قمة العلا فتحت صفحة جديدة ليست خالية من التزامات حديثة حيال ما كان قبلها وما يلوح في الأفق بعدها. وكما في الخلاف كذلك في “المصارحة والمصالحة” في قمة الدول الست لمجلس التعاون الخليجي: ما حصل كان لا بد من أن يحصل. أسباب خلاف السعودية والإمارات والبحرين ومصر مع قطر لم تكن بسيطة. والدوافع إلى “طيّ الصفحة الكاملة للخلاف” بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من القطيعة مع الدوحة ليست عادية. وإذا كان أساس الخلاف هو الموقف من السلوك الإيراني في المنطقة والإخوان المسلمين والإرهاب، فإن الدوافع إلى طيّه تتضمن تعديل الموقف في إطار نظرة استراتيجية شاملة إلى المرحلة الحالية وتطوراتها والتحديات. والقاعدة معروفة: في الخلاف لا رابح وخاسر لأن الكل يخسر. وفي الاتفاق لا رابح وخاسر لأن الكل يربح.
الصراع الجيوسياسي
ذلك أن مركز الثقل في الصراع الجيوسياسي في المنطقة، ينتقل مما كانت تسمى “دول الطوق” و”دول الماء” إلى دول الخليج التي تجاوزت كونها “دول النفط” أو “دول الجيولوجيا” ومعها مصر. أولاً لأن الخطر الإسرائيلي الذي كان الأول على مدى عقود تقدم عليه الخطر الإيراني. وثانياً لأن دول الطوق تبدلت أحوالها: مصر والأردن في سلام مع إسرائيل، سوريا محكومة بروسيا وتركيا وإيران ومشلولة بحرب دخلت عامها العاشر، ولبنان محكوم بالنفوذ الإيراني. وثالثاً لأن اهتمامات التربية والتكنولوجيا والاتصالات والذكاء الاصطناعي وتنويع مصادر الدخل صارت لها أولوية. ورابعاً لأن السعي الخليجي للتكامل “في كل المجالات وصولاً إلى الوحدة”، صار أيضاً في مستوى الطموح لأن يكون الخليج هو “أوروبا الجديدة”، كما قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وخامساً لأن الأولويات في مواجهة الخطر قادت الإمارات العربية والبحرين والسودان والمغرب إلى سلام مع إسرائيل وانفتاح اقتصادي. وسادساً لأن مصر والسعودية ومعظم دول الخليج وضعت الإخوان المسلمين على لائحة المنظمات الإرهابية، وصار من الضروري أن يكون هذا موقف مجلس التعاون، بعدما بدأت دول أوروبية السير في هذا الاتجاه. وسابعاً لأن طموحات رجب طيب أردوغان تشكل خطراً على كل المنطقة، لا فقط على العراق وسوريا وليبيا حيث أرسل قواته ومرتزقته.
ومن هنا إلتزامات الاتفاق وتحديات ما بعده. فالخطر الإيراني، كما أشار إليه ولي العهد السعودي والقادة المجتمعون في قمة العلا، هو خطر “مثلث” على المنطقة وأوروبا وأميركا، لا فقط على دول الخليج. الضلع الأول في مثلث الخطر هو البرنامج النووي الإيراني، الذي يستحيل أن تتحمل طهران كل أنواع العقوبات، وأن تنفق مئات المليارات من الدولارات عليه، وأن تمارس كل أشكال التغطية له، لو لم يكن برنامجاً لإنتاج سلاح نووي. والضلع الثاني هو الصواريخ الباليستية التي تفاخر إيران بصنعها والمدى الذي تصل إليه وتهدد بها دول الخليج وأوروبا والقواعد الأميركية في المنطقة. والضلع الثالث هو زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، وإنشاء ميليشيات تابعة للحرس الثوري مثل “الحشد الشعبي” في العراق والميليشيات في سوريا و”حزب الله” في لبنان، ودعم “حماس” و”الجهاد الاسلامي” في غزة والحوثيين في اليمن بالمال والسلاح. والأدوار المُعلنة لهذه الميليشيات كانت غطاء للأدوار التي صار المسؤولون في طهران يتحدثون عنها علناً. إذ هي في الحد الأدنى “منصات صاروخية” و”جبهات أمامية” للدفاع عن طهران، وفي الحد الأقصى أدوات التحكم بهذه البلدان لتصبح ضمن النسخة الجديدة من “الأمبراطورية الفارسية”.
ومن الطبيعي أن ينص “بيان العلا” على “تعزيز التكامل العسكري بين دول المجلس تحت إشراف مجلس الدفاع المشترك واللجنة العسكرية العليا والقيادة العسكرية الموحدة لمجلس التعاون، لمواجهة التحديات المستجدة انطلاقاً من اتفاقية الدفاع المشترك ومبدأ الأمن الجماعي لدول المجلس”.
المصارحة حدثت والمصالحة حدثت. والمهم الآن هو المكافحة الجماعية للأخطار. والأهم هو بناء القوة الذاتية القادرة على الردع كما على المواجهة من دون الاعتماد الكامل على ما ليس قراره في اليد مثل الالتزامات الخارجية؟
رفيق خوري
اندبدنت عربي