ثمة فرضية واسعة الانتشار في أوساط اليسار الأمريكي بصفة خاصة، ترافقت مع صعود نجم جو بايدن وتكريسه كمرشح للحزب الديمقراطي؛ مفادها أنه، على نقيض المنطق المألوف للانقسامات الإيديولوجية الأمريكية، الشخصية المفضلة لدى «مؤسسة الأمن القومي» لأطوار ما بعد دونالد ترامب. وهو، استطراداً، الحاضنة الأكثر ملاءمة لما تبقى من شخوص وتنظيرات تيار عريض بالغ التأثير عُرف في زمن جورج بوش الابن وغزو العراق تحت مسمى «المحافظين الجدد».
ويذكّرنا جيمي سكاهيل، صحافي التحقيقات المتميز ورئيس تحرير الموقع الإخباري الهامّ Intercept، أنّ رحيل ترامب سوف يجرّد تيارات اليمين العنصرية المختلفة من حليف كان يتربع على هرم القرار الأعلى في الولايات المتحدة، وأنّ عدداً غير قليل من سياسات ترامب التي تدغدغ تلك التيارات سوف تتبدّل على نحو أو آخر في عهد بايدن. كلّ هذا صحيح، ولكن ما يتوجب أن يبقى في الذهن هو أنّ انتصار الديمقراطيين تحقق بسبب أرقام الوفيات المرعبة جراء جائحة كوفيد ــ 19 وإدارة ترامب الإجرامية، ولم يتحقق بسبب حماس الناخبين لسياسات بايدن وأفكاره أو سجّله في الوظيفة العامة على مدار نصف قرن: «بالنسبة إلى ملايين الناخبين، لم يكن الخيار بين بايدن وترامب، بل كان تصويتاً على ترامب، واسم بايدن على ورقة الاقتراع كان بمثابة لا رافضة».
لسنا، في المقابل، بحاجة إلى مَنْ يذكّرنا بأن أكثر من 73 مليون ناخب أمريكي صوتوا من أجل إبقاء ترامب أربع سنوات إضافية في البيت الأبيض، رغم معرفتهم بفساد إدارته وعجز سياساتها والتدبير الخطيرة التي اتخذتها، فضلاً عن تشجيع العنف والتيارات العنصرية والكراهية والتفرقة الاجتماعية والإثنية؛ وأنّ الحزب الجمهوري كان، في المقابل، مجرّد صدى يردد أقوال ترامب من دون أيّ وفاء للحدّ الأدنى من القيم التي يرفعها الحزب ويتفاخر بها. الفارق بين بوش الابن وترامب ينحصر، حسب يقين سكاهيل، في أنّ الأوّل سعى إلى جعل الحزب غطاء أو ستاراً أو مرجعية عامة، واكتفى الثاني بتحويل الحزب إلى جمهرة من النوّاب وأعضاء مجلس الشيوخ المصفقين الراضخين الخانعين.
تيار المحافظين الجدد لم يجد في حماقات ترامب ما يشفي غليله، ونفر من مقدار الشعبوية التي اكتنفت التنظير والتبشير قبل السياسة والاقتصاد، والأرجح أنه انتظر عوداً على بدء في شخص بايدن كما يراهن مراقبون كثر
الأسابيع القليلة المقبلة سوف تضع هذه الفرضية، وسواها من آراء تسير على المنوال ذاته، أمام محكّ السياسات الفعلية في ميادين عديدة لعلّ قضايا الشرق الأوسط سوف تكون في طليعتها. ونعرف، سلفاً في الواقع، أنّ رهط المحافظين الجدد، الذين سوف يلتفون حول بايدن من زاوية دفعه إلى إحياء النظرية القديمة بصدد فرض الديمقراطية على شعوب الشرق الأوسط عن طريق القوّة إذا اقتضى الأمر؛ لن يتنازلوا عن قاعدة أخرى مقترنة بهذا الخيار، أي «الغسل الثقافي» لتلك الديمقراطية المصدّرة، على صعيد التراثات والأديان والعقائد، بما يكفل تطهيرها من سلسلة «أدران تاريخية» خلقت نزوعات العداء للولايات المتحدة وإسرائيل والغرب عموماً. في عبارة أخرى، جرت على لسان كبار المحافظين الجدد: إذا توجّب أن تبلغ بلدانُ الشرق الأوسط مستوى في الديمقراطية متقدّماً ومقبولاً ومعترفاً به في الغرب، فإنّ على صندوق الاقتراع ألا يمثّل قناعات المقترعين الفعلية، بل تلك التي تتناسب مع القناعات التي يقبل بها «العالم الحرّ» و»المجتمع الدولي»، تحديداً وحصراً!
وهكذا فإنهم، من جديد وعلى منوال القديم، سوف يطالبوننا بأن نعيش مرحلة الـ»ما بعد» في كلّ شيء، وعلى طول الخطّ: ما بعد الحداثة، ما بعد المجتمع الصناعي، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد الإيديولوجيا، ما بعد الشيوعية، ما بعد التاريخ، ما بعد السياسة، ما بعد «القاعدة» و»داعش» وأسامة بن لادن و»الخليفة البغدادي»… وتلك حال يتوجب أن تبدو أقرب إلى عالم أحادي تماثل وتشابه وتعاقب على ذاته ومن أجل ذاته، حتى بات من المحال ــ وربما من المحرج ــ الحديث عمّا هو سابق لهذا الراهن وذاك اللاحق، عن الـ»ما قبل» أياً كانت الظواهر التي سبقته. كأنّ كل شيء حدث لتوّه، كما يستغرب الباحث الأمريكي دافيد غريس في كتابه المثير «دراما الهوية الغربية»: العالم يخلع أرديته واحدة تلو الأخرى، من العقلانية والرومانتيكية والثورية، إلى تلك الرجعية والوثنية والمحافظة، مروراً بالليبرالية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية.
ولكن، أليس من المشروع إعادة طرح التساؤل القديم، الذي حرّض عليه أقطاب المحافظين الجدد من أمثال كوندوليزا رايس، ديك شيني، إرفنغ كريستول، ريشارد بيرل، بول ولفوفيتز، دوغلاس فيث، ودافيد ورمستر: ألا يصحّ أنّ هذه الديمقراطية المستجلبة، أو أشباهها من ديمقراطيات مفروضة قسراً بفعل الشرط العسكري أو السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي الخارجي، هي بدورها حاضنة شروخات مجتمعية مستندة إلى انحيازات إثنية ومذهبية وطائفية وعشائرية؟ ألا يجوز الافتراض بأنها، أو كأنها، استعادة/ طبق الأصل لكلّ أحقاب الـ»ما قبل» في السرديات الكبرى للحضارة الغربية، من اليونان القديم، إلى روما القديمة، إلى رحلة كريستوفر كولومبوس، إلى عصر الأنوار والحداثة؟
ومن جانب آخر، وحين تقترن هذه المشاهد بما يشبه إصرار الغرب على استحالة المطابقة بين ديمقراطية صندوق الاقتراع وحرّية اليقين الشخصي، ألسنا نشهد اهتزازاً عميقاً في الرؤية الراسخة التي اعتنقها وبشّر بها الغرب معظم القرن الماضي، أو قبله بعقود كذلك؟ ألم تنهض تلك الرؤية على ثلاثة أقانيم جوهرية: الرأسمالية واقتصاد السوق، وحقوق الإنسان كما تقترن وجوباً بالشكل الليبرالي (الغربي ــ الأمريكي) من الديمقراطية العلمانية، وإطار الأمّة ــ الدولة كصيغة هوية معتمدة في العلاقات الدولية؟
وهذه الأقانيم بالذات، الم تكن تكتسي بهيئة مختلفة تماماً حين يتعلق الأمر بمجتمعات وثقافات العالم غير الغربي، أو هي كانت تأخذ أكثر من صيغة توتّر وتناقض مع أية مجموعة من القيم غير الغربية، الأمر الذي ظلّ يفتح باب الاجتهاد حول تصارع حضاري ــ ديني، على طريقة صمويل هنتنغتون؛ أو توتّر هيلليني ــ آسيوي، على طريقة برنارد لويس؛ أو ولادة «الأيديولوجية التالية»، على طريقة غراهام فوللر؟ ألم تنجلِ الأقانيم ذاتها عن هيئة مختلفة حتى في قلب أوروبا، على مبعدة أمتار قليلة من قواعد الحلف الأطلسي، في البلقان الدامي دون سواه؟
فوللر، من جانبه/ لا يغفل الإشارة إلى التهديد الذي تتعرض له الثقافات الوطنية بفعل التعميم القسري للقِيَم الغربية، بوسائط تبادل لا قِبَل لتلك المجتمعات بمقاومتها، مثل ذلك التصدير الأخطبوطي الجبّار للسلعة الثقافية (الكتاب والفيلم والأغنية ونوع الطعام واللباس والدواء)؛ وصناعة الرمز الثقافي الأعلى الأشبه بالأسطورة في ذلك كله (بحيث تتحوّل شطيرة الـ»بيغ ماك» إلى رمز للجبروت الأمريكي السياسي والاقتصادي والعسكري، ليس في بلدان مثل الهند وماليزيا ومصر فحسب، بل حتى في بلد مثل فرنسا أيضاً). ونتذكّر في هذا الصدد أنّ صدام الحضارات، كما شخّصه هنتنغتون في البدء، لا يدور بين يسوع ومحمد وكونفوشيوس، بل حول التبادل غير المتكافىء للقوّة والثروة والنفوذ، وتهميش الأطراف لصالح المركز (الغربي بالضرورة) وتحويل الثقافة إلى وسيط للتعبير عن الأزمة بدل أن تكون سبباً فيها.
الثابت، في خلاصة القول، أنّ تيار المحافظين الجدد لم يجد في حماقات ترامب ما يشفي غليله، ونفر من مقدار الشعبوية التي اكتنفت التنظير والتبشير قبل السياسة والاقتصاد، والأرجح أنه انتظر عوداً على بدء؛ في شخص بايدن كما يراهن مراقبون كثر، ولا عزاء للمراهنين في العالم العربي على تحولات ملموسة لخيارات البيت الأبيض المقبلة، فكيف بانعطافات كبرى فارقة.
صبحي حديدي
القدس العربي