نادراً ما عرف رئيس فرنسي، منذ انطلاق «الجمهورية الخامسة»، كماً من المشكلات في الداخل والخارج كالتي واجهها (ويواجهها) الرئيس إيمانويل ماكرون الذي وصل إلى الرئاسة حاملاً مشاريع إصلاحية أرادها أن تقلب أوضاع فرنسا رأساً على عقب، وتحضرها لمواجهة العقد الجديد. ورغم الدينامية الشخصية التي يتحلى بها، وتمتعه بأكثرية مريحة في مجلس النواب، وتراجع مواقع الحزبين التقليديين (اليمين المعتدل واليسار الاشتراكي) اللذين تعاقبا على حكم فرنسا منذ 60 سنة، فإن ماكرون لم يستطع تلافي الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، كالمظاهرات والإضرابات الاحتجاجية على إصلاح قانون العمل وقانون التقاعد والسترات الصفراء وقطاع النقل، وقد التصقت به صفة «رئيس الأغنياء» بعدما كان أول قرار اقتصادي – مالي اتخذه إثر وصوله إلى قصر الإليزيه هو إلغاء الضريبة على الثروة. وما زالت ماثلة في أذهان الفرنسيين صور الحرائق وعمليات الكر والفر بين رجال الأمن والمتظاهرين من خريف عام 2018 حتى ربيع عام 2019. ثم جاءت جائحة «كوفيد-19»، والإرباك الذي دمغ تعاطي السلطات الصحية والسياسية معها، لتزيد من تدهور صورة ماكرون والحكومة، إن فيما خص استخدام الكمامات أو اللقاحات لاحقاً. أما على صعيد سياسة ماكرون الخارجية، فقد أراد اجتراح العجائب بإعادة نفح المشروع الأوروبي بدينامية جديدة، وتسريع الاندماج بين دول الاتحاد، والتوصل إلى «الاستقلالية الاستراتيجية» إزاء الولايات المتحدة الأميركية، وبناء علاقة «خاصة» مع الرئيسين الأميركي والروسي، والانفتاح على الصين، وإعادة موسكو إلى الحضن الأوروبي. كذلك أراد أن تلعب بلاده دوراً رائداً في النزاعات الإقليمية، أكان في سوريا أو لبنان أو ليبيا، أو في ملفات شرق البحر الأبيض المتوسط والنزاعات المزمنة بين أنقره من جهة وأثينا ونيقوسيا من جهة أخرى، وهي الأطراف المتخاصمة بشأن تحديد الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة والثروات الغازية والبترولية الكامنة لكل طرف. وكان ملف الدور العسكري الفرنسي في بلدان الساحل الأفريقي على رأس اهتمامات ماكرون. ولكن لا بد من الإشارة إلى طموحه البين بأن يلعب دور صلة الوصل بين واشنطن وطهران، عبر تشجيع دونالد ترمب على البقاء داخل الاتفاق النووي لعام 2015، بالتوازي مع دفع طهران لإدامة الالتزام بتعهداتها النووية… لكن النتيجة معروفة.
مع انطلاقة العام الجديد، يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومعه الدبلوماسية الفرنسية، مجموعة من التحديات التي يجب التعامل معها، وإيلاء الملفات الداخلية ذات العناوين المتعددة الأولوية: الأزمة الصحية، وتداعياتها الاقتصادية والمالية والسياسية. وفي السياق عينه، يجب على ماكرون أن يبدأ بالتحضير للمعركة الرئاسية المقبلة التي ستجري بعد 16 شهراً من أجل الفوز بولاية ثانية. وفي الخارج، تجد باريس نفسها بحاجة إلى إعادة رسم سياستها الخارجية، على ضوء متغير رئيسي عنوانه نهاية عهد دونالد ترمب، ووصول رئيس جديد هو جو بايدن… بعد أقل من أسبوع إلى البيت الأبيض. إلا أن ذلك لن يسهل بالضرورة مهمات الدبلوماسية الفرنسية للعام الجديد، خصوصاً أن الإدارة الجديدة سوف تحتاج لعدة أشهر حتى ترسخ أقدامها، وترسم ملامح سياسة واشنطن «الجديدة».
– التحدي اللبناني
عندما وصل الرئيس ماكرون إلى بيروت يوم 6 أغسطس (آب) الماضي، بعد 48 ساعة فقط على الانفجارين الهائلين اللذين تسببا بكارثة لا مثيل لها في العاصمة اللبنانية، نظر إليه اللبنانيون على اختلاف مشاربهم على أنه «الرجل المنقذ»، إذ إنه شمر عن ساعديه، ونزل إلى محيط المرفأ المدمر والمنطقة البائسة لملاقاة المواطنين الذين تجمهروا حوله فيما لم يجرؤ أي مسؤول لبناني على مجاراته. ولم يحط ماكرون ركابه فارغ اليدين. فإضافة إلى المساعدات الإنسانية التي حملها وراحت تتدفق على لبنان، حمل معه مشروعاً إنقاذياً بعناوين مختلفة: صحية، إعمارية، مالية، اقتصادية وسياسية. وفي ظل الانهيارات المتراكمة التي عرفها لبنان، ارتفع صوته من بين ركام العاصمة ليقول للبنانيين: «لن أترككم وحدكم». وفي مساء ذاك اليوم، استدعى الرئيس الفرنسي إلى قصر الصنوبر، مقر سفير بلاده، زعماء الأحزاب اللبنانية، بمن فيهم ممثل لـ«حزب الله»، ليطرح عليهم خطة إنقاذية، ولدعوتهم لتحمل مسؤولياتهم «لأن فرنسا لا يمكن أن تحل مكان اللبنانيين»، وليعدهم بدعم دولي. وحث السلطات على «توفير أجوبة واضحة حول تعهداتها بالنسبة إلى دولة القانون والشفافية والحرية والديمقراطية والإصلاحات الضرورية». كذلك أعلمهم أنه سيعود إلى بيروت في مطلع سبتمبر (أيلول) ليرى ما تنفذ منها. وبعد 72 ساعة من رجوعه إلى باريس، نجح ماكرون في دفع «مجموعة الدعم للبنان»، والمؤسسات المالية والاقتصادية الأوروبية والدولية، لتوفير 250 مليون يورو مساعدات إنسانية عاجلة غير مشروطة، كما وعد بمؤتمر دولي لاحق، على غرار مؤتمر «سيدر» لعام 2018 الذي جمع للبنان وعوداً بمساعدات وقروض من نحو 11 مليار دولار. لكن الشرط الأولي البديهي كان -وما زال- القيام بإصلاحات جوهرية لمحاربة الفساد، وتحقيق الشفافية المالية، ومراجعة حسابات البنك المركزي، وإصلاح قطاع الكهرباء…
لكن، ما كاد ماكرون يركب الطائرة في رحلة العودة حتى بدأ التراجع عن الوعود التي سمعها في بيروت، أكان من المسؤولين أو من السياسيين. وجاءت استقالة رئيس الحكومة حسان دياب في 10 أغسطس (آب) لتزيد الطين بلة، ولتوجد فراغاً مؤسساتياً، ولينطلق اللبنانيون في ممارسة هوايتهم المفضلة التي عنوانها المماحكات السياسية. ولم يجرِ تكليف رئيس حكومة جديد بشخص السفير مصطفى أديب إلا عشية عودة ماكرون إلى بيروت في مطلع سبتمبر (أيلول)، حيث عمد مجدداً إلى جمع المسؤولين السياسيين، وأمهلهم أسبوعين لتشكيل «حكومة مهمة» من اختصاصيين، بعيداً عن السياسة والمحاصصة، بحيث تكون مهمتها تنفيذ برنامج إصلاحي إنقاذي متكامل حصل بشأنه على موافقة كل القادة السياسيين. كذلك لوح ماكرون باللجوء إلى إجراءات زجرية وعقوبات، في حال فشلهم في هذه المهمة. لكن، مرة جديدة، خاب ظن ماكرون، إذ انقضى الأسبوعان ولا حكومة، فاستقال أديب، وعاد إلى سفارته في برلين، وغرق اللبنانيون في جدل عقيم انتهى بتكليف سعد الحريري مهمة تشكيل الحكومة الجديدة في 22 أكتوبر (تشرين الأول). وبعد مرور ما يقارب الأشهر الثلاثة، ما زال لبنان بلا حكومة. ولكن قبل ذلك، عقد ماكرون مؤتمراً صحافياً صب فيه جام غضبه وخيبته على الطبقة السياسية اللبنانية بعبارات لم يسبق أبداً أن استخدمت، إذ اتهمها بـ«الخيانة»، مندداً بممارساتها المشينة وفسادها وانتهازيتها. ولإصابته بوباء «كوفيد-19»، ألغى زيارته الثالثة لبيروت التي كانت مقررة في 22 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
وثمة إجماع لدى المحللين والمراقبين في باريس على أن «مبادرة ماكرون» غرقت في الوحول اللبنانية، وفي التجاذبات الإقليمية، وفي حسابات الأطراف ورهاناتهم تارة على الانتخابات الأميركية، وطوراً على تغير الموازين في المنطقة والحوار الأميركي – الإيراني المرتقب… بيد أن سفيراً سابقاً جيد الاطلاع على الأوضاع اللبنانية وخبايا الدبلوماسية الفرنسية قال لـ«الشرق الأوسط» إن «عيب المبادرة الفرنسية يكمن في أربعة أمور: الأول أن ماكرون ومستشاريه لم يقدروا قدرة النظام السياسي اللبناني وطبقته على امتصاص الصدمات وتغليب غريزة البقاء حق قدرها؛ والثاني أن ماكرون بتعويمه هذه الطبقة مكنها -بشكل غير مباشر- من أن تقاومه، خصوصاً أنه وفر لها الوقت، ولم يكن يحمل بوجهها (الهراوة) الغليظة؛ والثالث أن الوعود التي حصل عليها من الرئيسين الأميركي والإيراني بالامتناع عن التدخل بالشؤون اللبنانية كانت وعوداً فارغة من المعنى، ولم يتم أخذها بعين الاعتبار؛ والرابع أن لبنان ورقة تفاوضية مهمة في الزمن اللاحق، عندما يحين وقت المفاوضات الجدية، ليس فقط بين واشنطن وطهران، ولكن أيضاً بصدد رسم صورة مستقبل المنطقة. وبناء عليه، فإن الوساطة الفرنسية دخلت في حالة (الموت السريري)، ولا أحد يلتفت إليها لبنانياً لأن الأنظار مصوبة لقراءة ما سيصدر عن الإدارة الأميركية الجديدة. ومع ذلك، فإن (التحدي اللبناني) سيكون حاضراً بقوة في الحراك الدبلوماسي الفرنسي لأسباب تاريخية وسياسية وإنسانية».
– الصداع التركي وهموم شرق المتوسط
في الشرق الأوسط أيضاً، يسبب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان صداعاً شديداً للرئيس ماكرون خلال الأشهر المنقضية، إذ إنه لم يكتفِ بالتنديد بالسياسة الفرنسية في الخارج والداخل (وضع مسلمي فرنسا)، بل ذهب إلى حد التجريح الشخصي به، واتهامه بـ«الاختلال العقلي» و«الموت السريري»، ونصحه بالتوجه إلى «طبيب نفسي». وفي المقابل، انتقد ماكرون، ومعه وزيرا الخارجية والدفاع، مراراً وتكراراً، في أكثر من مناسبة، أداء تركيا داخل الحلف الأطلسي (ناتو)، وتدخلها العسكري في سوريا ضد الأكراد، حلفاء التحالف الدولي في محاربة «داعش»، وانتهاك سيادة العراق بسبب غاراتها الجوية في شمال البلاد، وإبقاء قاعدة عسكرية على أراضيه. ولعل أعنف الانتقادات طالت سياسة تركيا في ليبيا التي «تهدد المصالح الاستراتيجية الأوروبية» و«تستجلب المرتزقة والإرهابيين» إلى أبواب الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن «انتهاك السيادة المائية» لعضوين فيه… وكان آخر الغيث تدخلها السافر في حرب ناغورني قره باغ ضد الأرمن، ودعمها للجيش الأذري. وعملت باريس بقوة من أجل فرض عقوبات اقتصادية وتجارية أوروبية على تركيا، والضغط عليها من خلال «الناتو»، ومحاولة عزلها سياسياً. كذلك انتقدت باريس بشدة دعوة تركيا لمقاطعة البضائع الفرنسية بحجة سياسة ماكرون «المعادية للمسلمين». وفي آخر قمة للقادة الأوروبيين، فُرضت عقوبات «مخففة» على أنقره بعد تأجيل متكرر. واتفق الأوروبيون على النظر مجدداً في الملف التركي في قمتهم خلال مارس (آذار) المقبل. وأخيراً، أبرمت باريس مع أثينا صفقة رئيسية لتزويدها بـ18 طائرة «رافال» لغرض تعزيز قدراتها بمواجهة تركيا، بعد أن أرسلت سفناً وطائرات للمشاركة في مناورات عسكرية في المتوسط.
بيد أن الأمور أخذت بالتغير في الأيام القليلة الماضية. فالخطاب التركي، على لسان إردوغان ووزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو، راح في منحى مختلف، مع عودة التركيز على أن «مستقبل تركيا مع أوروبا»، والدعوة إلى «فتح صفحة جديدة»، بل إن الخطاب تجاه فرنسا تحول بدوره. وأعلن أوغلو أنه اتصل، بداية العام الحالي، بنظيره الفرنسي، واتفقا على «خريطة طريق» لتطبيع العلاقات المأزومة، وفهم أن أول بنودها هو وقف التراشق الإعلامي. وتربط مصادر فرنسية الاستدارة التركية بعاملين اثنين: العقوبات الأوروبية الحالية والمقبلة، وأثرها على الاقتصاد التركي المتهالك؛ ووصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، ومواقفه المتشددة المعلنة من تركيا وإردوغان بالذات، إذ سبق له أن دعا المعارضة للتخلص منه من خلال الانتخابات، وأعرب عن استعداده لدعمها. أما الانفتاح على فرنسا، فمرده -بحسب المصادر نفسها- رغبة أنقره في «تحييد» باريس داخل الاتحاد. ويبدو أن باريس أيضاً تريد التهدئة، حيث قال الباحث الفرنسي المعروف ديديه بيون لـ«الشرق الأوسط» إن إحدى العلامات تعيين هيرفيه ماغرو سفيراً في أنقره. وقد ولد ماغرو في تركيا، حيث كان والده في مهمة دبلوماسية، ويتكلم اللغة التركية بطلاقة، ويعرف دقائق ملف العلاقات الثنائية، وكيفية التحدث إلى الأتراك.
– الملف النووي الإيراني
بالنسبة إلى الملف النووي الإيراني، تشخص الأنظار ليس إلى باريس، بل إلى واشنطن، حيث التغيير الجذري يتمثل في رغبة الرئيس الأميركي الجديد بايدن في «العودة» إلى الاتفاق النووي مع إيران الذي مزقه سلفه، ولكن شرط عودة طهران إلى الالتزام بتعهداتها. ومن ثم، إطلاق جولة مفاوضات جديدة، تأخذ بالاعتبار برامج الصواريخ الباليستية الإيرانية وسياسة طهران الإقليمية.
وتشير مصادر فرنسية واسعة الاطلاع إلى أن الخط العام لسياسة الرئيس المنتخب يتطابق إلى حد بعيد مع ما كانت تدعو إليه باريس منذ البداية، لكنها لم تحصد نجاحاً يذكر. واليوم، تطرح باريس مجموعة تساؤلات، وتنبه إلى أن الأمور «ليست بالبساطة التي يروج لها الطرف الإيراني» الذي يريد -عملياً- أن تتراجع واشنطن عن العقوبات التي خنقت اقتصادها، ليتراجع بعدها عن تحلله من الالتزامات التي تعهد بها بموجب الاتفاق. والحال أن ما قامت به إيران منذ ربيع العام الماضي قضى على الاتفاق بشكل شبه كامل، وأعاد البرنامج النووي الإيراني إلى ما كان عليه قبل إبرامه، إن لجهة كميات اليورانيوم المخصبة أو لجهة نسبة التخصيب أو نشر الطاردات المركزية. وتطرح الأوساط الفرنسية علامات استفهام جدية حول إمكانية العودة إلى اتفاق لم يبقَ منه سوى النذر القليل، وتحديداً بقاء مفتشي وكالة الطاقة الدولية في إيران.
– الرحيل من مالي… وحسابات باريس الأفريقية
> يوم 8 يناير (كانون الثاني) الحالي، تعرضت قافلة عسكرية تابعة لعملية «برخان» الفرنسية لهجوم انتحاري في الجانب المالي من المنطقة المسماة «الحدود الثلاثية» (مالي – بوركينا فاسو – النيجر)، حيث تنشط التنظيمات المتشددة والإرهابية. وجاءت المحصلة ثقيلة بالنسبة للقوة الفرنسية التي جرح 6 من أفرادها، 3 منهم جروحهم خطرة. وتفيد المصادر العسكرية الفرنسية بأن إحدى العربات المدرعة ضحت إلى حد ما بطاقمها عندما قطعت الطريق على سيارة انتحارية رباعية الدفع، إذ لو نجح قائدها في التسلل إلى القافلة لكانت الخسائر الفرنسية أكبر بكثير. والمهم في هذه الحادثة أمران: الأول أن التنظيمات التي تقاتل «برخان» -خصوصاً في مالي- تفضل زرع العبوات الناسفة على جوانب الطرقات لتفجرها عن بعد، ولا تنهج أسلوب العمليات الانتحارية. والثاني أن ما حصل يوم 8 يناير (كانون الثاني) جاء بعد عمليتين إرهابيتين في المنطقة نفسها، قتلتا 5 جنود فرنسيين، بحيث وصل عدد الضحايا الفرنسيين إلى 50 قتيلاً وعشرات الجرحى. من هنا، فإن «الكلفة» البشرية التي تتحملها القوة الفرنسية مرتفعة للغاية، لكن يجب إضافة الكلفة المادية، إذ إن «برخان» تكلف الخزينة الفرنسية ما يقارب المليار دولار في العام. وبالتوازي، لا يمكن تناسي «الثمن» السياسي الذي تدفعه فرنسا، ذلك أن «برخان» انطلقت في عام 2014، وهدفها محاربة التنظيمات الإرهابية التي تهدد استقرار بلدان الساحل الخمسة، حيث نشرت باريس 5100 عسكري مدعمين بقوة جوية متعددة الأشكال، وبإسناد لوجيستي. والحال أن هذه القوة التي تعمل بالتنسيق مع القوة الأفريقية المشتركة المسماة «جي 5»، وتضم نظرياً وحدات من بلدان الساحل الخمسة (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وتشاد) وقوة الكوماندوس الأوروبية (تاكوبا)، وتحظى بمساندة لوجيستية واستخباراتية أميركية وبريطانية وألمانية وإسبانية، لم تنجح حتى اليوم في القضاء على التنظيمات الإرهابية، بل إن هذه التنظيمات أعادت -وفق ما يظهر- تنظيم صفوفها، وكسبت مزيداً من الأنصار، وهي تلعب على وتر محاربة الحضور الفرنسي «الاستعماري».
وفي الأسابيع الأخيرة، أخذت تسمع نغمة جديدة، عنوانها خفض عدد القوة الفرنسية التي قرر الرئيس إيمانويل ماكرون، بداية العام الماضي، تعزيزها بـ600 رجل إضافي. وكان رئيس الأركان الفرنسي الجنرال فرنسوا لوكوانتر أول من أشار إلى هذا الخيار في زيارة له إلى المنطقة. وفي الأيام الأخيرة، عمدت وزيرة الدفاع فلورانس بارلي إلى تحضير الرأي العام، لكنها تركت للرئيس إيمانويل ماكرون الإعلان رسمياً عن هذا القرار بمناسبة القمة الفرنسية – الأفريقية المقررة في العاصمة التشادية نجامينا الشهر المقبل، بحضور القادة الأفارقة الخمسة، بحيث تكون استنساخاً للقمة التي استضافتها مدينة بو (جنوب غربي فرنسا). وقالت بارلي في حديث لصحيفة «لو باريزيان»، في معرض تبريرها لخفض عدد «برخان»، إن القوة الفرنسية «أحرزت نجاحات عسكرية كبيرة في عام 2020، سواء من خلال قتل عدد من كبار المسؤولين أو من خلال مهاجمة شبكات التوريد الخاصة» بالتنظيمات الإرهابية. والمرجح أن يعلن ماكرون سحب الـ600 جندي الإضافي، وهو ما لا ترغب فيه السلطات المالية، ولا القائد الأعلى للقوة الأفريقية المشتركة. والمعروف أن باريس تريد نقل مزيد من المسؤوليات لهذه القوة التي تفتقر حتى اليوم للتدريب والتمويل والقدرة على العمل المشترك بين مكوناتها. لكن الصعوبة تكمن في غياب رؤية واضحة لكيفية تطور الأوضاع، وللانعكاسات المترتبة على الأوضاع الميدانية، خصوصاً لمستقبل الحضور الفرنسي العسكري الذي عنوانه الرسمي «محاربة الإرهاب»، وضمان الاستقرار في بيئة ينمو فيها الشعور المعادي لفرنسا.
الشرق الأوسط