صعّدت روسيا خلال الأيام القليلة الماضية، بصورة لافتة وغير اعتيادية، من دعمها لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، عبر إنشاء “جسر جوي”، لإمداده بشحنات تموينية وعسكرية، في محاولة لإعادة تأهيل النظام عسكرياً واقتصادياً، ليتمكن من الصمود والاستمرار في مناطق سيطرته الحالية، التي بات يُطلق عليها اسم “سوريا المفيدة”، لاسيما في منطقة الساحل، حيث محاور الإمدادات الحاسمة في طرطوس واللاذقية، وفي أجزاء من العاصمة دمشق، ومنطقتين في الهضبة السورية، والتي تتراوح مساحتها ما بين 25 إلى 30% من مساحة سوريا الكلية.
وتهدف روسيا من خلال هذا التصعيد إلى تحقيق أهداف بعينها من جانب، وتوجيه رسائل إلى أطراف عديدة من جانب آخر، لكنه تصعيد يحمل معه تبعات ومخاطر عدة، سورياً وإقليمياً ودولياً.
أولاً: مؤشرات التصعيد الروسي
تكثف البحرية الروسية منذ شهور نشاطها قرب السواحل السورية، فقد أجرت مناورات منذ مايو الماضي بأكثر مما قامت به طوال عام 2014، وأعلنت موسكو مؤخراً عن سلسلة مناورات ضخمة بالذخيرة الحية لسفنها الحربية أمام الساحل السوري. وتستعد لإجراء مزيد من المناورات خلال الفترة المقبلة، حيث انطلق أسطول مكون من خمس سفن حربية مزودة بصواريخ موجهة في طريقه لتنفيذ مناورات في المياه الإقليمية السورية. وقد تتضمن المناورات إطلاق صواريخ وقذائف مدفعية وتجريب أنظمة دفاع جوي قصيرة المدى، ومتطورة (بانتسير إس 1).
ووفق السلطات القبرصية، قدّمت روسيا في 3 سبتمبر الجاري تنبيهاً إلى أن بحريتها ستجري سلسلة مناورات تتضمن تجارب على إطلاق الصواريخ في البحر قرب طرطوس واللاذقية، وستدوم هذه المناورات من 8 سبتمبر الجاري إلى 7 أكتوبر المقبل، وستؤدي إلى إغلاق ثلاثة مسارات جوية لفترة قصيرة (خلال المناورات).
كما نقلت شبكة “فوكس نيوز” عن خبراء عسكريين متمركزين في منطقة الشرق الأوسط أن وزارة الدفاع الأمريكية رصدت عدة رحلات شحن عسكرية روسية إلى سوريا، شملت 7 مقاتلات من طراز “An – 124” كوندور إلى قاعدة “حميميم” الجوية خارج اللاذقية، مشيرة إلى تمركز ٢٠٠ من القوات الروسية في المدينة. ونقلت الشبكة عن مسؤول بالبحرية الأمريكية أن اثنين من سفن الإنزال الروسية نقلت دبابات روسية وعربات مدرعة، وما يقرب من 100 من مشاة البحرية الروسية إلى ميناء طرطوس.
وكشفت صحيفة “كومرسانت” الروسية، في 10 سبتمبر الجاري، أن روسيا تمد الجيش السوري بعتاد يشمل أسلحة صغيرة وقاذفات قنابل وناقلات جنود مدرعة من طراز “بي.تي.آر-82 إيه” وشاحنات “كاماز” العسكرية. ونقلت الصحيفة عن مصادر في قطاع الصادرات الدفاعية، أن سوريا كانت قد دفعت لموسكو أقساطاً مسبقة لشراء أنظمة دفاع جوي متطورة من طراز “إس-300″، ولكن موسكو قررت لاحقاً عدم تسليم الأنظمة الصاروخية لدمشق في الوقت الحالي، على أن تقدم لها أسلحة أخرى بديلة.
وفي ميناء طرطوس العسكري بدأت تحضيرات لوجستية لإعادة تأهيله، ليتمكن من استقبال سفن عسكرية ضخمة، تشمل الطرادات البحرية العسكرية وحاملات طائرات، في سياق تنفيذ الاتفاق الموقّع بين سوريا وروسيا منذ عام 2008، والذي يقضي بتأهيل القاعدة العسكرية الروسية في ميناء طرطوس وإعادة تشغيلها مجدداً.
ولم تكتفِ روسيا بذلك، بل أرسلت عشرات الخبراء والمستشارين العسكريين إلى سوريا مؤخراً، للقيام بمهمة الإشراف على عمليات قوات النظام في منطقتي سهل الغاب بريف حماة الشمالي وجبال ريف اللاذقية الشمالي، معاقل النظام الرئيسية في الساحل، بعد خسارة النظام معظم مناطق الشمال لصالح المعارضة.
ثانياً: أهداف التصعيد الروسي
يشير تكثيف التصعيد الروسي في سوريا إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، توصل إلى قناعة مفادها أنه لا توجد ضمانة للحفاظ على المصالح الروسية في سوريا والمنطقة من دون الحفاظ على نظام الأسد.
ويبدو بوتين حريصاً على إقناع كل من يحاوره أن الأسد عنصر مهم من عناصر الحل وليس جزءاً من المشكلة، في ظل محاولات موسكو الإمساك بورقة الأسد كورقة تفاوضية، بدلاً من تركها للإيرانيين، لضمان أن الحل المنشود لن يفضي إلى تغيير كامل للنظام.
ولا تتمثل مصالح روسيا الرئيسية في سوريا في مصالح مادية بحتة، وإنما في مصالح استراتيجية كبرى، أهمها حضورها في الشرق الأوسط في حد ذاته، ورغبتها في الحفاظ على نفوذها في المشرق العربي، في ظل انتشار الحركات الإسلامية، الأصولية والمتطرفة، لاسيما داعش، ومخاوف موسكو الفعلية من انعكاسات التغيير في سوريا على مواطنيها المسلمين في القوقاز وآسيا الوسطى.
ويحاول الروس من خلال التصعيد العسكري الأخير، توجيه ضربة للمحور التركي- السعودي، الهادف إلى إسقاط نظام الأسد في أسرع وقت ممكن، وتوجيه رسالة حازمة لأنقرة من أي مغامرات تستهدف الإطاحة بالأسد عسكرياً، أو التفكير في إمكانية ضم أراض سورية لتركيا (حلب مثلاً)؛ حيث يأتي هذا التصعيد بعد فشل موسكو في تغيير الموقفين السعودي والأمريكي من بقاء الأسد، لاسيما بعد قمة الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس أوباما في واشنطن مؤخراً، وفشل المقايضة بين الرياض وموسكو بشأن مستقبل الأسد وأسعار النفط، إذ انخفضت أسعار النفط في 11 سبتمبر الجاري، متأثرة بأنباء مفادها أن السعودية لا ترى ضرورة لعقد قمة لمنظمة “أوبك” للدفاع عن الأسعار التي انخفضت إلى أكثر من النصف منذ منتصف عام 2014.
داخلياً تريد موسكو إيصال رسالة إلى فصائل المعارضة السورية المسلحة، تفيد بأنه في حال استهدفت هذه الفصائل المناطق العلوية في الساحل، فإنها ستواجَه برد فعل روسي عسكري مباشر، باعتبار أن هذه المناطق تمثل منطقة نفوذ روسية حيوية.
أيضاً تحاول روسيا في هذه اللحظة تعزيز وزنها وحضورها في الأزمة السورية، استعداداً لأي حل سياسي قد يفرض نفسه في أية لحظة، لاسيما مع تصاعد الحديث أخيراً عن مشاورات إقليمية ودولية لتفعيل مبادرة المبعوث الأممي الخاص، ستيفان دي ميستورا، رغم البون الشاسع بين وجهات نظر الأطراف المعنية بما يجري في سوريا، خصوصاً مع تأكيد روسيا المستمر على رفضها القاطع أن يكون تنحي الرئيس السوري شرطاً مسبقاً للمعارضة للدخول في مفاوضات الحل السياسي، وتأكيد الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية على فقدان الأسد لشرعيته وضرورة تنحيه لإفساح المجال أمام حل سياسي.
وتسعى موسكو من خلال هذا التصعيد إلى ممارسة ضغط سياسي على بقية الأطراف الفاعلة في القضية السورية، نظراً لزيادة ضغط أزمة تدفق مئات آلاف اللاجئين السوريين على الدول الأوروبية وزيادة الحديث عن تشكيل مناطق آمنة في سوريا، وربما دخول قوات عربية أو إقليمية إلى سوريا، الأمر الذي قد يفرض حلاً للأزمة السياسية ـ العسكرية بمعزل عن الروس، وبالتالي سيشكل ذلك تهديداً مباشراً غير مسبوق لمصالح موسكو في دمشق.
ولا شك في أن التدخل الروسي المباشر في سوريا يمثل استثماراً بعيد المدى، هدفه وضع روسيا في مركز المسرح الدولي كلاعب مهم لا يمكن تجاوزه. ومن خلال رفع راية محاربة الإرهاب الإسلامي يسعى الروس إلى تحويل سوريا إلى جزء من الصراع على قيادة العالم، ففي حال تمكن روسيا من تحسين وضعها التفاوضي في سوريا، فإنها قد تحاول إبرام اتفاق سياسي مقابل تنازلات غربية في أوكرانيا.
ثالثاً: روسيا وموازنة الدور الإيراني
يهدف التصعيد الروسي في سورية أساساً إلى حماية نظام الأسد كجزء من التفاهمات الإيرانية ـ الروسية الأخيرة، فقد سمح الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى، لروسيا أن تقطع شوطاً كبيراً في تنسيق خطواتها في سوريا مع إيران، لاسيما الزيارة غير المسبوقة التي قام بها قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، إلى روسيا في مطلع أغسطس الماضي.
غير أنه في المقابل، هناك اعتقاد بأن قوة موسكو في سوريا محدودة، وإن كانت مساندة، في حين أن طهران تمثل قوة حاسمة؛ ولهذا فإن موسكو في أمس الحاجة إلى زيادة حضورها العسكري في سوريا من أجل موازنة الوجود الإيراني أو التفوق عليه، وجعل الكرملين قادراً على فرض خياراته في دمشق على طهران، في الاتجاه الذي يتم التفاهم عليه مع واشنطن.
وتحاول موسكو استباق احتمالات التفاهم الغربي ـ الإيراني على بحث أزمات المنطقة منذ توقيع الاتفاق النووي في 14 يوليو الماضي، للحيلولة دون استبعاد أو استضعاف موسكو في سوريا والإقليم، فثمة اقتناع لدى موسكو بوجود مشروع لتقسيم سوريا سوف يؤدي إلى تلاشي نفوذها في المشرق العربي وربما الشرق الأوسط، إذا لم تبادر إلى إرسال قواتها إلى منطقة نفوذها ووجودها التقليدي في شرق المتوسط والمياه الدافئة.
وقد يكون هذا التصعيد هو الخيار الوحيد أمام موسكو إزاء الحضور الإيراني الكثيف في دمشق مقارنة بحضورها، ومستوى مصالحها في سوريا، حيث بدا التخوف من العزلة والتراجع في الملف السوري أمراً وارداً بسبب فشل موسكو في استعادة المبادرة في هذا الملف مؤخراً، وعدم تحقق اقتراح بوتين الذي يقوم على تشكيل تحالف يضم السعودية وتركيا وسوريا في خندق واحد ضد “داعش”؛ بينما يجري تنسيق أمريكي ـ إيراني، ولو ضمني، من أجل مواجهة “داعش” في كل من العراق وسوريا.
ربعاً: الخطة “ب” ودويلة الساحل
ثمة معلومات تشير إلى أن روسيا تقوم حالياً بسحب العتاد العسكري الروسي والمقاتلين والمتطوعين الروس من مقاطعة “الدونباس” في شرق أوكرانيا، في منطقتي دونيتسك ولوغانسك، حيث أنشأت فيهما دويلة (كانتون) موالية لموسكو، بعد تأكدها بأن الجيش الأوكراني لم يعد يشكل خطراً عليهما، وتستعد لإرسالهم إلى سوريا، وتحديداً إلى الساحل السوري لتنفيذ الخطة (ب) المتعلقة بسوريا.
وتقضي الخطة (ب) بتشكيل كانتون (دويلة) في الساحل السوري موالٍ لروسيا يمتد من مرفأ طرطوس إلى مدينة اللاذقية، مروراً بمدينتي بانياس وجبلة، تحت حماية الأسطول الروسي المرابط بشكل دائم أمام السواحل السورية.
ولتنفيذ هذه الخطة أرسلت روسيا إلى الساحل السوري طلائع من المتطوعين والمقاتلين الروس، بالإضافة إلى العتاد العسكري المتطور، لتهيئة البنية التحتية لقدوم بقية القوات، حيث تتضمن البنية التحتية تهيئة المرافئ والمطارات وأماكن السكن وشبكة المواصلات والاتصالات ومستودعات الأسلحة وغيرها من الوسائل اللوجستية اللازمة لهذا “الكانتون”.
وقد يؤمن تنفيذ الخطة “ب” لروسيا موطئ قدم دائم وبالغ الأهمية الاستراتيجية في حوض البحر الأبيض المتوسط في ظروف عودة الحرب الباردة المستعرة حالياً بين روسيا وحلف الناتو، بل وقد يؤمن لها أيضاً السيطرة على جزء مهم من منابع الغاز والنفط الضخمة المكتشفة في المنطقة البحرية المقابلة للسواحل السورية واللبنانية والفلسطينية والقبرصية والمصرية، والتي تطمح شركات النفط والغاز الروسية العملاقة “غازبروم” و”روس نفط” ولوك أويل” في الاستثمار فيها.
وكان المسح الجيولوجي الأمريكي، الذي أُجري في حوض شرق المتوسط في عام 2010، قدر وجود احتياطي يصل إلى 3450 مليار متر مكعّب من الغاز و 1.7 مليار برميل نفط في المياه الإقليمية السورية.
خامساً: مخاطر التصعيد الروسي
إن تصعيد روسيا عسكرياً في سوريا وإصرارها على حماية نظام بشار الأسد، قد يكون له تبعات ومخاطر عدة، من أبرزها:
1 ـ الشروع في تقسيم سوريا عبر تطبيق روسيا للخطة “ب”، التي تعني تشكيل كانتون (دويلة) الساحل السوري على البحر المتوسط، وتتجمع فيها الأقليات السورية المختلفة برعاية روسية، فيما تبقى سوريا الداخل نهباً للفصائل السورية المعارضة.
2 ـ يستحيل على الروس إعادة تأهيل قوات النظام السوري التي أشرفت على الانهيار بشكل كامل، ذلك أن القوات التابعة للجيش السوري المتبقية على الأرض لا يتجاور عددها في أعلى التقديرات حالياً 50 ألف مقاتل فقط، والروس يعلمون جيداً أن انسحاب قوات حزب الله اللبناني والميليشيات العراقية والإيرانية والأفغانية التي تقاتل إلى جانب النظام، سيعني انهياره بشكل كامل.
3 ـ ثمة احتمال أن تشهد المنطقة تصعيداً في العمليات العسكرية، في ظل دخول الروس على خط النزاع بشكل أوسع، وتأجيل الحلول السياسية من كل نوع، بانتظار إعادة تشكيل ميزان القوى، وترجيح الوجهة الروسية ـ السورية لهذا الحل، وهي وجهة تستند إلى مصالحة وطنية وإشراك المعارضة الداخلية في حكومة وحدة وطنية، عندما يحين الوقت المناسب.
4 ـ إحجام روسيا عن رسم معالم محددة توضح نطاق وجودها العسكري في سوريا يجعل الغرب في حالة قلق مستمر من احتمال قيام موسكو بحشد كبير يكسبها وضعاً أقوى على طاولة المساومات، حين تجلس القوى العالمية للتحدث عن الأزمة السورية.
5 ـ سيشكل الوجود الروسي البشري المباشر سبباً في إثارة مخاوف عميقة من أن تصل الأزمة إلى التدويل. وبينما تحاول موسكو ذّ الرماد في العيون بنفي كل ما يرد من تقارير بهذا الشأن، إلا أن أزمة روسية ـ أمريكية تلوح في الأفق، وعلى درجة من الشبه بالأزمة الأوكرانية.
6 ـ اعتبرت الولايات المتحدة، أن دعم روسيا للنظام السوري، يسبب مشكلة لها، ويقود إلى مزيد من تصعيد الصراع داخل سوريا وزيادة الأوضاع سوءاً، وحذرت من أن التعزيزات العسكرية الروسية في سوريا قد تشعل “مواجهة” مع القوات التي تقودها واشنطن لتوجيه ضربات جوية ضد تنظيم “داعش” في العراق وسوريا.
وخلال لقاء مع عسكريين أمريكيين بقاعدة “فورت ميد” العسكرية بولاية ميريلاند، بمناسبة ذكري 11 سبتمبر 2001، أعلن الرئيس أوباما أن الاستراتيجية الروسية القائمة على دعم نظام بشار الأسد في سوريا “آيلة إلى الفشل”، قائلاً:”إن الخبر السييء هو مضي روسيا بالاعتقاد أن الأسد شخص يستحق الدعم”، مضيفاً أن الأسد شخص “مدمر لشعبه وحول بلاده إلى منطقة جذب للإرهابيين من كل المنطقة”.
كما ذكر الجنرال جون ألن، مبعوث الرئيس أوباما للتحالف الدولي ضد “داعش”، أن الولايات المتحدة تعارض أي مساعدات عسكرية تُقدم للنظام السوري، وتراقب التواجد العسكري الروسي الجديد في سوريا، موضحاً أن بلاده أكدت مراراً أن “عسكرة الصراع سيؤدي إلى معاناة إنسانية كبيرة في المنطقة على عدة مستويات”.
وليس بعيداً عن ذلك، حذر وزير الخارجية الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، روسيا من اتخاذ مسارات أحادية الجانب في سوريا، قائلاً: “لا ينبغي نشوء وضع يجعل أي تحرك مشترك للمجتمع الدولي غير ممكن، كما أنه لا ينبغي لكل واحد أن يتحرك بطريقته الخاصة في سوريا”.
أحمد دياب
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة