أي وجه للسياسة العالمية بعد كورونا؟

أي وجه للسياسة العالمية بعد كورونا؟

اجتاح فيروس كورونا العالم على مدار 2020، مسجلاً عاماً فاصلاً للبشرية على كثير من الأصعدة المجتمعية والصحية والاقتصادية والسياسية. غير أن ما تكشّف من الجائحة على صعيد النظام الدولي يبقى واحداً من أكثر الآثار التي تركها الفيروس، التي أسفرت حتى الآن عن إصابة 66.7 مليون شخص حول العالم ووفاة أكثر من 1.5 مليون آخرين.

ظهر الفيروس أولاً في مدينة ووهان بالصين أواخر 2019، ثم انتشر سريعاً إلى باقي أنحاء العالم. وبحلول مارس (آذار) 2020، بدأت كثير من الدول الإغلاق على الصعيد الوطني لمنع تفشيه، وذهبت للبحث عن أدوات ومعدات الوقاية، إذ فرض البعض سياسات تحظّر تصدير هذه المعدات في ظل الحاجة المحلية الطارئة لها.

وتنامت القومية بل الشعبوية على حساب التعددية الإقليمية والعالمية، ما تجلّى في هجوم الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب على منظمة الصحة العالمية، ووصفه الوباء بـ “الفيروس الصيني”، مما اعتبره البعض عنصرية.

وفي الأشهر الأولى لانتشار كورونا، سادت العالم حالة من الغضب الواسع تجاه الصين، خصوصاً بعدما تكشّف علم بكين، مبكراً، بانتشار فيروس غامض يصيب الجهاز التنفسي، ولا يستجيب ضحاياه للمضادات الحيوية. ومع ذلك، جرى التكتم على الأمر واعتقال الطبيب الذي نبّه السلطات الصحية بشأن كوفيد-19.

وواصلت الصين السماح بالرحلات الدولية حتى الـ21 من يناير (كانون الثاني) 2020، وأضرّ الأمر أيضاً بسمعة منظمة الصحة العالمية، إذ واجهت اتهامات بالتواطؤ مع بكين في التكتم على انتقال الفيروس بين البشر، بسبب انتظارها طويلاً قبل الإعلان رسمياً عن الأمر. وفي مايو (أيار) الماضي، أعلن ترمب تعليق المساهمة المالية للولايات المتحدة في المنظمة الدولية.

هشاشة النظام الدولي

ويقول بول بوست، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، إن الجائحة كشفت عن “هشاشة النظام الدولي”، مما أدى إلى حدوث تغييرات في التحالفات والمؤسسات والاقتصاد العالمي.

وفي حلقة نقاشية استضافتها الجامعة بعنوان “كوفيد 2025: عالمنا في السنوات الخمس المقبلة”، تحدث بوست عن كيفية تسريع الوباء للتغييرات في العلاقات الدولية، إذ تعاملت بلدان العالم مع الجائحة من خلال الابتعاد عن بعضها بعضاً بدلاً من اتخاذ خطوات لمعالجة الأزمة معاً.

وقال أستاذ العلوم السياسية الأميركي إنه في السنوات المقبلة يمكن أن تشمل هذه التحولات تأكيد الصين نفسها، على نحو متزايد، بديلاً للولايات المتحدة على المسرح العالمي وإحجام دول عدة، بما في ذلك بلاده، عن المؤسسات العالمية مثل منظمة الصحة العالمية.

ومع ذلك، فربما تتغير هذه التوقعات مع انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، الذي قال، خلال مؤتمر صحافي منتصف الشهر الماضي، إن بلاده “ستعود إلى منظمة الصحة العالمية”.

روح العولمة

وعلى الرغم من الفوضى التي سادت العالم خلال الأشهر الأولى للجائحة، فإن مراقبين يعتقدون أن المشهد أخذ في التغير تدريجاً، إذ بدأت “روح العولمة تعود” مع إدراك قادة العالم خطورة الانفصالية، ومن ثم عادت الدول إلى تبادل المعرفة حول الفيروس الجديد وتوفير إمدادات معدات الحماية الشخصية الأساسية.
وبحسب مجلة جنوب أفريقيا للدراسات السياسية، فإن المؤسسات المتعددة الأطراف، بما في ذلك الأمم المتحدة ووكالاتها، ربما تواجه تداعيات مختلفة على صورتها وأدوارها المستقبلية. وكافحت المنظمات الإقليمية مثل الاتحادين الأفريقي والأوروبي ومجموعة بريكس ومجموعة العشرين والسبع، للحفاظ على مكانتها كقنوات للتعامل العالمي مع التهديدات الجماعية. بينما تؤكد مجلة “المنظمة الدولية”، المتخصصة في العلاقات بين البلدان الصادرة عن جامعة كامبريدج، أن الجائحة “لم تغير بشكل أساسي نسيج هذه العلاقات”.

ويرى باحثون أن سياسات الرئيس ترمب ربما كان لها أثر أبلغ بكثير من الجائحة في هذا الصدد. فقبيل الانتخابات الرئاسية في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، كان يتوقع مراقبون تخلّي الولايات المتحدة عن منظمة التجارة الدولية، التي تشكل ركيزة النظام التجاري الدولي، إذا ما فاز ترمب بولاية رئاسية ثانية، إذ كان يعوّل كثيرون على من يفوز في الانتخابات، بغض النظر عن وجود جائحة أو غيابها، في تحديد مستقبل النظام العالمي.

ومنذ ظهور كورونا، كان هناك سيل من التوقعات بأن عام 2020 ستكون له آثار جذرية في تغيير السياسة العالمية. لكن يقول دانيال دريزنر، أستاذ السياسات الدولية بجامعة توفتس، في مقال بحثي بمجلة “المنظمة الدولية”، إنه بدراسة كيفية تأثير الوباء في توزيع القوة عالمياً في الأشهر الستة الأولى من الجائحة، اتضح أن “ليست لها آثار جذرية تحويلية في السياسة العالمية”. ففي ظل غياب تغيّر عميق في أفكار الهيمنة بين الدول وثبات ميزان القوى على صعيد العالم، من غير المرجح أن يكون عام 2020 نقطة تحوّل.

التأثير الجيوسياسي للأوبئة

ويضيف أن المنعطفات الحرجة في النظام الدولي تحصل عندما يؤدي حدث ما إلى تحوّل جذري في المتغيرات الرئيسة أو يفرض تسريعاً للاتجاهات القائمة. وبالفعل، كان للأوبئة في الماضي مثل هذا التأثير. لكن، أسفرت التطورات الاقتصادية والطبية الواسعة عن تخفيف حدة النتيجة الجيوسياسية للأوبئة في القرون الأخيرة.

وفي غالبية تاريخ البشرية، كان للأوبئة تأثير واضح في الشؤون الدولية، من حيث توازن القوى في مناسبات متعددة، إذ كانت أمراض مثل الحصبة أكثر فاعلية بكثير من البنادق في المساعدة والتحريض على غزو العالم الجديد “الأميركتين”.

وفي حالات أخرى، مثل غزو نابليون لروسيا، كان المرض هو العامل الرئيس في التراجع، بعدما اجتاح التيفوس والدوسنتاريا جيشه، إذ خسر نابليون 120 ألف جندي بسبب المرض في الأسابيع التي سبقت الاستيلاء على موسكو، مما أدى إلى تغيير الأحداث.

وأدت سلسلة من المكاسب المجتمعية والتكنولوجية منذ 150 عاماً إلى تقويض تأثير الأوبئة في السياسة العالمية. فمنذ القرن التاسع عشر، ساعدت التحسينات الهائلة في الصرف الصحي ومعايير تحضير الطعام وغيرها في الحد من نواقل الأمراض المتعددة، فأصبح من الصعب انتشار الوباء في المناطق الحضرية، فضلاً عن تطوير اللقاحات والعلاجات للأمراض المعدية الرئيسة. وكان هذا قبل الثورة الميكروبيولوجية وتطور المضادات الحيوية.

والأهم، يقول دريزنر إن كورونا “لم يغيّر بشكل أساسي توزيع السلطة والمصالح”، فالأوبئة التي يحتمل أن تكون لها آثار مغيّرة للمجتمع هي تلك التي تقتل السكان في سن العمل أو تتسبب في عجزهم، بينما هذا الفيروس التاجي الجديد لم يفعل ذلك. كما احتفظت كل من الولايات المتحدة (القوة المالية) والصين (القوة التصنيعية) على قيادتهما في مجالات قوتهما.

تضرر مكانة الصين

ومع ذلك تعتقد هونغيانغ وانغ، الزميلة لدى مركز ابتكار الحوكمة الدولية ومدرّسة السياسة بجامعة واترلو، أن المكانة الدولية للصين تضررت بسبب سوء تعامل حكومة الرئيس شي جينبينغ مع التقارير الأولية عن الفيروس ومحاولة قمعها.

وتشير إلى تحوّل الرأي العام العالمي تجاه الصين من سيّء إلى أسوأ، إذ تشعر الدول الغربية بالإحباط بالفعل بسبب ما يرون أنه منافسة غير عادلة مع بكين، وتشك في الطموحات الصينية لقلب النظام الدولي الحالي، وقد ازدادت الدول سخطاً بسبب سوء تعاملها مع تفشي الوباء، حتى باتت أوروبا تبحث مراجعة الاعتماد الكبير على الصين في سلسلة التوريد العالمية للسلع الحيوية.

وبينما تمتلك إدارة ترمب أسباباً سياسية لإلقاء اللوم على بكين في انتشار الفيروس وتقييد العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية وحتى التعليمية معها، اتخذت الحكومات الغربية الأخرى أيضاً موقفاً أكثر صرامة. فعلى سبيل المثال، قادت أستراليا المطالب الدولية لإجراء تحقيق مستقل في أصل الفيروس وانتشاره، بينما أكد الاتحاد الأوروبي مجدداً المخاوف الواسعة في علاقاته مع الصين، مطالباً بمزيد من المعاملة بالمثل في التجارة والاستثمار.

وعززت الاستجابة للوباء والانكماش الاقتصادي الذي أعقبه دور الدولة القومية. وباقتران ذلك مع الرغبة المتزايدة لدى دول عدة في تقليل الاعتماد على الآخرين، خصوصاً في سلاسل التوريد العالمية، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى بعض الانحدار في العولمة، ويرى البعض أن هذا التراجع قد يكون قوياً ودائماً.

وتشير وانغ إلى أن الجائحة أنتجت تأثيراً مزدوجاً خطيراً من خلال زيادة الشعور القومي الصيني الذي تشجّعه الدولة إلى مستوى جديد مع دفع المواقف الغربية تجاه الصين إلى مستوى معقد جديد. وقد أدى هذا المزيج المؤسف بالفعل إلى تقوية الصقور في الصين والدول الغربية على حد سواء، بينما أولئك الذين يدافعون عن المشاركة والتعاون يفقدون حججهم أمام دعاة المنافسة الاستراتيجية والفصل الاقتصادي.

في المقابل، يعتقد مراقبون آخرون أن الجائحة قدّمت إلى العالم تحذيراً بشأن ضرورة اتباع نهج أكثر ترابطاً في مواجهة التهديدات المشتركة، مثل الأوبئة وتغيّر المناخ. فبحسب كمال درويش، زميل برنامج التنمية والاقتصاد العالمي لدى مركز بروكينغز في واشنطن، فإن النطاق الهائل للكارثة والتهديد بمخاطر كبيرة أخرى، تضفي مصداقية على الدعوات الدولية إلى ضرورة تعزيز التعاون.

إنجي مجدي

اندبندت عربي