تابع العالم بذهول كبير، أحداث يوم اقتحام أنصار للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمبنى الكابيتول، مركز مجلسي النواب والشيوخ، بدءا من وقوف ترامب بين أولئك الموالين له، حيث استمرّ بتكرار مزاعمه حول «سرقة» الرئاسة منه، ومهاجما، كالعادة، كل من يخالفونه، بمن فيهم نائبه الحالي مايك بنس، لأنه رفض استخدام موقعه كرئيس لمجلس الشيوخ لعرقلة تنصب الرئيس الفائز جو بايدن، وقضاة المحكمة العليا، التي لم تستجب لطلباته باستخدامها لمنع وصول خصمه جو بايدن للرئاسة، رغم أنه عمل على مدى السنوات الماضية على زيادة عدد المحافظين المؤيدين له داخلها.
ترامب، الذي رفع منذ فترة حملاته الانتخابية عام 2016 شعار «فلنرجع أمريكا عظيمة مجددا» تمكن، خلال «غزوة الكونغرس» من تسديد أكبر الضربات المهينة لصورة الولايات المتحدة الأمريكية كدولة ديمقراطية، بتحريض المتطرّفين من أنصاره على الهجوم على مركز إصدار القوانين وتمثيل الأمة الأمريكية، وأحد أهم المواقع الرمزية للعظمة التي يتغنى بها، وبإهانته كل عناصر هذه العظمة، بدءا من مؤسسة الرئاسة نفسها، التي أصبحت، خلال حكمه، مركزا لإطلاق الأكاذيب، وإثارة الغرائز، وتحريض قسم من الشعب على القسم الآخر، مرورا بالمحكمة العليا، المنوطة بحماية الدستور والقوانين، ومجلسي النواب والشيوخ، اللذين تعرضا للاقتحام، ولمحاولة التلاعب بهما بكافة الأشكال الممكنة، ومرورا بالقضاء والأجهزة الحكومية، والمؤسسات الأمنية، وانتهاء بالإعلام، الذي كان محطا لهجماته وإساءاته.
حفلت عملية الاقتحام بإشارات رمزيّة كبيرة، منها رفع أنصار ترامب لعلم الولايات الانفصالية خلال الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1864) وظهر أحد المقتحمين داخل الكابيتول واقفا أمام لوحة سياسي كان من أبرز المدافعين عن العبودية كما ظهر بعض الأنصار حاملين علم إسرائيل، وجلس آخر في مكتب رئيس مجلس النواب، الديمقراطية نانسي بيلوسي، وكتب بعضهم على أحد الأبواب «اقتلوا الإعلام» وكلّها رسائل مبطّنة تدعو للحرب الأهلية وإعادة العبودية ومناصرة إسرائيل واحتقار الديمقراطية والإعلام.
أشكال التعبير الأولى عن هذه الكارثة التاريخية الأمريكية يمكن تلمسها من تعليقات بعض مسؤولي الأنظمة الدكتاتورية، الذين وجدوا في هذه الأحداث مناسبة لتبرير قمع شعوبهم، وللسخرية من النظم الديمقراطية، كما فعل رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما الروسي الذي قال إن الولايات المتحدة «لن تكون قادرة بعد الآن على فرض وتحديد معايير الانتخابات في الدول الأخرى» فيما علّق مسؤول صيني مشبّها ما حصل من اقتحام للكونغرس بالاحتجاجات الشعبية ضد بكين في هونغ كونغ، بل إن بعض أنصار الاستبداد العربيّ وجدوا في ما حصل مناسبة للتشنيع على الحراكات العربية وأشكال الاحتجاج ضد الأنظمة المتسلطة والفاسدة.
انتبه بعض المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين لهذه النقطة، فأشار وزير الخارجية الألمانية هايكو ماس إلى أن «أعداء الديمقراطية سيسعدون برؤية هذه الصور المروّعة» وكان بعضهم أكثر دقة بتحميله المسؤولية مباشرة لترامب، كما فعل وزير الخارجية الأيرلندي سيمون كوفيني، الذي وصف ما حصل بـ»اعتداء متعمد على الديمقراطية من قبل رئيس حالي» ورئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا أردرن التي قالت إن «الديمقراطية لا ينبغي أبدا إبطالها على يد الغوغاء».
إضافة إلى كلمات العار والفوضى والانقلاب، التي استخدمتها وسائل الإعلام العالمية لتوصيف ما فعله ترامب وأنصاره، وإغلاق وسائل التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر وانستغرام لحساباته، ودعوات نواب لعزله قبل أسبوعين من انتهاء ولايته باعتباره «مريضا عقليا» واقتراح آخرين لسجنه في غوانتانامو، لا بد أن كثيرين في العالم كانوا يأملون في انتهاء «إنجازات» ترامب، الذي بدلا من «إعادة أمريكا عظيمة» فقد أصبح الرئيس الأول منذ 90 عاما، الذي يخسر محاولة الاستمرار في الرئاسة لولاية ثانية والأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، وختم حكمه بهذه الطريقة المريعة.
القدس العربي