، من الحكومة أو خارجها، وحتى من بعض فصائل الحشد التي ترفع شعار المقاومة. فالرسالة إلى هذه الفصائل أن إيران لن تتردد في معاقبتها أو تأديبها على أي فعل قد تقوم به من خارج التنسيق والقرار الإيراني.
طهران التي تعدّ الأيام الفاصلة حتى تاريخ العشرين من فبراير (شباط) على التوقيت الأميركي، تعتقد أن العراق سيكون ساحة المواجهة الرئيسة مع واشنطن في المنطقة، وأن استمرار نفوذها في العراق حتى ولو لم يكُن بالشكل السابق، سيسهّل عليها عملية الحوار حول الملفات الإقليمية الأخرى. وعلى هذا الأساس، تتعامل مع الحكومة العراقية في إطار سياسة حافة الهاوية، والحفاظ عليها من السقوط، وفي الوقت ذاته الإبقاء عليها عرجاء أمام حجم الأزمات التي تواجهها في ظل غياب أي حلول جذرية أو حقيقية.
حسن فحص
اندبندت عربي