عاد جنرالات الجيش في ميانمار إلى سالف عهدهم في اللجوء إلى الانقلاب العسكري على الحكم المدني، وتذرعوا هذه المرة بوقوع تزوير على نطاق واسع في الانتخابات التشريعية التي جرت مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي وأسفرت عن فوز ساحق لحزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» الذي تتزعمه أونغ سان سو تشي، والتي تم اعتقالها صحبة عدد من قيادات الحزب والشخصيات المدنية في الحكومة.
وذريعة التزوير لا تصمد أمام المنطق البسيط، بالنظر إلى عدد المقاعد الضئيل الذي أحرزه واجهة الجيش حزب «التضامن والتنمية» والذي لم يتجاوز 33 مقعداً مقابل الحزب الحاكم الذي فاز بـ396 مقعداً. كذلك فإن الانتخابات شهدت أصلاً تغييباً فاضحاً لعدد غير قليل من الإثنيات المسيحية والمسلمة التي قررت مفوضية الانتخابات حرمان مناطقها من التصويت، متذرعة بأنها لن تشهد اقتراعاً نزيهاً. ومن الغريب أن الجيش كان قد أقر ضمناً بنتائج هذه الانتخابات، ومن بينها نسبة الـ25٪ المخصصة له، وذلك في جلسة مبكرة عقدها البرلمان الجديد بعد انتخابه بوقت قصير.
قيادة الانقلاب الراهن كررت الذرائع ذاتها التي سبق أن ساقتها قيادات الجيش البورمي التي حكمت البلاد منذ استقلالها عن الاستعمار البريطاني في سنة 1948، كما أعادت تكرار الأسطوانة ذاتها التي عزفها قادة انقلاب 1962 عندما أسقطوا حكومة وليدة لم تتمتع إلا بعقد واحد من الحكم المدني. وهكذا تولى قائد الجيش الحالي استلام السلطة الفعلية وأعلن فرض حالة الطوارئ لمدة عام وتعهد بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، لكن الجيش في الآن ذاته شن حملة اعتقالات واسعة النطاق وعطل البث التلفزيوني وتقطعت خدمات الهاتف والإنترنت وحركة المطارات، كما ألمح قائد الانقلاب إلى احتمال إبطال دستور 2008.
وهكذا يعود الجيش عن تعهد قطعه سنة 2015 بإرساء حياة ديمقراطية مدنية، يظل فيها للجيش نفوذ واسع في الحكم مع ذلك، أسفر في حينه عن إنهاء 15 سنة من الإقامة الجبرية التي فُرضت على أونغ سان سو تشي، وهذا الخيار في المقاومة السلمية أكسبها شعبية سياسية وأخلاقية داخل بلادها وفي العالم بأسره، ومنحها جائزة نوبل للسلام سنة 1991. لكنها خسرت مقداراً غير قليل من تلك المكانة حين وقفت لاحقاً إلى جانب الجيش في الحرب العرقية والعنصرية والدينية التي خاضها ضدّ أقلية الروهينجا من المسلمين، والذين لم يُحرموا من المواطنة والتصويت والحقوق المدنية فقط، بل هُجرت أعداد كبيرة منهم خارج البلاد بلغت أكثر من 900 ألف بين طفل وامرأة وشيخ، وأما من بقي منهم فقد حُجزوا في مخيمات لجوء أو وقعوا في تقاطع نيران بين الفئات الإثنية المتقاتلة في ميانمار.
وكان مدهشاً تماماً، وصاعقاً أخلاقياً، أن تقف أونغ سان سو تشي نفسها أمام محكمة الجنايات الدولية في أمستردام، أواخر العام 2019، كي تدافع عن ضباط متهمين بجرائم حرب طبقاً لقرارات أممية وتقارير عشرات المنظمات الحقوقية والإنسانية، وأن تنزه الجيش عن ممارسة التطهير العرقي بحقّ أقلية الروهينجا. وعلى نحو أو آخر تبدو حاملة نوبل للسلام وكأنها اليوم لا تدفع مجدداً ثمناً شخصياً فادحاً لقاء اصطفافها خلف جيش عريق التاريخ في الانقلابات وجرائم الحرب فحسب، بل تخاطر باقتياد ميانمار إلى دائرة عنف داخلية أهلية جديدة أشدّ وطأة من دوائر الماضي الدامية.
القدس العربي