لطالما مثلت الأموال العراقية المهربة إلى الخارج محور اهتمام العراقيين، إلا أنها تزايدت في الفترة الأخيرة مع تفاقم الإشكالية المالية التي تمر بها البلاد، حتى أصبحت بشكل عام محط اهتمام ومطلب رئيس بالنسبة للعراقيين، مع الحجم الكبير لتلك الأموال وإمكانية أن توفر حلولاً جذرية للمأزق المالي الكبير في العراق.
متهمون كبار ونظام سياسي يوفر الحماية
يصف مراقبون حالة الفساد التي تعيشها البلاد منذ سنوات عدة بأنها تجري باتفاق سياسي لتقاسم مقدرات البلاد من خلال الطبقة السياسية الحاكمة، في حين يستبعد المراقبون أن تقدم الحكومة الحالية أو أي حكومة أخرى على حسم تلك الملفات واستعادة الأموال المهربة أو القبض على المتورطين الرئيسيين فيها.
لعل أولى تلك العمليات كانت من خلال وزير الدفاع في أول حكومة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، حازم الشعلان الذي هرب من البلاد بنحو مليار دولار، وحكمت عليه المحاكم العراقية بالسجن سبع سنوات، إلا أنه لا يزال خارج العراق فضلاً عن عدم استرداد تلك الأموال.
إضافة إلى الشعلان، هناك العديد من الوزراء ورؤساء الهيئات والمسؤولين المتهمين أو من صدرت بحقهم أحكام بقضايا فساد مليارات الدولارات أبرزهم وزير الكهرباء الأسبق أيهم السامرائي والذي هرب من السجن إلى خارج البلاد.
ويكشف مسؤولون في مكافحة الفساد عن تقديم طلب رسمي من العراق إلى الولايات المتحدة في وقت سابق لاسترداد السامرائي استناداً إلى اتفاقية التعاون القانوني القضائي بين بغداد وواشنطن، إلا أن الجانب الأميركي لم يستجب لتلك الدعوات كون السامرائي يحمل الجنسية الأميركية.
أما الملف البارز الآخر فهو ملف وزير التجارة في حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وعضو حزب الدعوة عبد الفلاح السوداني، والذي كان متهماً بسرقة 4 مليارات دولار، وحكمت عليه المحاكم العراقية بالسجن 21 عاماً بعد هروبه إلى الخارج.
سُلّم السوداني إلى السلطات العراقية من قبل الإنتربول في يناير (كانون الثاني) 2018، لكن المحاكم العراقية أفرجت عنه في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، حيث نص قرار المحكمة أنه أفرج عنه لتنازل المشتكين وقررت شموله بالعفو العام.
وتلت تلك الحادثة الكثير من الحوادث الأخرى وصفقات الفساد التي ما زالت مستمرة حتى وقت قريب، من دون حسم أو اتخاذ إجراءات قانونية بحق شخصيات رفيعة متهمة بها، والاكتفاء في الكثير من الأحيان عن الإعلان عن اتخاذ إجراءات بحق كوادر وسطية في الدولة العراقية.
الدولة العميقة وضحايا فتح تلك الملفات
وما يعزز الاعتقاد بالحجم الكبير للفساد في العراق، حجم الأموال التي هرّبت إلى الخارج على إثر عمليات فساد ممنهجة أديرت طوال السنوات الماضية، إذ تصل بعض التقديرات من مسؤولين سابقين في مؤسسات مكافحة الفساد العراقية إلى أن حجم الأموال المهربة يصل إلى حدود 600 مليار دولار، فيما يقدر نواب في اللجنة المالية البرلمانية ومختصين بالاقتصاد حجم الأموال المهربة للخارج بنحو 350 مليار دولار.
ويقول عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي النائب جمال كوجر إن “الأرقام الرسمية لحجم الأموال المهربة غير متوافرة، لكن التقديرات تتراوح بين 250 مليار دولار إلى 350 ملياراً كما ذكره رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي في إحدى نقاشات الرئاسات الثلاث”.
ويضيف “حتى الآن ليست لدى العراق آلية في سياق استرجاع تلك الأموال، ولم نشهد إرادة حقيقية لفتح هذا الملف”، مستبعداً أن العراق سيشهد تحركاً حقيقياً في هذا السياق في المستقبل القريب.
ويشير كوجر إلى أن ما يمنع التحرك لحسم هذا الملف هو كون “الفاعلين السياسيين الذين هربوا تلك الأموال لا يزالون في الحكم ويمثلون الدولة العميقة”.
ويلفت أن “كل من يفتح هذا الملف سيكون ضحية كما حصل مع السياسي البارز أحمد الجلبي وآخرين من قضاة نزاهة وغيرهم”.
ويتابع أن “هذا الملف لا يزال ميتاً لأنه ملف سياسي بامتياز وبحاجة لإرادة قوية وآليات حقيقية من الحكومة العراقية”، مشيراً إلى أن الحكومة العراقية أضعف من الأحزاب وهذا المانع الرئيس من حسم هذا الملف”.
ويعتقد النائب العراقي أن الآلية الأنسب لحسم ملف الأموال المهربة هي من خلال “تسليم الملف إلى شركات دولية متخصصة في هذا المجال”.
وبشأن تدويل ملفات الفساد والأموال المهربة، يبيّن كوجر أن “الحكومة العراقية حتى الآن غير راغبة في التحرك في هذا الإطار ولا تمتلك إرادة حقيقية، على الرغم من إبداء دول غربية استعدادها للتعاون”، مردفاً “في المقابل هناك دول متورطة مع الساسة الفاسدين وستعمل على تقويض تلك المساعي”.
ويختم كوجر، “طرحنا عدة خطوات في هذا السياق، الأولى تتعلق بإعفاء المتورطين من الملاحقة القانونية مقابل إرجاع تلك الأموال، وإعطاء نسبة للمخبرين عن أموال الفساد، ومع ذلك لا وجود لإرادة حقيقية في سياق التحرك لحسم هذا الملف”.
حماية النظام السياسي للفساد
في المقابل، يقدر رئيس هيئة النزاهة الأسبق القاضي رحيم العقيلي أن يكون حجم الأموال المهربة إلى الخارج بحدود “600 مليار دولار، لأن أموال الفساد معظمها هُربت إلى الخارج”، مبيناً أن “هذا الحجم من الأموال تضاف إليه أموال الفساد من خارج الموازنة العامة للبلاد والذي يصل إلى حدود 600 مليار دولار أخرى، من خلال الاستيلاء على موارد الدولة الداخلية من بينها عقارات الدولة والثروات الطبيعية وأوجه أخرى”.
ويشير العقيلي إلى أن “استعادة الأموال المهربة إلى الخارج قضية معقدة في كل التجارب حول العالم، وحتى ما نجح من تلك التجارب استمر لما لا يقل عن عشرين سنة”، مبيناً أن العديد من الأسباب المعقدة تقف في طريق الشروع بحسم هذا الملف، أهمها “عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة ومؤسسات الدولة بهذا الملف والذي يتطلب إبرام اتفاقات ثنائية مع الدول التي هربت إليها أموال العراق وفتح قنوات التعامل القانوني معها”.
ويتابع أن “العراق لم يضغط في هذا الإطار حتى على البلدان المستفيدة من التعاون الاقتصادي معه، ولم تبرم أي اتفاقيات بشأن تبادل المتهمين”.
ويعتقد القاضي، أن القوى المتنفذة تحرص على حماية المتهمين بالفساد لسببين: “الأول أن تلك القوى تريد الاستمرار بالسرقات، والثاني يرتبط بالخوف من تهديدات فضح المتهمين للأطراف الأخرى المتورطة”، لافتاً إلى أن “أدوات الرقابة والقانون غير قادرة على حسم هذه الملفات بسبب النفوذ السياسي الذي يمارس الضغط عليها ويمنعها القيام بواجبها، الأمر الذي أدى إلى استمرار وتغول الفساد”.
ويرى أن “العديد من المسؤولين المتورطين بملفات فساد حمتهم جنسياتهم الأخرى، وقوانينها التي تمنع تسليم المتهمين”.
ويشير العقيلي إلى أن “التهديدات والضغوط التي تمارس على الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد لا حدود لها، لكن الضغوط التي تؤدي إلى نتائج هي تلك التي تمارس على القضاة، الذين لا يتمتعون بحماية أمنية أو وظيفية”، مردفاً أن “تمكين أدوات الدولة المعنية بمكافحة الفساد هو المحور الرئيس لحسم تلك الإشكالية، وليس الحلول الاستثنائية بل الحلول الاستراتيجية المؤسساتية التي تتبنى قواعد مستقرة ومستمرة”.
ويختم أن “أركان مكافحة الفساد لا تقتصر على المهمات التحقيقية وملاحقة المتهمين، هناك خطوات لا تقل أهمية مثل فرض الشفافية عدما تكشف كل شيء بما يتعلق بالفساد”.
متنفذون متورطون وإجراءات رسمية غائبة
ويبدو أن ما يعقد حسم هذا الملف الكبير، والذي يشهد على الفساد الكبير للحقبة السياسية الحالية، تورط شخصيات وأحزاب نافذة في تلك الملفات، فضلاً عن عدم شروع الأدوات الرسمية في البدء بإجراءات داخلية تحاكم المتهمين الكبار ومن ثم البدء بمفاتحة الجهات الخارجية لاسترداد تلك الأموال.
من جهة ثانية، يوضح أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية عبد الرحمن المشهداني، أن “عودة الأموال المهربة تتطلب على الأقل نحو خمس سنوات، فضلاً عن ضرورة إقامة دعاوى قضائية على المتهمين في الداخل العراقي ثم التوجه للدول الخارجية لحجز تلك الأموال”، مبيناً أن هذه المهمة “ليست سهلة”.
ويضيف “التقديرات بشأن تلك الأموال متباينة، إلا أنها في الغالب تقدر بنحو 350 مليار دولار، على الرغم من وجود تقديرات أخرى تصل إلى حدود 600 مليار دولار”.
وبشأن الإجراءات الحكومة بهذا الصدد، يرى المشهداني أن “هذا الملف يتطلب الشروع بخطوات في الداخل العراقي، ومن ثم تشكيل فريق محامين دوليين لمتابعة الملف خارجياً”.
ويلفت المشهداني إلى مقترح أسهل يتعلق بـ”إمكانية أن يقيم فريق الادعاء العام دعاوى على المتورطين بالفساد في الدول التي يحتفظ فيها بتلك الأموال ليتم الحجز عليها”، مضيفاً أن “هذا الإجراء سيحد من استمرار تلك العمليات”.
ويشير إلى أن “غالبية الدول تبدي استعداداً للتعاون، لكن العراق لم يقدم على الخطوات الأولى لأن المتورطين في تلك القضايا في الغالب مسؤولون متنفذون في الدولة العراقية”.
تسريبات عن اتفاق سياسي
وعلى الرغم من حديث مراقبين عن عدم إمكانية أن تقدم الحكومة العراقية على حسم ملف الأموال المهربة إلى الخارج وملاحقة المتورطين في قضايا فساد، إلا أن صحفاً عراقية تناقلت أنباءً عبر مصادر مطلعة، تكشف عن اتفاق بين الحكومة العراقية ورؤساء الكل السياسية على إصدار أوامر قبض بحق مسؤولين متورطين بسرقة وتهريب الأموال.
ونقلت صحيفة “المدى” العراقية عن مصادر لم تسمها أن “اللجنة استكملت التحقيقات مع عدد من المسؤولين الحكوميين، وستصدر قريباً أوامر قبض بحق 22 مسؤولاً بين وزير سابق وحالي، ووكيل وزارة، ومدير عام، ورئيس هيئة مستقلة”، متوقعاً أن “تعيد الصفقة قرابة 150 مليار دولار تقريباً إلى خزينة الدولة”.
وأشارت الصحيفة نقلاً عن المصدر أن “المتهمين المتورطين بملفات فساد كبيرة، سيطاح بهم أمام القضاء في القريب العاجل”، فيما قال المصدر أن “الاتفاق اشترط إطلاق سراح المتهمين أو المتورطين بسرقة الأموال مقابل إرجاعها لخزينة الدولة”.
محاولات استعراضية
في سياق متصل، يستبعد مراقبون أن تشرع الحكومة بحسم هذا الملف، بخاصة مع كونها عاجزة عن حسم مواجهتها مع الجماعات خارج إطار الدولة، مشيرين إلى أنها لا تعدو سوى كونها محاولات استعراضية.
في المقابل، يعتقد أستاذ العلوم السياسية إياد العنبر أن “الإرادة السياسية لا تبدو متوافرة لدى الحكومة الحالية في حسم تلك الملفات”، مبيناً أن “القوى السياسية لن تسمح بفتح ملفات الفساد لأن الجميع متورط بها، فضلاً عن أن العرف السياسي القائم لا يصنف الهيمنة على موارد الدولة كفساد”.
وبشأن قدرة الكاظمي على حسم تلك الملفات، يشير العنبر إلى أن “الكاظمي عجز عن محاربة القوى خارج إطار الدولة والتي تهيمن على أكثر من موطن فساد، فكيف سيواجه شركاء سياسيين يسيطرون على مؤسسات الدولة”، لافتاً أن “أي محاولة لمحاربة الفساد تبدأ من خلال تشكيل لجان موازية للمؤسسات المعنية بهذا الملف هي محاولة استعراضية غير جدية غايتها التسويق فقط”.
ويرى أن “المعادلة القائمة في العراق هو أن ما يعد فساداً تعتبره الطبقة السياسية مغانم وحقوقاً للمشاركة السياسية، والعملية السياسية برمتها قائمة على أساس توزيع المناصب وتقاسم الاقتصاد الريعي وموارده في العراق”، موضحاً أن “الكاظمي عاجز ليس فقط عن فتح ملفات الفساد السابقة بل حتى عن الحد من هذا الفساد مستقبلاً”.
وبشأن قضية حازم الشعلان وشخصيات سياسية أخرى متورطة بالفساد وتهريب الأموال، يبين العنبر أن “هناك عجزاً حقيقياً حتى في ملاحقة من يرفع عنه الغطاء السياسي ومن لا يمتلك امتدادات حزبية، لأنها ربما تفتح الباب على ملفات أخرى، فضلاً عن أنه لا يمكن القبول بانتقائية لضرب مواطن الفساد”.
أحمد السهيل
اندبندت عربي