ثمة القليل، إذا كان ثمة شيء، من الاحتفالات المخطط لإقامتها لإحياء الذكرى العاشرة للانتفاضات التي اجتاحت العالم العربي في أواخر العام 2010 وأوائل العام 2011. ويبدو أن أيام الشاشات التلفزيونية المليئة بصور الحشود التي تهتف، “الشعب، يريد، إسقاط النظام”، أصبحت وكأنها جزء من تاريخ قديم. وقد تحطمت الآمال المبكرة بالتغيير الثوري بعد اصطدامها بالقوة الفظة للانقلابات العسكرية، والحروب الأهلية، والدول المنقسمة. وفي العام 2021، ربما يكون هناك القليل ممن يعتقدون، عالميًا، بشيء سوى أن الانتفاضات العربية قد فشلت.
ومن السهل فهم السبب في جاذبية هذه الفكرة التي روجت لها بحماس الأنظمة الاستبدادية والواقعيون في السياسة الخارجية على حد سواء. وهي تعني عودة إلى العمل كالمعتاد. وقد قبلت كل من إدارتي أوباما وترامب ضمنيًا بهذا الرأي، وحولتا أنظارهما إلى أهداف أخرى في المنطقة -الأولى إلى المفاوضات النووية مع إيران، والأخيرة إلى تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل.
ومع ذلك، فإن هذا الاعتقاد هو الأحدث فقط في واقع الأمر في سلسلة من الاستنتاجات المتسرعة السابقة لأوانها. قبل العام 2011، اعتبر معظم المحللين استقرار أنظمة استبدادية عربية شأناً مفروغاً منه. وكان هذا خطأ. وبينما أدى الضغط الشعبي إلى طرد أربعة قادة ظلوا طويلاً في السلطة -زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن- اندفع بعض المراقبين إلى افتراض أن موجة لا يمكن وقفها من الديمقراطية قد وصلت أخيراً؛ وحذر آخرون من أن التحول الديمقراطي في المنطقة سيفتح الباب أمام هيمنة إسلامية. وكلتا الرؤيتين كانتا خاطئتين. وفي العام 2012، اعتقد معظم المراقبين أن نظام بشار الأسد السوري قد انتهى. وكان هذا خطأ أيضاً. وفي العام 2013، جادل معلقون بأن الأحداث ستعيد مصر إلى مسارها نحو الديمقراطية. وكان هذا الاستنتاج خاطئاً مرة أخرى.
في خضم اللحظة الثورية التي تشكلت قبل عقد من الزمان، شعرتُ شخصياً وكأن المنطقة قد تغيرت إلى الأبد. فقد تحطم جدار الخوف الأوتوقراطي، وبدا مقدّراً للمواطنين العرب الممكّنين أن لا يتسامحوا أبداً مع الحكم الاستبدادي مرة أخرى. لكنّ تلك الآمال تحطمت في غضون سنوات قليلة فقط. انهارت التحولات الهشة في ليبيا واليمن لتتحول إلى حروب أهلية. وسقطت سورية في مزيج مرعب من التمرد والحرب الدولية بالوكالة. وفي نهاية المطاف، عاد قادة في المنطقة إلى الحكم بنفس الطرق السابقة.
ومع ذلك، يبدو الإجماع على أن الانتفاضات العربية انتهت بالفشل سابقاً لأوانه بالمثل، ومن المرجح أن يثبت خطأه هو الآخر في الوقت المناسب. لا ينبغي قياس آثار الانتفاضات بالأنظمة التي أطيح بها أو بإجراء انتخابات ديمقراطية، على الرغم من أن سجلها في هذه المجالات ليس قليلاً. إن جلوس نفس النوع من القادة مرة أخرى على عروش الشرق الأوسط بعيد كل البعد عن أن يكون دليلاً على فشل الانتفاضات. لم تكن الديمقراطية سوى جزء واحد فقط من مطالب المحتجين. كانت الحركة الشعبية منخرطة في صراع امتد لأجيال، والذي رفضت فيه نظامًا إقليميًا لم ينتج عنه سوى الفساد، والحكم الكارثي، والفشل الاقتصادي.
وفقًا لهذا المعيار، أعادت الانتفاضات بعمق تشكيل كل بُعد يمكن تصوره للسياسة العربية، بما في ذلك المواقف الفردية، والأنظمة السياسية، والأيديولوجيات، والعلاقات الدولية. وقد تخفي أوجه التشابه السطحية مدى التغيير، لكن الشرق الأوسط اليوم سيكون غير قابل للتمييز بالنسبة للمراقبين في العام 2010. فقد ضمنت القوى التي انطلقت في العام 2011 فعليًا أن يشهد العقد التالي تحولات أكثر عمقًا -تغييرات من شأنها إرباك أي سياسة قائمة على العودة إلى الطرق القديمة.
ما الذي حدث حقّاً؟
الآن، بعد عقد من الآمال المحطمة، من السهل أن ننسى مدى قوة ومفاجأة اللحظة الثورية التي بدأت في كانون الأول (ديسمبر) 2010 حقًا. بحلول أواخر العام 2010، كان من الواضح أن العالم العربي يعاني من إحباط شعبي متراكم وتفاوت اقتصادي متزايد، لكن حكام المنطقة اعتقدوا أنهم قادرون على سحق أي تهديد محتمل. وكذلك فعل الأكاديميون الذين يدرسونهم والناشطون الذين يواجهونهم.
لم يكن أحد مستعدًا لاستيعاب الحجم الهائل والسرعة والكثافة التي ميزت الاحتجاجات التي اندلعت في وقت واحد في جميع أنحاء المنطقة. وقد سرّعت المحطات الفضائية العربية، مثل قناة “الجزيرة”، ومنصات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” و”تويتر”، تلك العملية، وبثت الصور والأفكار والعواطف بسرعة عبر الحدود. والأنظمة التي كانت مستعدة جيدًا للتعامل مع الاضطرابات المحلية المنعزلة، سرعان ما طغت عليها الأعداد الهائلة من المواطنين الذين اجتاحوا الشوارع ورفضوا مغادرتها. وعندما رفضت بعض الجيوش قتل مواطنيها من أجل الدفاع عن رؤسائها المحاصرين، أعلن الشعب النصر.
أدت تلك الانتصارات التي تحققت في تونس ومصر، حيث نجحت الاحتجاجات الجماهيرية في طرد المستبدين الراسخين وتمهيد الطريق للانتخابات، إلى تعبئة المتظاهرين في البلدان العربية الأخرى. ومن الصعب استعادة سحر ذلك الوقت؛ ذلك الإحساس الجديد بروح المجتمع الذي تشكل في فوضى ميدان التحرير في القاهرة، وشارع الحبيب بورقيبة التونسي، وساحة التغيير اليمنية وغيرها من الساحات. في ذلك الحين، بدا كل شيء ممكناً. وبدا التغيير حتمياً لا مفر منه. وكان الأوتوقراطيون يركضون خائفين، ولا شيء -لا الدعم العسكري الأميركي، ولا الأجهزة الأمنية التي كانت تبدو ذات يوم قاهرة لا تُقاوم، ولا مخاوف المتظاهرين وانقساماتهم- بدا قادراً على وقف الحركة الشعبية.
ولكن، لم يستطع أي بلد آخر أن يسلك نفس الطريق الذي سلكه الرواد التونسيون والمصريون. فقد دعمت القوى الإقليمية الأنظمة القديمة في جهودها لتدمير الانتفاضات، ولم يفعل الغرب شيئًا لوقف هذه الجهود. واعتمدت الحكومات الفقيرة، مثل الأردن والمغرب، على الدعم المالي والسياسي من دول الخليج للتغلب على حركاتها الاحتجاجية الأصغر، مع إقرار إصلاحات متواضعة لإرضاء مواطنيها. وألّب معمر القذافي في ليبيا القوة الكاملة لجيشه على المتظاهرين، مما أدى إلى تصعيد سريع بلغ ذروته في الحرب الأهلية والتدخل الدولي. وسقط اليمن في مأزق طويل ودموي مع انقسام جيشه بعد أشهر من الاحتجاجات.
بينما استمرت الصراعات وتراجع الزخم الثوري، انتصرت في النهاية الميزة العسكرية والمالية الساحقة لمعظم الأنظمة. ثم سعت الحكومات الباقية إلى الانتقام ومعاقبة النشطاء الذين تجرأوا على تحدي حكمها. وكانت تهدف إلى استعادة الخوف وسحق الأمل. ولم تفعل الولايات المتحدة الكثير للوقوف في الطريق.
ولم يكن هذا الانقلاب في الحظوظ أكثر وضوحًا مما هو في سورية. هناك، تصاعد ما بدأ كحركة احتجاجية سلمية ضد حكومة الأسد ببطء إلى حرب أهلية عندما قام النظام بقمع المتظاهرين بعنف. وكانت لانزلاق البلاد إلى الصراع تكاليف لا تعد ولا تُحصى: مئات الآلاف من القتلى، وملايين اللاجئين، وانتشار الأشكال الفتاكة الجديدة من الطائفية، وتنشيط الحركات المتشددة. ووفرت الفظائع التي حدثت في سورية فزاعة مفيدة للحكام المستبدين. وأصبحوا يشيرون إلى هذا على أنه ما قد يحدث لكُم إذا عدتم إلى الشوارع.
وبحلول العام 2013، وبسبب انزلاق سورية في الفوضى والإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي، ترسخ إجماع جديد. لقد انتصر النموذج القديم، وفشلت الانتفاضات، وتحول الربيع العربي إلى شتاء عربي.
الإسلاميون
ثمة القليل من الديناميات الأخرى التي يمكن أن توضح الآثار التحويلية للانتفاضات أفضل من حظوظ الجماعات الإسلامية السائدة. فقد تم الترحيب بالإسلاميين في الأصل باعتبارهم لاعبين مهمين في الأنظمة الديمقراطية الجديدة، لكن العديد منهم تعرضوا للقمع في نهاية المطاف على يد الأنظمة الناشئة، أو أنهم كافحوا للملاحة وتلمُّس الطريق في الديمقراطيات الانتقالية. وقد أضاف هذا المسار القوسي المزيد إلى تعزيز الشعور بأن الانتفاضات قد فشلت.
في العقد الذي سبق العام 2011، كان الإسلاميون المرتبطون بجماعة الإخوان المسلمين، الحركة المؤثرة التي تأسست في مصر في عشرينيات القرن الماضي، هم القوة المعارضة المهيمنة في العديد من الدول العربية. وقد جعلتهم مهارتهم التنظيمية، وقدرتهم على تقديم الخدمات الاجتماعية، وسمعتهم كأناس متّسمين بالنزاهة، واستخدامهم النداء الديني، قوة سياسية هائلة. وابتداءً من التسعينيات، أنتج مفكرو الإخوان حججًا متقنة لإثبات توافق الإسلام مع الديمقراطية، وانتقدوا الحكم الاستبدادي للأنظمة العلمانية القائمة.
لم يلعب الإسلاميون دورًا مهمًا في الأيام الأولى للانتفاضات. في تونس، كانت الحكومة قد أقصت هذه الجماعات إلى حد كبير من الحياة العامة. وفي مصر، انضم الإسلاميون إلى احتجاجات ميدان التحرير في وقت متأخر. ولكن عندما أتيحت لهم الفرصة، دخل الإسلاميون بسرعة إلى الساحة السياسية. وحقق حزب النهضة في تونس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر انتصارات هائلة في أول انتخابات انتقالية في هذين البلدين. وشكل نظيرهما في المغرب، حزب العدالة والتنمية، سلسلة من الحكومات بعد انتصاراته الانتخابية في العامين 2011 و2016. وانضم الإسلاميون الليبيون أيضًا إلى اللعبة الانتخابية -ولو بنجاح أقل. ولعبت جماعة الإخوان المسلمين السورية دورًا تنظيميًا حاسمًا، معظمه من الخارج، في الانتفاضة ضد بشار الأسد. وبحلول العام 2012، بدا أن الإسلاميين في صعود.
لكن هذه الجماعات أثبتت كونها أهدافاً جذابة لحملات القمع الاستبدادية وسياسات القوة الإقليمية أيضاً. وقامت الأنظمة بتسويق رد الفعل المعادي للديمقراطية بعد العام 2011 في الغرب، جزئيًا كرد فعل على استيلاء الإسلاميين المزعوم على السلطة. وقد استخدم الجيش المصري مثل هذه الحجج لإضفاء الشرعية على أحداث تموز (يوليو) 2013. وتبنّى حزب النهضة في تونس استراتيجية تقوم على التقييد الذاتي؛ فتنحى رئيس وزرائه لصالح تكنوقراطي لنزع فتيل الصراع السياسي المتصاعد بسرعة. وبدأت بعض الدول التي اعتبرت جماعة الإخوان المسلمين تهديدًا لها في قمع الحركة وإعلانها منظمة إرهابية. ورداً على ذلك، كثفت دول أخرى في الإقليم دعمها للمجموعة، ورحبت بأعضائها الفارين من القمع، وقدمت المساعدة للفروع التي ما تزال نشطة على الأرض في ليبيا وأماكن أخرى.
بدلاً من الفوز باللعبة الديمقراطية، فشلت معظم الجماعات الإسلامية بفضل مزيج من أخطائها الخاصة والقمع الحكومي. ولم تعد جماعة الإخوان المسلمين المصرية -الأكبر والأكثر نفوذاً من بين تلك الجماعات- موجودة في شكل يمكن التعرف عليه. ويقبع عشرات الآلاف من أعضائها في السجون، وقادتها الباقون إما ماتوا أو يعيشون في المنفى، وأموالها صودرت على يد الحكومة المصرية. وفي بلدان أخرى، قطعت الحكومات شوطًا طويلاً نحو تفكيك جماعة الإخوان، وتركتها مجزأة ومنقسمة. وفقد حزب العدالة والتنمية الإسلامي المغربي بريقه بعد سنوات من الحكم في ظل القيود التي وضعها النظام. وتبرأ حزب النهضة التونسي بوضوح من الإسلاموية، وأعاد تعريف نفسه باعتباره حزباً يعتنق مبدأ الديمقراطية الإسلامية. وباستثناء الكويت، بالكاد تعمل الحركات الإسلامية في معظم دول الخليج. وأصبح الإسلام السياسي السائد الحديث الآن ظلاً لما كان عليه في السابق.
وللإسلاموية العنيفة قصة أخرى. في البداية، تفاجأ تنظيم القاعدة وأمثاله من الانتفاضات. وجعل النجاح السريع للاحتجاجات السلمية الحجة القائلة بأن الجهاد العنيف وحده هو الذي يمكن أن يحدث التغيير تبدو متطرفًة. لكن الحرب السورية أنقذتهم. في وقت مبكر من الصراع، أطلق الأسد سراح كادر من المتشددين من السجن في محاولة لتصوير الحرب على أنها صراع ضد الإرهاب. وانضمت إليهم لاحقًا فلول ما كان يعرف آنذاك بتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، والذي نقل بعض قادته ومقاتليه إلى سورية للانضمام إلى المعركة ضد الأسد. ومع تحول الانتفاضة إلى تمرد، قامت الحكومات من داخل المنطقة وخارجها بنقل الأسلحة والأموال إلى الجماعات المتمردة. وعلى الرغم من أن الحكومات الغربية حاولت فحص المساعدات وتوجيهها نحو الشركاء المعتدلين، أظهر بعض الآخرين القليل من ضبط النفس. وقد وجهت بعض الدول العربية وتركيا المساعدة إلى الجماعات الإسلامية المسلحة وغضت الطرف عن الدعم المالي الخاص الذي أرسله مواطنوها لأطراف الصراع. وذهبت هذه الأموال في أغلبيتها الساحقة إلى الجماعات الأكثر تطرفاً، مما أدى إلى قلب التوازن داخل التمرد.
وجاء رد الفعل بسرعة. في العام 2013، انقسم الإسلامويون المتشددون في سورية بدايةً حول إعلان إقامة “الدولة الإسلامية في العراق وسورية”، أو “داعش”، لكن التنظيم سرعان ما وجه أسلحته ضد بقية المعارضة. واجتاح “داعش” شرق سورية وغرب العراق، ومحا الحدود وأعلن نفسه –بطريقة مسرحية- دولة الخلافة الجديدة. وأدت الحملة الذكية التي أدارها التنظيم على وسائل التواصل الاجتماعي ورسائله المروعة بطريقة استثنائية، إلى جانب نجاح عسكري واضح حققه على الأرض، إلى اجتذاب عشرات الآلاف من المؤيدين إلى صفوفه وألهم الهجمات في الخارج. ووجدت الحركات الإسلامية السائدة نفسها الآن محاصرة بين رفضها طويل الأمد للجهاد العنيف وبين حماس جمهورها للجماعات المتشددة العنيفة مثل “داعش”. كيف يمكن لجماعة الإخوان المسلمين المصرية أن تستمر في الدعوة إلى السياسة السلمية بينما لم تؤد مشاركتها الانتخابية سوى إلى تعرضها لقمع شرس وكارثة تنظيمية، بينما حقق عنف “داعش” نتائج مذهلة؟
الآن، بعد عقد من اندلاعها، أعادت الانتفاضات تشكيل الحركات الإسلامية بشكل جذري. فقد ارتفعت حظوظ المنظمات التي شاركت في السياسة الانتخابية الرسمية أولاً، ثم انهارت وتحطمت. وفي المقابل، عانى المتشددون من نكسات خطيرة، لكنهم ما يزالون يشكلون قوة سياسية وأيديولوجية قابلة للحياة: مع بقاء عدد قليل من الحركات الرئيسية كصمامات أمان، والصراعات الراسخة المتخندقة التي توفر فرصًا كبيرة للتعبئة، ما يزال قيام المزيد من التمردات الجهادية ممكناً.
مارك لينش
أفورين أفيرز