ثمة الكثير من الموجبات، في عراق هذه الأيام وعلى امتداد 18 سنة، تبيح للمرء أن يستعيد حقائق تخصّ الغزو الأمريكي سنة 2003: 460,000 مقاتل أمريكي من الصنوف كافة، 29,200 قذيفة وصاروخ سقطت على البلد خلال الأسابيع الخمسة الأولى، 46.000 مقاتل بريطاني، 2,000 من أستراليا، بضع مئات من بولندا وإسبانيا والبرتغال والدانمرك، فضلاً عن مئات الآلاف ممّن احتشدوا ضمن صفوف “عاصفة الصحراء” ولم يشتركوا مباشرة في القتال، وبينهم مقاتلون من السعودية ومصر وسوريا ودول أخرى. لم يكن الهدف تحرير الكويت فقط، بل نقل “جرثومة” الديمقراطية إلى مجتمعات الشرق الأوسط، قبل الأنظمة الاستبدادية ذاتها كما ساجل رهط من المحافظين الجدد الملتفين حول الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن.
فما مآلات الراهن؟
عراق اليوم يشترط هيكلاً حاكماً من رئيس جمهورية كردي، ورئيس حكومة شيعي، ورئيس مجلس نواب سنّي، وتوزيعاً مذهبياً وطائفياً للوزارات السيادية، من حيث الشكل على الأقلّ؛ وأمّا من حيث المضمون فإنّ الكثير من سلطات القول الفصل تؤول إلى أمثال آية الله العظمى علي السيستاني، المرجع الأعلى للطائفة الشيعية (وصاحب الفتوى الأشهر حول الجهاد الكفائي)؛ ومقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، وقائد “جيش المهدي” و”لواء اليوم الموعود” و”سرايا السلام”، والقيادي الفعلي لتيار “سائرون” الأكبر في البرلمان؛ وزعماء “الحشد الشعبي” والميليشيات ذات التابعية الإيرانية والتوجه المذهبي الشيعي، أمثال أبو مهدي المهندس الذي قُتل قرب مطار بغداد خلال غارة أمريكية مطلع 2020، صحبة قاسم سليماني رئيسه المباشر وقائد “فيلق القدس” الإيراني. ومن حيث المضمون، أيضاً، هذا بلد يعيش انتفاضة شعبية عارمة منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2019، ضدّ الفساد والفاسدين والتبعية السياسية وانحطاط الخدمات ونقص المواد الغذائية وتدهور الأحوال المعيشية عموماً وتفاقم القمع والاضطهاد، وهيمنة الميليشيات وسيطرتها على قرار الدولة السياسي والعسكري والأمني…
ليست مآلات غريبة أن ينتهي الغزو الأمريكي إلى هذه الخلاصة، التي تطوّرت سنة بعد أخرى ونموذجاً بعد آخر من الساسة العراقيين الذين شجعوا الغزو وساروا في ركابه، قبل أن يُسْلمهم البيت الأبيض والمخابرات المركزية والبنتاغون إلى أقدار سياسية واجتماعية واقتصادية محلية، وقبلها إلى المعادل الموضوعي المذهبي الإيراني؛ فتفرقوا دون أن تفارق العراق الشروط الكبرى التي جعلت الغزو الأمريكي يقدّم البلد هدية ثمينة إلى طهران. وليس مدعاة للعجب، أو حتى الحدود الدنيا من التعاطف، أن يتابع المرء حال رئيس الوزراء العراقي الحالي مصطفى الكاظمي، الذي قطع شوطاً ذا دلالات من الصحافة، إلى تدوين الذاكرة العراقية، إلى رئاسة المخابرات، فرئاسة الحكومة… وهو يصارع الجهات المذهبية ذاتها التي زكّت ترشيحه.
على الصعيد الأمريكي، لا يلوح أنّ مجيء رئيس أمريكي جديد، ديمقراطي وربيب سياسات رئيسه السابق في البيت الأبيض باراك أوباما، سوف يمنح الكاظمي وأمثاله منفذ نجاة مختلفاً من حيث المحتوى والشكل؛ إلا في مستوى واحد أعرب عنه جو بايدن قبل انتخابه، في أيلول (سبتمبر) الماضي: الإبقاء على “موطئ قدم” في العراق (وفي سوريا وأفغانستان أيضاً) تكون مهمته الرئيسية هي تسهيل العمليات الخاصة ضدّ “الدولة الإسلامية” والمنظمات الإرهابية الأخرى.
لكنّ هذه، على وجه الدقة، هي المهمة التي يتفاخر “الحشد الشعبي” بالسهر على أدائها؛ وليست الأهداف المعلَنة من زيارات العراق التي يقوم بها اسماعيل قاآني (خليفة سليماني على رأس “فيلق القدس”) إلا تثبيت “موطئ قدم” مماثل؛ حيث المطابقات طيّ ما يُذرّ في العيون من رماد التناقضات. وأمّا الاستبداد والقمع والفساد وانحطاط العيش وابتذال السياسة ورثاثة التبعية، ثمّ الانتفاضات الشعبية، حتى تلك التي تندلع في قلب المناطق ذات الأغلبية الشيعية، فهي “سوسيولوجيا” في العمق و”موضة” عربية في الشكل؛ كما يبشّر أحد الذين تنبأوا بأنّ عراق 2003 سينثر الورود تحت دبابات الغزو الأمريكية!
القدس العربي