انتخابات عراقية في ظل مليشيات ودولة غائبة

انتخابات عراقية في ظل مليشيات ودولة غائبة

تجنّباً للتضليل والاستهزاء بعقول الآخرين، لا بد من التأكيد على أن الانتخابات لا تعني الديمقراطية، ولا تمنح أي نظام حاكم صفة الديمقراطية، وإنما هي إحدى آليات النظام الديمقراطي. بمعنى آخر، النظم الديمقراطية، كمصطلح سياسي غربي، وعلى وجه التحديد يوناني، لا تعني الانتخابات فحسب، كما يروج المحتل الأميركي في العراق وأجهزة إعلامه، وإنما تعدّ واحدة من آليات النظام الديمقراطي، والتي أهمها الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وسيادة القانون، والمساواة بين الناس، بصرف النظر عن الجنس والدين والمذهب واللغة. وهذه بمجموعها غير متوفرة في العراق المحتل إلا من حيث الشكل. ناهيك عن غياب أبسط شروط الانتخابات في العراق ومواصفاتها من حيث النزاهة والشفافية، فقد رافق جميع الانتخابات السابقة التزوير وشراء الأصوات واستغلال فتاوى آيات الله وتوزيع المقاعد والمناصب مسبقا على قاعدة المحاصصة الطائفية. في المقابل، أقرّ ما يسمى الدستور العراقي الدائم نظام المحاصصة الطائفية لإدارة الحكم “الديمقراطي” في العراق التي تتعاكس كليا مع أي نظام ديمقراطي في أدنى أشكاله وصوره. يضاف إلى ذلك أن القانون الدولي والمواثيق التي أقرّتها الأمم المتحدة لا يعترفان بالانتخابات التي تجري في ظل الاحتلال، ولا ما يُحدثه المحتل من متغيراتٍ في شكل النظام السياسي أو الاقتصادي أو الدستوري. ولا يجوز الخلط بين الانتخابات والنظام الديمقراطي، فإجراء انتخابات دورية في بلد ما لا يعني بالضرورة أن النظام أصبح ديمقراطيا.

الانتخابات في العراق أكذوبة مفضوحة، والمشاركة فيها بمثابة الاعتراف بمشروعية العملية السياسية، كون الانتخابات أحد أعمدتها

المناسبة هنا تخصّ الانتخابات المبكّرة التي جرى تأجيلها في العراق عدة شهور، على الرغم من تأكيداتٍ متواصلةٍ على إجرائها في موعدها المحدد، فبالإضافة إلى ابتعادها عن أية صفة أو صلة بالانتخابات والديمقراطية، فهي تهدف، أولا وأخيرا، إلى الالتفاف على الثورة العراقية التي كان من مطالبها إجراء انتخابات مبكرة، في محاولة بائسة لاستغفال العقل العراقي، حيث يتم تناسي بقية الشروط التي يجب توفرها قبل إجراء الانتخابات، وأهمها إصدار قانون للأحزاب، يتضمن حرمان أية جهةٍ سياسيةٍ، أو حزبٍ ساهم في العملية السياسية التي وضعها المحتل، من الاشتراك في الانتخابات المبكرة. بمعنى آخر، الغرض المركزي وراء الانتخابات المقبلة لا علاقة له بإرساء نظام ديمقراطي خال من الفساد والمليشيات المسلحة، كما يدّعي رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، فهذه ترّهات باتت مكشوفة. في المقابل، فإن محاولات منح هذه الانتخابات ميزة وطنية مختلفة، عبر إعادة إنتاج آراء وطروحات جرى التخلي عنها، لضعفها وهشاشتها، أمام التحليل السياسي الدقيق والمقنع، محاولات فاشلة، والمقصود هنا أكذوبة التوجه الأميركي، عبر الكاظمي، لطرد النفوذ الإيراني، وإنهاء دور المليشيات المسلحة وإنهاء الفساد.. إلخ، وفق مقولة “عدو عدوي صديقي”. وكان نفوذ الاحتلال الإيراني قد تمدّد في العراق في غفلة من الزمن، وليس بعلم الأميركان ومباركتهم، كونه يخدم المخطط الأميركي لتدمير العراق، دولة ومجتمعا.
الانتخابات في العراق أكذوبة مفضوحة، والمشاركة فيها بمثابة الاعتراف بمشروعية العملية السياسية، كون الانتخابات أحد أعمدتها، وفي الوقت نفسه، إعطاء الحق للوجوه نفسها التي ستفوز حتما، لمواصلة سرقاتها، وخدمة مشروع الاحتلال وتكريسه عقودا طويلة. ولسنا في حاجةٍ لمرافعاتٍ عالية المستوى، لنثبت عدم جدوى هذه الانتخابات، بقدر ما نحتاج حسبة بسيطة، أو حسبة عرب كما يقال. فمن جهة، فإن النتائج المأساوية التي أفرزتها أربع تجارب انتخابية سابقة أثبتت أن الانتخابات في العراق لم تجر من أجل بناء نظام ديمقراطي يخدم العراق وأهله، وإنما جرت لتوفير آلية سياسية ذات صفة ديمقراطية تمكّن أميركا من حكم البلاد بطريقة غير مباشرة، بعد فشلها في تحقيق ذلك عبر الحاكم العسكري جي غارنر، ثم الحاكم المدني بول بريمر. وإذا لم يكن الأمر كذلك، لكان علينا جميعا تصديق مقولة الأميركان، إنهم جاؤوا إلى العراق محرّرين وليس محتلين. هذه هي الحقيقة، وأي خلاف حولها يعد سذاجة سياسية، أو لتحقيق أهداف ذاتية أو فئوية ضيقة.

الغريب إصرار بعض السياسيين والأقلام الوطنية على إضفاء ما يشبه المصداقية على أكذوبة الانتخابات

بمعنى آخر، لن تكون الانتخابات المقبلة في العراق سوى نسخة أكثر ابتذالا للانتخابات التي سبقت. وإذا حدث وتمخضت عن تغيرات أو إصلاحات محدودة، فإما لذرّ الرماد في العيون، أو لغايات في نفس المحتل، فإنها لن تغير من الأمر شيئا، فقانون الانتخابات، على سبيل المثال، الذي وضعه الحاكم المدني للعراق، بول بريمر، بعد الاحتلال، وجرت بموجبه الانتخابات السابقة، ولا يزال معمولا به على الرغم من محاولات تزويقه، لا ينتج عنه غير فوز هذه الكتل والطوائف الحاكمة والسرّاق والحرامية والمجرمين. حيث ينص هذا القانون على توزيع جميع المقاعد في البرلمان على الكيانات السياسية، من خلال نظام للتمثيل النسبي. وبالتالي، ليس غريبا أن تنتج عنه حكومات سداها المحاصصة الطائفية ولحمتها خدمة مشروع الاحتلال الأميركي، وتنفيذ أجندات ملالي طهران. أما آلية عملها فهي تستند على سرقة المال العام والفساد الإداري والمالي وارتكاب الجرائم والموبقات.
الغريب هنا إصرار بعض السياسيين والأقلام الوطنية على إضفاء ما يشبه المصداقية على أكذوبة الانتخابات، بصرف النظر عما إذا كانت النيات حسنة أم سيئة، ففي وقت توصل عامة الناس إلى قناعة بعدم جدوى الاشتراك في الانتخابات، جرّاء ما أنتجته الانتخابات الأربع السابقة من عملاء وقتلة وحرامية ومزوّري الشهادات، يدعو العراقيين كافة، وبكل حمية وما ملكت أيمانهم من قدرات، إلى المشاركة في هذه الانتخابات، تحت ذريعة تمكين الوطنيين الشرفاء من الفوز في مجلس النواب وتشكيل حكومة، أو قوة رئاسية ناعمة، على حد تعبير أحدهم، تنقذ العراق من محنته وتقيم لأهله الجنة الموعودة التي تفيض لبنا وعسلا، حتى خيّل لنا لبرهة أن هذه الانتخابات المقبلة لن تجري، كما في السابق، تحت إشراف حكم يديره السفير الأميركي تارة والإيراني تارة أخرى، ويستند على دستور وقانون انتخابات يكرّسان أسس الطائفية والعرقية في مؤسسات الدولة والمجتمع، وإنما ستجري في ظل حكم وطني مستقل وبلد ذي سيادة، وفي ظل دستور متوازن وقانون انتخابات حضاري، أساسه العدل وآليته النزاهة والحرية والكفاءة، أو اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب.

الاشتراك في الانتخابات يعني التوقيع على شرعيتها أولا، على الرغم من اعوجاج قانونها وطائفية لجانها وانحياز مفوضيتها وتواطؤ المشرفين على صناديقها

أكثر ما يحزن، في هذا المجال، دعوة بعضهم ثوار تشرين إلى الاشتراك في الانتخابات من خلال تنظيم قائمة أو تشكيل حزب سياسي. في حين أن الثورة طالبت بإسقاط العملية السياسية برمتها، من حكومة عميلة وبرلمان مزوّر وانتخابات تجري في غياب الدولة، وتحت حكم المليشيات المسلحة الموالية لإيران، وقدّمت على هذا الطريق مئات الشهداء وآلاف الجرحى. بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، مروّجا مقولات من قبيل السياسة فن الممكن، أو التصرف بالعقل وليس العواطف، أو عدم تجاهل القوة الضاربة للمحتل وللحكومة العميلة، ليصل، في نهاية المطاف، إلى القول إن مقاطعة الانتخابات لا تُجدي نفعا، وإن استمرار الثورة قد يؤدي إلى مزيد من سفك الدماء. وبالتالي، علينا الاستسلام للأمر الواقع. في حين أن كل هذه المقولات تتعاكس مع صحة هذه الثوابت الوطنية، وتتجاهل تجارب شعوب الأرض قاطبة التي أثبتت صحتها، وعبر مراحل التاريخ المختلفة. ومن أبرزها أن الشعوب قادرة على انتزاع حقوقها المشروعة، مهما بلغ أعداؤها من قوة وبأس.
أحد الخيارات لطرد هؤلاء، وإسقاط العملية السياسية، وإقامة حكومة وطنية تعيد للعراق استقلاله وسيادته الوطنية، وتحقق للشعب العراقي كامل مطالبه المشروعة، هو مقاطعة الانتخابات، كونها تنزع الشرعية عن فاسدين يتمترسون خلفها. الأمر الذي يدعو العراقيين جميعا إلى المساهمة في تبصير الناس بخطأ الاشتراك في هذه الانتخابات. أما توكيل ثوار تشرين القيام بهذه المهمة وحدهم، ودحض زيف هذه المحاولات، فهذا يعد نوعا من التجنّي والظلم، خصوصا وأن الشعب العراقي قد ضاقت به سبل الحياة، وأنهكت قواه آلة الدمار والقتل من جهة، وتأثره بالحملات الإعلامية المضللة والوعود الكاذبة من جهة أخرى. ناهيك عن ترويج حالة اليأس بين صفوف الناس، جرّاء تراجع ثورة تشرين للأسباب المعروفة.
الاشتراك في الانتخابات يعني، لا محال، التوقيع بالعشرة على شرعيتها أولا، على الرغم من اعوجاج قانونها وطائفية لجانها وانحياز مفوضيتها وتواطؤ المشرفين على صناديقها. ويعني، ثانيا، المصادقة مقدّما على نتائجها التي ستكون زورا لصالح الوجوه نفسها. وإذا فاز مرشحون مستقلون، لن يكون حالهم أفضل من أسلافهم الذين فازوا في الانتخابات السابقة، ثم ضاعت أخبارهم ولم نسمع عنهم شيئا، أو، في أحسن الأحوال، لا هشّوا ولا نشّوا، كما يقول العراقيون.

عوني قلموجي

العربي الجديد