لم تكن السنة التي ودَّعنا قبل أيام سنة مَسَرَّاتٍ، ولا سنة تدارُكٍ لما فات، في مختلف قضايا الحاضر والمستقبل العربي، قَدْر ما كانت سنة أحزانٍ وتراجعات، سنة عرفت تَفَشِّي وباء كورونا، بمختلف تداعياته، وأبرزها تحويله مسارات أنظمة العيش وأنماطه في مجتمعاتنا. وإذا كان التاريخ يُعلمنا أن الأوبئة تحضر ثم تتقلَّص أو تختفي، وأنها في بعض أوجُهها تُعَدُّ من نتائج كيفيات تفاعلنا مع الشروط الطبيعية التي نحيا في إطارها، إلا أن فيروس كورونا المستجد تَمظهرَ من خلال تحولاتٍ جعلت مهمة إيجاد العلاج المناسب له مسألة معقَّدة.
دفع الوباء البشرية إلى الحجْر الصحي والتباعد الجسدي والاجتماعي، وعَطَّل فضاءات الإنتاج والاستهلاك، كما عَطَّل مرافق الحياة في التعليم والعمل، وفي الحياة والموت. أوقف الأفراح وَقنَّن الأتْرَاح، ومارس سطوته بقسوةٍ كثيرة في مختلف أوْجُه الحياة .. وقد استطاع الإنسان، خلال أشهر السنة المنصرمة، مواجهة مختلف التكاليف التي فرضها الوباء، وبدأ التطلّع إلى مغالبته يظهر في مطالع السنة الجديدة، فهل ستكون 2021 فعلاً سنة اختفاء فيروس كورونا؟ أم أن الأحاديث التي بدأت، في الأيام الأخيرة، عن الفصيلة الجديدة ﻟﻟفيروس، ستغرقنا من جديد في دروب مواصلة مقاومة حضوره وتحولاته؟
لم يكن وباء كورونا وحده العلامة البارزة سنة 2020، بل إن أحداثاً أخرى تنتمي إلى المجال السياسي والحربي صاحبته، الاندحارات العربية المتواصلة أمام الهجومات العدوانية لإسرائيل، في فلسطين أو في غيرها في العالم العربي. ذلك أن الحروب الإسرائيلية العربية لم تتوقف، بل تنوعت وتواصلت، وهي تجري اليوم من طرفٍ واحدٍ ضد المجموعة العربية بوسائل ووسائط جديدة .. ومنذ إعلان أوسلو المسمى اتفاق المبادئ، حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي سنة 1993، لم تتوقف الحرب، بل إن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية استغلت مظاهر الخراب والتفكّك القائمة في المجتمعات العربية، المترتبة في كثير من أوجُهها عن تداعيات الثورات العربية والثورات المضادَّة، كما استغلت واقع الانقسام الفلسطيني، وانخرطت بقوة بجانب بعض القِوَى الدولية والإقليمية الغازية، محاولة إنجاز اختراقاتٍ جديدة، بغرض وقف الطموح العربي في التحديث والتقدّم. وكانت النتيجة المتصلة بكل ما ذكر تتمثل في بداية التلويح بما أصبح يعرف اليوم بصفقة القرن، التسمية الجديدة لشرق أوسطٍ جديد، يمنح الكيان الصهيوني الشروط المناسبة لاختراق أوسع للجغرافية العربية كاملة. وضمن هذا الإطار، انطلقت إجراءات مسلسل التطبيع، معاهدة أولى مع دولتين في الخليج، وثانية مع السودان، وثالثة مع المغرب، وقد حملت هذه العهود مبرّرات وشعارات ومصالح متبادلة، إلا أنها جميعها منحت إسرائيل وحدها ما كانت تبحث عنه، وضاعفت مآزق الوضع العربي والقضية الفلسطينية.
تلتقي خيارات المطبِّعين القدامى والجُدد، ومن يتهيأ من البقية الباقية للتطبيع، تلتقي في مَنْح الصهيونية جواز اختراق فعلي للوطن العربي، كما تلتقي في مسألة تخلِّيها عن القضية الفلسطينية
ما يجري اليوم في المراكب الجديدة للمُطَبِّعِين الجدد والقدامى نقلنا إلى مستوى آخر من التطبيع ميزته الكبرى تتمثل في قدرة أصحابه على جمعهم اللفظي بين التطبيع مع إسرائيل وإعلانهم في الآن نفسه، دعمهم للقضية الفلسطينية ولقرارات المنتظم الدولي في موضوعها! وذلك على الرغم من معرفتهم بأن إسرائيل ترفض قرارات المنتظم الدولي، وتتطلع إلى مزيدٍ من استيطان، وَضَمّ ما تبقى من فلسطين، لعلها تتمكّن من بناء شرق أوسط جديد، يكون لها فيه ما تتطلع إليه من أحلام توسعية، حيث تَحُطُّ الرِّكَاب اليوم في الخليج العربي، وجنوب مصر وسط أفريقيا، ثم المغرب العربي.
يُترجم التطبيع اليوم بنود صفقة القرن التي أعلنها ترامب، ورَتَّب بنودها وإجراءاتها مستشاره في مؤتمر المنامة، يونيو/ حزيران 2019، حيث بدأت خطوات التنفيذ سنة 2020، سنة منحت إسرائيل صِفة الدويلة الجامعة لدول عربية عديدة بعهود ومقايضات يقودها ويرتب أوراقها الحليف الأكبر لتاريخها في قلب ديارنا. يتعلق الأمر، بالذات، بتحوُّل دُوَيْلة المشروع الصهيوني المُغْتَصِبَة لفلسطين إلى عنصر جَذْبٍ لعربٍ لم يعد بإمكانهم أن يفكّروا، ولا أن يعملوا ولا أن يختاروا، فقرّروا التبعية المعلنة، وشكلت إسرائيل مع القِوَى الدولية المكلفة بحراسة مواردهم، والقِوَى الإقليمية المحيطة بهم جغرافياً وتاريخياً والمتربصة بهم، الملاذ المنقذ الذي لا يتردّد أحدٌ منهم في اللجوء إليه، هرباً من عدم قدرتهم على مجابهة أحوالهم التي رَتَّبوا ورَكَّبُوا ملامحها بأفعالهم. لكن كيف انتقلت دولة الاستيطان المغتصِبة، من دولة استعمارية إلى قوة جذبٍ في المشرق والمغرب العربيين؟
أضاف العرب إلى أجواء الانقباض النفسي الذي فرضه عليهم الوباء، انقباضاً آخر
تلتقي خيارات المطبِّعين القدامى والجُدد، ومن يتهيأ من البقية الباقية للتطبيع، تلتقي جميعها في مَنْح الصهيونية جواز اختراق فعلي للوطن العربي، كما تلتقي في مسألة تخلِّيها عن القضية الفلسطينية، على الرغم من كل ما يُقال عن المواثيق واتفاقات الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد أُبْرِمَت منذ سنوات وتَمَّ التنصيص فيها على مبادئ تصون حقوق الشعب الفلسطيني في الدولة المستقلة وعاصمتها القُدْس، وغير ذلك من الحقوق التي تحوِّلها أشكال التطبيع المتواصلة إلى مجرّد سَراب.
يبدأ العرب سنة جديدة، وقد أضافوا إلى أجواء الانقباض النفسي الذي فرضه عليهم الوباء انقباضاً آخر بمواصفاتٍ سياسيةٍ وتاريخية، حيث تواصل إسرائيل، بمعية حلفائها الدائمين، وكل من يعنيهم أمر التفكّك العربي من القِوى العِرقية والطائفية داخل بلدانهم، الأمر الذي ستكون له انعكاساتٌ قويةٌ في مسألة شروط وجودهم، وفي تطلعاتهم إلى التحرُّر والتقدُّم .. نحن هنا نُمَاثِل مشروع التحرُّر الفلسطيني بمشروع التحرّر والنهوض العربي، وذلك لإيماننا المتواصل بضرورة مواصلة العمل من أجل وقف ما سطَّره المعسكر الأميركي الصهيوني في “صفقة القرن”.
كمال عبداللطيف
العربي الجديد