الإعلان الإيراني عن إنتاج أول كمية من اليورانيوم المخصب بدرجة 20 في المئة من منشأة فردو، وبدء العمل لبناء 1000 جهاز طرد مركزي من نوع IR2m وIR6 وتركيبها في هذه المنشأة في الأشهر المقبلة، يأتي في الظاهر وكأنه استجابة من الحكومة الإيرانية لقانون “الخطوات الاستراتيجية لإلغاء العقوبات”، الذي هرّب البرلمان إقراره بعيداً من مناقشته مع السلطة التنفيذية المعنية بتطبيقه، والذي تسبب في ظهور أزمة حقيقية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، استدعت من المرشد الأعلى للنظام التدخل لوقف المعركة الكلامية والقطيعة التي حصلت بين رئيسي الجمهورية حسن روحاني والبرلمان محمد باقر قاليباف على خلفية تنازع السلطات، ودعوتهما للحوار الداخلي الذي يُعتبر من القضايا الأساسية والمهمة قبل التفكير بالحوار مع الخارج وتحديداً الولايات المتحدة، والتفاوض معها حول الاتفاق النووي وإلغاء العقوبات الاقتصادية.
الوجه الآخر للإعلان عن تحقيق هذا المستوى من التخصيب يبدو أكثر انسجاماً مع ما سبق لروحاني أن أعلنه قبل حوالى شهرين، عندما كشف عن الخطوة الأخيرة من الخطوات التي أقرتها الحكومة والمجلس الأعلى للأمن القومي المتدرجة لتقليص وخفض التزاماتها بالتعهدات التي جاءت في الاتفاق النووي، وذلك بالاعتماد على المادة 26 و36، التي تسمح لأي طرف من أطراف الاتفاق اللجوء إلى خطوات خفض الالتزامات إذا ما أقدم أي من الأطراف على الإخلال بما جاء في الاتفاق.
الخطوة الأخيرة جاءت على مرحلتين، تضمنت الأولى البدء بتركيب أكثر من سلسلة من أجهزة الطرد المركزي المتطورة من نوع IR2m وIR6 في منشأة فردو، وإعدادها لاستقبال غاز الهكزافلوريد اليورانيوم، ليتم لاحقاً تخصيبه عند تنفيذ المرحلة الثانية من هذه الخطوة، والتي يبدو أنها دخلت حيّز التنفيذ بالتزامن مع اقتراب موعد خروج الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب من البيت الأبيض ودخول الرئيس الجديد جو بايدن.
ما يرجح أن الإعلان جاء في سياق خطوات تخفيض الالتزامات وليس استجابة للقانون الذي أقره البرلمان، إن المراسيم التطبيقية التي أصدرها رئيس الجمهورية لم تضع شرطاً ملزماً للمؤسسات المعنية بما جاء في هذا القانون للبدء في تطبيقه، إنما ترك التنفيذ لتقدير هذه المؤسسات لقدراتها وحاجة الحكومة وهيئة الطاقة الذرية الإيرانية لتطوير العمل في البرنامج النووي. فضلاً عن التصريحات التي صدرت عن رئيس منظمة الطاقة النووية نائب رئيس الجمهورية علي أكبر صالحي، التي تحدث فيها عن افتقار هذه المنظمة للأموال والاعتمادات اللازمة التي تساعدها في تطبيق مفاد القانون الجديد، وهذا ما تكشف عنه الإشارة الصادرة عنه حول تصنيع أجهزة طرد مركزي جديدة من نوع IR6 المتطورة حال توافر الاعتمادات اللازمة لأن كلفتها كبيرة وعالية والمنظمة لا تملك القدرة على ذلك حالياً.
إيران والعودة إلى تخصيب التفاوض
والتوقيت الإيراني في تطبيق هذه الخطوة وتنفيذها، قد يصب في إطار المساعي الإيرانية للتأثير في الإدارة الجديدة للبيت الأبيض ورئاسة بايدن، ودفعها لإعادة النظر في ترتيب أولوياتها في الملفات الدولية بعد استلامها للسلطة في الـ20 من يناير (كانون الثاني) الحالي، خصوصاً في ظل الحديث عن إمكانية أن تضع هذه الإدارة مسألة التعامل مع الأزمة الصينية على رأس اهتماماتها، قبل الأزمة الإيرانية. لجهة أن أي تأخير في فتح ملف هذه الأزمة وبحث إمكانية وشروط العودة إلى الاتفاق النووي، سيسمح لإيران برفع حجم مخزونها من اليورانيوم المخصب بدرجة 20 في المئة، ما بين ثمانية إلى تسعة كليوغرامات في الشهر، إضافة إلى أن تسريع طهران عملية تركيب أجهزة طرد جديدة من نوع IR6 سيسهل عملية نقل التخصيب إلى مستويات أعلى بسرعة أكبر. ومن جهة أخرى، فإن تداعيات التصعيد العسكري الذي سترثه هذه الإدارة من سالفتها، يضع منطقة الشرق الأوسط على حافة الانفجار، خصوصاً أن الحليف الرئيس لواشنطن في هذه المنطقة، أي إسرائيل، لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تقوم به طهران من السير باتجاه إمكانية عسكرة برنامجها النووي، بالتالي ستكون واشنطن مجبرة على تقديم الملف والأزمة الإيرانية على غيرها من الأزمات، فضلاً عما لهذه الخطوة من تأثير على أوضاع دول المنطقة غير المستقرة والتي تعيش حالة من القلق المتزايد من تنامي الدور الإيراني.
ويهدف الجانب الإيراني إلى استنفار الشريك الأوروبي في الاتفاق النووي والجهود التي بذلها للتمسك به وقطع الطريق على ترمب لإعلان وفاته، والآمال التي تجددت لدى دول الترويكا (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) بإمكانية إحيائه مع بايدن، وما يعنيه ذلك من عودة الآمال بالحصول على ما يمكن أن يوفره موضوع رفع العقوبات عن إيران من فرص استثمار اقتصادي تحتاجها السوق الإيرانية بمختلف مستوياتها وقطاعاتها، فضلاً عما تشكله هذه العودة من إمكانية إعادة إنعاش اقتصادات هذه الدول بعد التداعيات السلبية التي تركتها جائحة كورونا عليها. ما يعني أن الرئيس الأميركي الجديد سيكون أمام واحد من خيارين، إما أن يتخلى عن مساعيه لتوسيع التفاوض حول ملفات جديدة مع الاتفاق النووي، بالتالي التفاوض مع طهران للعودة إلى ما سبق، والتراجع عن جميع الخطوات التي قامت بها برفع مستويات التخصيب إلى 20 في المئة أو أكثر، وما يعنيه ذلك من رسائل ومخاطر قد تسهل عملية الوصول إلى عسكرة البرنامج بشكل سريع، والذي يعني العودة إلى اللعب على حافة الاستفزاز العسكري والحرب قد تجبر واشنطن الذهاب إلى هذا الخيار لمنع اقترابها من امتلاك القدرات العسكرية النووية.
حسن فحص