حفلت قصة انفجار شحنة نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت بعناصر كثيرة من التمويه والغموض والأحداث العجيبة التي لا يمكن تصديقها بدءا من استئجار رجل الأعمال الروسي للباخرة المحملة بمئات الأطنان من مادة متفجرة، والمتجهة في رحلة مزعومة إلى موزمبيق، مرورا بقصة تركها مع قبطانها وطاقمها في بيروت، ثم حجزها ومصادرة شحنتها وخزنها لسنوات في أحد مستودعات مرفأ العاصمة اللبنانية، وصولا إلى انفجارها وتدميرها أحياء كاملة من بيروت، ومقتل 200 شخص وإصابة الآلاف.
على ضوء الكارثة الفادحة بدأ تبادل إلقاء المسؤولية على عاتق موظفين صغار، بداية، وسياسيين كبار، من رئيسي الجمهورية والوزراء إلى وزراء سابقين، وقد جرت على خلفيّة رسوّ السفينة وخزن الشحنة عمليات اغتيال غير مفهومة، قبل وبعد التفجير، كما حصل مع جوزف سكاف، الذي قتل في ظرف غامض عام 2017، بعد أربع سنوات من وصول الشحنة، وكان من أوائل المنبهين إلى خطورة المادة المتفجرة، وكما حصل للعقيد المتقاعد في مديرية الجمارك، منير أبو رجيلي، الذي كان يشغل منصب رئيس مكافحة التهريب في المرفأ، والذي أدلى بإفادة أمام المحقق العدلي في آب/أغسطس الماضي، واغتيال المصور جوزف بجاني، بكاتم صوت.
وساهم تقرير صحافي لبناني، وتحقيق وكالات أنباء في معلوماته، في كشف أن الشركة التي اشترت شحنة «نترات الأمونيوم» كانت لها صلة بجورج حسواني وعماد خوري، وهما رجلا أعمال سوريان يخضعان لعقوبات أمريكية لعلاقتهما برئيس النظام السوري بشار الأسد، ويحملان الجنسيتين السورية والروسية، وتبين أن وزارة الخزانة الأمريكية اتهمت شقيق خوري عام 2015 «بمحاولة شراء نترات الأمونيوم في أواخر عام 2013» فيما فرضت عقوبات على حسواني بتهمة «مساعدة حكومة الأسد بشراء النفط من مسلحي تنظيم داعش».
تشير هذه التفاصيل بوضوح إلى وجود حبكة أمنيّة وسياسية معقدة جدا، وخصوصا مع تأكيد جهات سياسية وصحافية على أن كميات كبيرة من نترات الأمونيوم المصادرة وجدت طريقها للخروج من المرفأ، ومن شبه المؤكد أن أطرافا ذات نفوذ أمني وسياسي وعسكري كبير في لبنان قد استخدمت تلك المادة في صنع متفجرات، وساهمت في نقلها إلى سوريا، وهو ما يفسّر بعضا من ألغاز اتهام رجال أعمال سوريين على صلة وثيقة بمراكز القرار الأمني في روسيا وسوريا بشرائها.
لا تتعلق هذه الألغاز بقضايا عسكرية وأمنية فحسب، بل تتعلق أيضا بقضايا احتيال ماليّ وتحايل على العقوبات الدولية، وكذلك، على الأغلب، بعمليات اغتيال، وتبييض أموال، وإذا أضفنا إلى ذلك انكشاف الكثير من عمليات تهريب المخدرات الكبرى المنطلقة من موانئ سورية، وتأكيد علاقة أقارب للأسد بهذه العمليات، سنكون قد كونّا صورة أكبر عن شبكة واسعة تحمل غطاء سياسيا، لكنّها في العمق، لا تختلف في عقليتها، وطرق اشتغالها، عن عصابات الإجرام الكبرى في العالم.
القدس العربي