بعد سنوات من الإشكالات السياسية والأمنية والاقتصادية التي مر بها العراق، وما خلفته من آثار على المجتمع، لا تزال التساؤلات تدور حول حلم العراقيين بالتحول إلى الديمقراطية، خصوصاً بعد أن مثلت الديمقراطية العنوان الرئيس الذي أنشئ عليه النظام السياسي في البلاد بعد عام 2003.
ويبدو أن الإشكالات التي حدثت خلال السنوات الـ17 الماضية، أسهمت مباشرةً في تقليل اهتمام العراقيين بالديمقراطية، مقابل أولويات الحياة، من أمن واقتصاد، ومعالجات للبطالة والفقر، اللذين وصلا إلى حدود غير مسبوقة.
وبالإضافة إلى المتطلبات الاقتصادية، شكلت سيطرة الأحزاب الإسلامية، وتلك التي تمتلك أجنحة مسلحة، على الدولة العراقية، المعضلة الأكبر أمام المواطنين، وأسهمت بحسب مراقبين، بالتقليل بشكل كبير من إمكانية تحقيق التحول إلى دولة ديمقراطية، خصوصاً مع التأثير المباشر للمال السياسي والنفوذ على مؤسسات الدولة والسلاح المنفلت على مسار الانتخابات في البلاد.
ولعل الشعور العام بعدم جدوى الانتخابات، كان المحفز الرئيس لأكثر من تظاهرة عراقية، كانت آخرها انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019، التي اشتعلت على بعد عام تقريباً من الانتخابات البرلمانية في مايو (أيار) 2018، الأمر الذي يعطي انطباعاً واضحاً عن الشعور العام بعدم جدوى الانتخابات.
وشهدت انتخابات عام 2018 عزوفاً هو الأكبر في تاريخ البلاد، حيث تشير البيانات الرسمية إلى أن نسبة المشاركة بلغت نحو 44 في المئة، إلا أن مراقبين أشاروا إلى أن النسبة أقل من ذلك بكثير.
الديمقراطية التوافقية ضربة كبرى للحلم العراقي
ومثّل النموذج السياسي ما بعد عام 2003 أو ما بات يطلق عليه اسم “الديمقراطية التوافقية” التي أتاحت للأحزاب السياسية الحالية السيطرة على النظام، خيبة أمل كبيرة للعراقيين في التحول الحقيقي إلى الديمقراطية، وأفسحت المجال أمام تقاسم مقدرات وإدارة البلاد بين تلك الأحزاب على أساس طائفي، الأمر الذي أسهم إلى حد كبير في تراجع النزعة نحو التحول الديمقراطي.
ولعل تراجع إيمان العراقيين بالانتخابات كمنصة للممارسة الديمقراطية، والتي تتيح لهم إمكانية تغيير النظام السياسي، شكل الضربة الكبرى للحلم بالتحول الديمقراطي.
ورأى الصحافي العراقي علي رياض أن “عدم توفير نموذج الديمقراطية التوافقية، للعراقيين، فرصة اختيار ممثليهم في السلطة التنفيذية، وتحجيمها لخياراتهم في الانتخابات البرلمانية أسهم في إسقاط ما أطلق عليه اسم ديمقراطية من أعين الناس”، إلا أن الإشكالية الأكثر خطورة، بحسب رياض، هي أن “تلك الإخفاقات أشعلت لدى العراقيين حنيناً إلى الديكتاتورية، أو سلطة القائد القوي الجامع للفئات تحت ظل هوية وطنية واحدة”.
وأشار رياض إلى أن “لجوء كثير من العراقيين إلى تلك الخيارات يتعلق بمحاولاتهم استعادة مفهوم الدولة التي سلبتها الفوضى وتسلط الميليشيات والأحزاب المدعومة خارجياً”، مبيناً أن “شريحة واسعة جداً من العراقيين باتت تتمنى وصول حاكم مستبد إلى السلطة، لا تتحكم بقراراته أي جهة داخلية أو خارجية”.
ولفت إلى أن “النزعة نحو الديكتاتورية تمثل تجلياً واضحاً لرغبة العراقيين بالقصاص من الفاسدين والقتلة والمتسببين بدمار البلاد، وهو الأمر الذي أسهم في حدوث إجماع عراقي على محبة قادة عسكريين من منطلق متخيل يعتقد أنهم قادرون على تحقيق رغبة الشعب من دون تدخلات خارجية وداخلية”.
وبين أن “الحنين إلى الديكتاتورية، هو حنين للقائد بصورة أدق، وأن الديمقراطية الحقيقية لا تزال حلماً يراد نيله، لكن شرط أن تكون ديمقراطية حقيقية لا تقيدها الأعراف الفئوية والطائفية، ولا تجعل السلطة التنفيذية هامشاً بعد متن البرلمان”.
منصة لحكم “اللصوص والقتلة”
ولعل أحد أكبر الدوافع التي جعلت العراقيين يبتعدون ربما عن الرغبة بالتحول الديمقراطي، يتمثل بعدم الثقة بالنظام السياسي وإمكانية أن يكون حامياً للديمقراطية في البلاد، خصوصاً بعد أن مارست أدوات النظام الرسمية والميليشيات المسلحة المرتبطة بالأحزاب الرئيسة فيه عمليات قمع وقتل وترهيب لمعارضيه، خصوصاً ناشطي الحركات الاحتجاجية.
ومثلت انتفاضة أكتوبر 2019، محاولة جادة من قبل الشباب العراقي لإرساء دعائم الدولة واستعادة حلم الديمقراطية من جديد، إلا أن ماكينة القمع السلطوية حالت دون تحقيق أهداف تلك الانتفاضة، بحسب مراقبين.
وقال الناشط علاء ستار، إن “هذا النموذج الذي حاولت السلطة تقديمه على أنه يمثل الديمقراطية، خيب آمال العراقيين بحرية حقيقية، وكانت ثورة أكتوبر دليلاً حياً على بطش السلطة وغياب كل معايير الديمقراطية فيها”، مبيناً أن “ما جرى إنشاؤه في العراق هو تقاسم سلطة صدام حسين من قبل أحزاب عدة مارست القمع والتسلط ذاته. هكذا هي الديمقراطية التوافقية في أعين العراقيين”. وأضاف “كان الشباب يظنون أنهم يعيشون في ظل نظام ديمقراطي تتغير فيه السلطة بالانتخابات، إلا أن هذا الشعور سرعان ما تغير تحديداً خلال ثورة أكتوبر، وبات النظام السياسي بالنسبة لهم يمثل منصة لحكم اللصوص والقتلة، ونظام تتوازن فيه القوى بين زعامات العصابات التي تحكم، ولا مجال فيه إلى إصلاح ذاته”.
ولعل أحد أهم مؤشرات شعور العراقيين باستحالة التحول للديمقراطية في الفترة الحالية، كما يعبر ستار، هو “التفاعل الإيجابي الكبير مع خبر كاذب بحدوث انقلاب عسكري أواخر عام 2019”.
وختم ستار بالقول إن “شعور العراقيين باليأس من التغيير دفع إلى قطيعة تامة بين المجتمع والسلطة، وهو السبب الرئيس الذي بات يدفع الشباب لانتظار أي فرصة للهرب خارج هذه البلاد التي تغرق”.
حلم تحول إلى كابوس
ويعتقد مراقبون أن نفوذ القوى الإقليمية والدولية على القرار السياسي في البلاد بعد عام 2003، أسهم بشكل كبير في عرقلة المسار نحو الديمقراطية، مقابل ترسيخ سلطة الأحزاب السياسية وزيادة هيمنتها على الدولة.
واعتبر الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي أن “الحلم بدولة ديمقراطية بات كابوساً بالنسبة للعراقيين، حيث تمت إعادة إنتاج الديكتاتورية مرة أخرى بشكل مغاير بعد عام 2003″، مبيناً أن “شكل السلطة في العراق تبدل من ديكتاتورية الفرد إلى ديكتاتورية الأحزاب”.
وأشار الشريفي إلى أن البدائل المتوافرة أمام العراقيين “مظلمة بشكل عام”، لافتاً إلى أن تلك الخيارات باتت محصورة بين “تدخل الجيش وحكومة طوارئ”.
ولفت إلى أن “أحد الدلائل الدامغة على تلاشي الحلم بالتحول الديمقراطي في العراق، يتمثل ببحث العراقيين عن منقذ من هذا الوضع وتراجع الشعور العام بإمكانية التغيير”. وزاد أن “عدم تمكن الانتفاضة الأخيرة من إحداث التغيير في البلاد، وتجربة (رئيس الوزراء مصطفى) الكاظمي وما أظهره من تماهٍ مع الأحزاب، أسقطت فكرة التظاهر وجعلته خياراً غير مُجد، بالإضافة إلى إيمان العراقيين بعدم إمكانية التغيير من خلال الانتخابات، الأمر الذي حفز النزعة العراقية بحصول انقلاب عسكري أو حكومة طوارئ”.
الانعطافة الأكبر
ولعل وصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة بعد عام 2003 وسيطرتها على النظام السياسي في العراق، مثل الانعطافة الأبرز التي أسهمت في تلاشي حلم العراقيين بدولة ديمقراطية، إذ يبين الشريفي أن “تلك الأحزاب تؤمن بالهيمنة من خلال استثمار الدين، الأمر مثل المعضلة الكبرى أمام التحول الديمقراطي في العراق”.
وبحسب الشريفي فإن عوامل عدة لعبت دوراً رئيساً في عرقلة نشوء دولة ديمقراطية في العراق، من بينها “نشوء منظومات سياسية تحالفت مع دول إقليمية ودولية وسيطرت على النظام السياسي في البلاد”، مشيراً إلى أن “دعم الدول الخارجية لتلك الأطراف السياسية رسخ وجودهم على رأس السلطة مقابل انهيار مستمر لملامح الديمقراطية”.
واعتبر أن “تلاشي حلم التحول للديمقراطية، جعل من نموذج الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مغرياً جداً للعراقيين”، مردفاً “هذا الأمر ربما يمثل الحل الأمثل لاستقرار البلاد”.
“ثورة تشرين” وعودة الأمل
في المقابل، صرح أستاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية، علي المرهج، بأن “ثورة تشرين أعادت الأمل في إمكانية التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية في العراق، وعلى الرغم من تضاؤل هذا الحلم خلال الفترات السابقة، فإنه لا يزال مستمراً”، مبيناً أن “الأغلبية المتضررة من النظام السياسي ستستمر في المحاولة للخلاص من سطوة واستبداد الأحزاب المسيطرة على النظام في العراق”.
وعلى الرغم من الحديث عن إمكانية أن يتقبل العراقيون حاكماً عسكرياً، يرى المرهج أن “فكرة الحاكم العسكري لا تبدو حتى الآن مغرية للشباب العراقي، خصوصاً بعد الانتفاضة، حيث كان الوعي السياسي حاضراً لدى الشباب خصوصاً عندما رفعوا شعارهم الأبرز: نريد وطناً، الذي مثل دلالة واضحة على الإرادة الواعية لبناء دولة مدنية”.
ولعل ما أعطى تصوراً مشوهاً عن الديمقراطية في العراق، بحسب المرهج، يتمثل بـ”الإخفاقات الكبيرة للنظام السياسي على مدى 17 سنة، فضلاً عن نشوء الديمقراطية التوافقية والمحاصصة التي أثرت سلباً على مفهوم الديمقراطية بشكل عام”.
وختم بأنه “على الرغم من بقاء الحلم بدولة مدينة ديمقراطية، فإن شعور العراقيين بالعجز عن إحداث التغيير، ربما يدفع بعض الطبقات الاجتماعية إلى البحث عن بدائل غير ديمقراطية”، مبيناً أن “إجراء انتخابات نزيهة وشفافة قد يسهم باستعادة حلم الدولة الديمقراطية في العراق”.
أحمد السهيل
اندبندت عربي